في إضافة تثير التفكر على الرؤية الماركسية للتاريخ، باعتباره تقدما مطردا مؤسسا على صراع الطبقات، وتطور علاقات الإنتاج الاجتماعية، اقترح الكاتب التركي حكمت قفلجملي إضافة عنصر تاريخيّ – اجتماعي آخر، لديه قوة محركة لتغيير التاريخ: زحف القبائل البدوية نحو المدن والحواضر.
كان باعث قفلجملي بالتأكيد هو تأمله في التاريخ التركي نفسه، ومحاولته تركيب الرؤية الخطية الماركسية التقليدية، على خريطة تمدد قبائل الأوغوز من أواسط آسيا باتجاه الأناضول والبلقان وأوروبا والبلدان العربية، وانتباهه إلى أن هذه الفرضيّة يمكن بسهولة استعارتها للتطبيق على مجمل التاريخ البشري، فتكوين البلدان والمدن الصغيرة يمكن فرضيا أن ينشأ من تكاثر عشيرة أو قبيلة، ولكنّ الأغلب أن يتم عبر اجتماع قبائل، إما بالتحالف على عقيدة معينة (وهنا يأتي دور الدين، أو العقائد إجمالا، المهم في تكوين المدن ثم الامبراطوريات)، أو عبر الغزو والاستلحاق والأسر، وبهذا المعنى فإن زحف القبائل والعشائر وهجمات البدو على الحضر (الذين كانوا أيضا بدوا بمعنى ما)، والجماعات الجديدة الناشئة على القديمة التي سبقتها إلى التمدن والتحضر، لم تتوقف أبدا، في كل اتجاهات المعمورة.
من السهل تطبيق هذه الفرضية على اجتياح قبائل العرب للعراق والشام وفارس خلال الفتوحات الإسلامية، وعلى هجمات القوط والفاندال على الإمبراطورية الرومانية، والأنغلو ساكسون والنورمانديين على بريطانيا، كما يمكن أن نقوم بتعديل المفهوم، ليشمل الدول الحديثة التي امتلكت العصبية التي تحدث عنها ابن خلدون، وأضافت عليها عناصر التكنولوجيا الحربية، كما حصلت في اتحاد مملكتي فرناندو وايزابيلا حين «اكتشفت» سفنهما، التي قادها كريستوفر كولومبس، أمريكا، وقبائل الأنغلو ساكسون والغال (بريطانيا وفرنسا) حين غزت بقية أنحاء العالم.
رئيس فنزويلا بثياب العثمانيين
تتخذ هذه الأطروحة أهمية في تحليل مسلسل «قيامة أرطغرل»، الذي تقع أحداثه في القرن الثالث عشر، والذي يصور بشكل ملحمي مقدمات تأسيس الدولة العثمانية، من خلال عرض سيرة بطولية لحياة أرطغرل بن سليمان شاه، والد عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية، وقائد عقيدة الزحف المقدس في قبيلته قايي، ما أدى لانشقاقه عن القبيلة الأساسية وانطلاقه نحو حدود بيزنطة.
أحداث المسلسل هي وقائع درامية من نوع «الأكشن» التاريخي، وقد بدأ عرض أول حلقاته في 2014، قبل أن يصبح مسلسلا شهيرا، حضره ثلاثة مليارات مشاهد في العالم، وبث عبر شاشات 71 دولة، وتمت دبلجته إلى 25 لغة مختلفة، وبلغت إيراداته نحو مليار دولار، بحيث تحوّل إلى معلم مؤثر وجاذب سياحيا وسياسيا، فحسب ويكيبيديا أن موسيقى المسلسل، وأنشودة «ثورة وطن» استخدمت في تظاهرات لبنانية، وقام ناصر الغزاوي بتحويل موسيقى المسلسل إلى أنشودة خاصة بفلسطين، وقامت الأوبرا الملكية البحرينية بتقديم معزوفة المسلسل، كما أن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، زار موقع التصوير والتقى ممثلي المسلسل، وأخذ وزوجته صورة مع الممثلين مرتديا قبعة قبيلة البطل، وحاملا سيفه واستخدم مطرقة الحداد الشهير في المسلسل.
أخبرتني فتاة تركيّة أن أقارب لها، لديهم معمل ثياب في إحدى المدن التركية، انشغلوا بعد ظهور المسلسل بإنتاج خط ملابس مستوحى من ملابس ممثلي المسلسل، وأن الكثير من إنتاج هذا المعمل كان يذهب إلى دول الخليج العربي، وذلك قبل أن تتفاعل الأحداث «الدراميّة» السياسية الشهيرة في المنطقة، وتتصاعد موجة تحشيد جديدة لا تناهض الدولة التركيّة وسياساتها الخارجية فحسب، بل تناهض كل ما يمتّ بصلة إلى التاريخ والدراما التركيتين، وصولا إلى مطالبات بمقاطعة الثياب والمنتجات التركية، وقد وصل الأمر إلى حدود مبتذلة وسخيفة مع رفض أحد أمراء السعودية شرب قهوة لأنها تركيّة، أو استبدال اسم البرغر التركي بالبرغر اليوناني، ولا نعلم، في ظل وجود أمراء كثيرين يحملون اسم تركي هل سيقوم هؤلاء بتغيير أسمائهم أيضا؟
من أرطغرل إلى أردوغان
إحدى المفارقات الطريفة، في هذا السياق، أن اسم بطل المسلسل لا ينطق كما نكتبه في العربية (أرطغرل) بل يلفظ أرطورل، لأن حرف الغاء في التركية، كما في كثير من لغات العالم المنطوقة حاليا، لا يلفظ في كثير من مواضع الكلام.
