تعودت لسنوات طويلة، وبشكل متزامن، على متابعة أعمال فنية ووثائقية، تتناول حقبا تاريخية مختلفة، لشعوب متباعدة كثيرا في الجغرافيا والتقاليد، وكذلك قراءة كتب بحيث يصدف أنني أتابع كتابا، ثم أقرأ في كتب أخرى، قبل أن أعود للكتاب الأول أو الثالث، في طريقة اعتبرتها مفيدة لتدريب الدماغ على رؤية المفارقات التاريخية والاجتماعية الهائلة في اشتباكها بواقع جغرافي أو تاريخي ما، مقارنة بوقائع جغرافية وتاريخية أخرى.
وكما يمكن أن نرى، عند متابعة الأعمال الأدبية والفنية عوامل أزلية وقواسم مشتركة بين البشر، يدخل فيها مثلا تأثر البشر المعاصرين بالملاحم والقصائد والأعمال السحيقة في قدمها، والإيمان بالسرديّات الدينية القديمة، كذلك نرى الاختلافات البينة بين الثقافات، واللغات، وردود الفعل البشرية، حين تتخذ شكل البيئة التي تزرع فيها ثقافيا وجغرافيا وسياسيا، بحيث يظهر الاختلاف الثقافي وتخضع العناصر «الخالدة» لـ«تثقيل» و«تقطير» بيئي وثقافي، يربطها بعناصر أكثر قدما، أو بعناصر تقتضيها الطبيعة والجغرافيا والاجتماع.
يستطيع البشر التعاطف والتماهي مع شخصيات ماتت منذ مئات أو آلاف السنين، حتى لو كانت من ثقافات مختلفة عن ثقافاتنا، وهم يتفاعلون مع روايات تاريخية أو مستقبلية أو فانتازية، كما لو أنها تخصهم وتعيش معهم، لأن تلك الشخصيات تستطيع كشف هذه العوامل الإنسانية العابرة لحدود التاريخ والجغرافيا والاجتماع والشعوب والطبقات.
تابعت خلال الأشهر الأخيرة عينة يمكن اعتبارها عشوائية، تضم باقة مسلسلات تتحدث عن تواريخ شعوب مختلـــفة، كان أولها مسلسلPeaky Blinders البريطـــاني، الذي تبدأ أحداثه في مدينة برمنغهام بعـــد الحرب العالمــية الأولى، ومسلسلا كــوريا عنوانــه الإنكليــزي هو Rookie Historian الذي تجري أحداثه في بداية القرن التاسع عشر، ومسلسل «ممالك النار» الإماراتي الذي تدور أحداثه في الأعوام التي سبقت هزيمـــة المماليــك (مرج دابق عـــام 1516) كما أتابع حاليا مسلسلا تركيا شهيرا هو «قيامة أرطغرل» الذي تدور قصته في القرن الثالث عشر، ومسلسل Harlots البريطاني، الذي تبدأ أحداثه في لندن عام 1763.
إضافة إلى مئات السنين التي تفصل بين أحداث هذه المسلسلات، والتباعد الجغرافي بين البلدان التي تجري فيها، فقد اشتغل على أنواع الدراما هذه، كتاب ومخرجون وممثلون مختلفون اختلافا بينا، لكن هذه الاختلافات التاريخية والثقافية والجغرافية، لا تمنع من وجود الكثير من العناصر المشتركة، سواء لأسباب دراميّة، وهو ما يدخل في عنصر النقد الأدبي والفني، أو لأسباب أخرى من المفيد اكتشافها.
دراما تركيّة ضد الأتراك
ينسج «قيامة أرطغرل» سيرة دراميّة بطولية لمؤسس الدولة العثمانية على خطوط السرديّات القومية والدينية لقبائل الأوغوز التركية، ولكن ضمن قصتي حب بين ابن رئيس قبيلة قايي، أرطغرل، وحليمة حفيدة البيت المالك السلجوقي، وليس غامضا، في هذا السياق، وجود تأويلات حديثة لتلك القصة التاريخية، ضمن سرديّات الأحزاب القومية والدينية التركية المعاصرة، وهو ما يتابعه في ذلك، وإن من جهة معاكسة، مسلسل «ممالك النار» الذي يبدو الشغل عليه، رغم التمويل الإماراتي والممثلين المصريين والسوريين واللبنانيين، نوعاً من السرديّة المعارضة للمسلسل السابق، غير أن المفارقة الكبيرة، أن المسلسل الإماراتي الموجّه بشكل هجائي ضد العثمانيين، يستخدم عناصر قارّة ومتمكنة في الدراما التركيّة، مع قلب للمسمّيات، فالفرقة السرّية الغامضة والشريرة، التي تدعم الملك سليم الأول العثماني تبدو نسخة من فرقة «فرسان الهيكل» التي تتقمّص هذا الدور الشرير في «قيامة أرطغرل» كما أن ينسخ «ممالك النار» قصة الحب بين أرطغرل وحليمة، ليصبح قصة حب بين طومان باي ونلباي، وبالتالي يمكن اعتبار «ممالك النار» بهذا المعنى، دراما تركيّة مقلدة موجّهة ضد الأتراك!