يجد المتأمل في السياسة التركيّة الحالية لحزب «العدالة والتنمية»، ورئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان (التي تنطق بالتركية إردوان!) طرق اشتغالها الرئيسية قريبة جدا إلى الدراما الشهيرة، فما هي دلالة هذا الأمر، وهل إن الدراما الشهيرة تلك (ونظائرها) أثرت فعلا في طريقة رؤية أردوغان وحزبه لشؤون تركيا والعالم، أم أن الدراما صيغت بطريقة تتناسب مع آليات السياسة وطرق التفكير الحاليّة السائدة؟
يرتكز صعود أرطغرل في المسلسل على عصبيتين أساسيتين يصعب فصمهما: القبيلة (الأسلاف من الأوغوز الذين انطلقوا من سهوب آسيا الوسطى)، والدين، الذي لا ينظم رؤية القبيلة لنفسها والعالم فحسب، بل يعطيها أيضا خصوما تعرّف نفسها بالتضاد معهم: المغول الوثنيون، من جهة، وفرسان الهيكل، من جهة أخرى. يجب، حسب هذه الأخطوطة، أن تتحد قبائل الأوغوز معا، وأن تخضع للسلطة السياسية الأكبر المنبثقة عنها، وهو ما يفسّر الولاء الذي يبديه أرطغرل وقبيلته للأيوبيين في حلب، وللسلاجقة في قونية، ولا يكسر هذا الولاء سوى خيانات المتحالفين مع عدوّي القومية والدين، وحين تصبح المفاضلة امتحانا تصعب تسويته بين القناعات القومية ـ الدينية والولاء، يخرج أرطغرل بجمع من المؤمنين بأن رسالة القبيلة الدينية (أو الأمّة التي ليس من المصادفة أن نظيرها التركي هو: الملّة)، هي الهجرة لفتح أراض جديدة، فيصبح خارج إمبراطورية السلاجقة من دون أن يوقف تعاونه معها، ولا انتقاداته لوزير السلطان الأول «الخائن».
التحالف مع المغول وفرسان الهيكل
تحضر الخيانة كمعطى مستمرّ، ولا يفتقد «الخونة» لمبررات تبرر تصرفاتهم، وبوجود الخيانة والأعداء الكثر، تحضر المؤامرات التي تجابه بالقوّة، وبالدهاء، وبالعناية الإلهية، التي يجسّدها حضور الشيخ ابن العربي، الذي يبدو شخصية أسطورية تؤمن التغطية الدينيّة المستمرة، وتساند أرطغرل وأتباعه عند الابتلاءات، بالحِكم المستمدة من سرديّة دينية شعبيّة، أكثر منها صوفيّة أو عالمة، وبحضور اسم ابن العربي المعبّر، وكذلك بذكر حواضر عربية مهمة، كدمشق وحلب والقاهرة وبغداد، يحصل سعي أرطغرل على شرعيّة مطلوبة ومهمة، بحيث تغدو تجسيدا مهما للفكرة المؤسسة في الإسلام التي تعتبر المؤمنين إخوة، وأن لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى إلخ.
ليس صعبا، بعد ما ذكرناه، وضع اليد على عناصر التشابه في ممارسة دراما أرطغرل للسياسة، ونظمها أقنومي الأمة والدين في منظومة واحدة، مع ممارسة أردوغان وحزبه للسياسة. ولعلّ متابعي المسلسل الدرامي والأحداث السياسية الراهنة ستستشكل عليهم الفروق بين الدراما وما يحصل لتركيا سياسيا حاليّا، سواء من حيث اشتباك القومي بالديني، أو من حيث الصراع على جبهات متعددة وأعداء كثر، أو من حيث الرؤية العامة للعالم، باعتباره خصوما وجوديين، من دون أن ننسى عناصر أخرى مهمة، كقضية الانقلابات العسكرية، كما فعل كوردوغلو شقيق الدم لرئيس القبيلة في الموسم الأول، أو في وجود «الخونة» في أعلى المناصب، كما هو حال ناصر (لاحظوا المعاني الممكنة في الاسمين!) المسؤول الأمني – العسكري في دولة حلب الأيوبية، الذي هو جزء من شبكة فرسان الهيكل، وحال سعد الدين كوبك، وزير الدولة السلجوقية، الذي يتحالف مع المغول للانقلاب على السلطان.
*القدس العربي