يتابع «المؤرخة روكي» قصة التحوّل الحديث لكوريا، عبر قصة حبّ أيضا بين المؤرخة غو هايريونغ (التي هي البطلة الرئيسية للمسلسل) والأمير يي ريم، الوريث الشرعيّ لأبيه الملك، الذي تم الانقلاب عليه وقتله، غير أن الحبكة هنا لا تتعلق بجريمة ضد ملك شرعيّ، بل أيضا بتزوير التاريخ الذي جرى، والذي يعتبر، حسب التقاليد الكورية التي يقدمها المسلسل، خرقا لمحرّم كبير جدا، يشبه الكفر والخيانة في مجتمعات دينية.
تتابع المسلسلات الثلاثة، حكاية صعود وهبوط تاريخية، تختلط فيها العناصر القومية والدينية لأطراف مهددين من أعداء كثيرين، ضمن علاقة بين مقاتل شاب وأميرة (في حالة «قيامة أرطغرل») وبين أمير وشابة مملوكة (في حالة «ممالك النار») وبين أمير وفتاة من الشعب (في حالة «المؤرخة روكي»).
آيكيز ونانسي: عقاب الأنوثة الفاعلة
تحضر مسألة الصعود الاجتماعي والنفوذ السياسي والمالي في المسلسلين البريطانيين أيضا، ففي «بيكي بلايندر» ينحدر أفراد العصابة الصاعدة، من مزيج مهجن بين أب أيرلندي وأم من الغجر (ولكنها أيضا أميرة في قومها!) في إقليم إنكليزي تقوم فيه صراعات قاتلة، تجمع أيضا بين النزاعات السياسية والقومية والدينية (السلطة الإنكليزية من ناحية، والجيش الجمهوري الأيرلندي والشيوعيين وغيرهم من جهة أخرى) ونزاعات مع عصابات يمينية متطرفة وإيطالية ويهودية، وتحضر النزاعات الجندرية (حيث النساء، المومسات وغير المومسات، هن بضاعة يمتلكها الرجل) وكذلك النزاعات الطبقية الحادة بين إقطاعيين وعامة الشعب، مع لمسات عنصرية، في مجتمع كان الرق فيه ما زال شرعيا.
من المصادفات الغريبة، أنه خلال مشاهدة متزامنة لمسلسلي «قيامة أرطغرل» التركي و«مومسات» البريطاني، أن بطلتين في كلا العملين تعرضتا لعقوبة الجلد بالسوط، وأن كلا البطلتين تحملان صفات يتّسم بها الذكور، فنانسي الإنكليزية تتلقى الزبائن المازوخيين الذين يرغبون في تلقي الضرب والإهانة، و«آيكيز» ابنة الحداد وأحد وجهاء قبيلة قايي الأوغوزية، هي أقوى المحاربات وتتقن القتال بالسيف والنبال، وتفرض حضورها على الرجال لإنقاذ حبيبها تورغوت، وكما تُهان نانسي وتشتم وهي تساط، تشتم آيكيز أيضا وتتهم في عرضها وولائها للقبيلة، فهل يمكن أن تكون، ولو بشكل غير واع لدى المؤلفين، شحنة الذكورة الزائدة سببا للعقوبة، وأن ترؤس نانسي لمظاهرة ضد السلطات، الذي يجعلها أكثر نساء اللحظة الدرامية شجاعة، وبطولة آيكيز وحبها المذهل، اللذين يجعلانها متفردة، يجعلهما على حدود القداسة التي تستوجب الإهانة والتدنيس؟
في «الخط الملكي» الحاضر في كل هذه المسلسلات، هناك حيّز كبير لاحتقار الملوك والملكيّة وربطها، أحيانا كثيرة، بالفحش والظلم الاجتماعي والخيانة السياسية، ومقابل صعود الأفراد العاديين إلى مقام البطولة، يهبط الملوك والمقربون منهم إلى حضيض كبير، يتمثّل في «مومسات» ليس في استخدام النساء كسلعة وحسب، بل كموضوع للقتل الجنسيّ الفاحش، وهو خيط مستمرّ ومحسوس في الأعمال الأدبية الإنكليزية، وبينما يثبت أرطغرل وحليمة، وآيكيز وتورغوت، وتوماس شيلبي وغريس بورغس، وغو هايريونغ ويي ريم، حضور الحبّ كرافعة للارتقاء الإنساني والاجتماعي، نحو أعلى مقام اجتماعي ممكن، يتزامن احتقار رموز الشرّ الدرامي للنساء وسوء معاملتهن مع انحطاط اجتماعي وإنساني.
بتشابك هذه الخطوط الاجتماعية والدينية والسياسية والعاطفية المتعاكسة، وبتفاعلها، وانقلابها، تخترق أنواع الدراما المحرّمات، ويتبادل أطرافها المواقع، وفي الوقت الذي نحظى فيه بالمتعة الفنية للمشاهدة، تتعرّض قناعاتنا لامتحانات شتى.
*القدس العربي