يعيد مؤرخون بذور الاشتباك بين الأزهر الذي هو مؤسسة لتعليم العلوم الدينية والشرعية، والجامعة التي تدرّس العلوم الحديثة، إلى فترة الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) التي تبعها بعد سنوات قلائل حكم محمد علي باشا عام 1805، ويمكن حتى رؤية العنصر العسكري، باعتباره نواة الدولة المصرية الحديثة، حيث بدأ محمد علي بإنشاء مؤسسات «تعليمية» متخصصة بتطوير المؤسسة العسكرية، بالتناظر مع إرسال البعثات العلميّة إلى الدول الأوروبية، وبدء تأسيس كلّيات علمية كالمهندسخانة عام 1820 والمدرسة الطبية عام 1827، اللتين أغلقتا في عهد الخديوي محمد سعيد لصالح إنشاء الجامعة المصرية في 21 ديسمبر/ كانون الأول 1908 (والتي سميت جامعة فؤاد الأول ثم جامعة القاهرة لاحقا).
هل يمكننا إدخال نقاش شيخ الأزهر أحمد الطيب، مع رئيس جامعة القاهرة محمد عثمان الخشت، خلال مؤتمر في الأزهر مؤخرا، ضمن هذا السياق التاريخي؟ أم أن له سياقا مختلفا؟
أثارت المساجلة موجة من الجدل والردود، ومالت كفّة الحماسة في وسائل الإعلام الرسميّة المصرية، كما هو متوقع، إلى نقد الطيب وإلى ممالأة الخشت، فالأول يرأس مؤسسة (الأزهر)، التي ظهرت عام 970، وتعتبر ممثلة للفكر الديني التقليدي، فيما تمثّل الأخرى (جامعة القاهرة) المؤسسة المعبّرة عن «الفكر الحديث» بفروعه المختلفة والمتعددة.
تبدو مشاركة الخشت في «مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي» طبيعية، فهو حسب كاتب صفحته على «ويكيبيديا»، قد «حصد مئات شهادات التقدير والدروع»، و»توجد مئات الآلاف من الإشارات المرجعية لمؤلفاته في الدراسات والمواقع الغربية»، إضافة إلى فيض غامر من الكتب لرئيس جامعة القاهرة والتبحر في قضايا فلسفة وتطور الأديان، وفكرته الجريئة عن «تأسيس عصر ديني جديد» (عنوان كتاب الخشت الذي كان في يد شيخ الأزهر خلال المساجلة التي دارت بينهما)، غير أن هذا الـ C V الخطير، لا يمكن في الحقيقة أن يعوّض عن فهم سياق آخر أكثر أهمّية بكثير لتفسير المعاني الحقيقية الكامنة وراء هذه المساجلة.
يجب، لأجل ذلك، موضعة «اختصاص» الخشت الفكري، ومواهبه الأخرى، في سياق صعوده إلى منصب رئاسة جامعة القاهرة، كما يجب فهمه أيضا ضمن سياق تزامن الاختصاص والصعود هذين مع الدعوات المتكررة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي لم يعد خطاب من خطاباته، وخصوصا إلى الشباب، أو في المناسبات الدينية، (بدءا من خطابه في يناير/كانون الثاني 2015 خلال احتفال الدولة بالمولد النبوي) يخلو من فكرة «تجديد الفكر الديني». ضمن هذا السياق بالضبط يمكن فهم الحماس الكبير الذي أبداه الخشت أثناء حملات «الانتخابات» الرئاسية المصرية، حين قام بتوزيع أعطيات وإعفاءات وهدايا بالجملة لطلاب جامعة القاهرة، مقابل انتخابهم للرئيس (كما لو أن تصويتهم سيحدث فارقا أو يغيّر النتيجة!) هاتفا فيهم: «مين بيحب مصر»، ومعلنا بين أوساطهم «إعفاء كل طلاب المدن الجامعية من مصاريف شهر رمضان»، وإجازة فترة الاستفتاء حتى عطلة الاحتفال بذكرى تحرير سيناء في 25 إبريل/نيسان، وإعفاء الطلاب الذين لم يسددوا رسوم الجامعة، وهو ما اعتبره مثقفون وأكاديميون فضيحة تسيء للتاريخ العظيم لجامعة القاهرة بتحويلها إلى منبر سياسي للرئيس الحاكم.
ترك السنّة أم التطرّف الشديد؟
كما لا يمكن فهم المناوشة الأخيرة بين مسؤولي الجامع والجامعة، من دون حضور ثقل المناوشات السابقة بين رئيس الجمهورية نفسه وشيخ الأزهر، كما حصل عند تعقيب الطيب على السيسي، الذي يختار المناسبات الدينية للحديث عن «التجـــديد الدينــي»، بتحذيره من «إنكار السنّة» ووصف منكريها بأن الشـــك والريبة يجمعهم، ما اضطر السيسي للتراجع خطوة والقول «أرجو ألا يفهم أحد كلامي على أنه إساءة لأحد» مشيرا إلى أن المشكلة هي «في القراءة الخاطئة لأصول ديننا» موضحا مقصده بالقول: «من أساء إلى الإسلام أكثر: الدعوة إلى ترك السنّة النبوية والاكتفاء بالقرآن فقط، أم الفهم الخاطئ والتطرف الشديد؟».
يُفهم من بيان السيسي المصاغ على شكل تساؤل أعلاه، أن على شيخ الأزهر أنه يقدّم مقايضة على الشكل التالي: إما أن تستمر الهجمات على الأشعري وصحيح البخاري، أو تقوم بتحويل الأزهر إلى فرع للأمن، وأن تستخدم نفوذك وطلابك كجزء من معاركي السياسية وتحالفاتي، فتتحوّل إلى بوق مثل أبواقي الإعلامية، ليس للهجوم على محمد مرسي والإخوان فحسب، بل كذلك لتقريظ تقربي من إسرائيل ومدح أصدقائي من الحكام العرب والأجانب وذم خصومهم، أي باختصار، التنكّب عن موقف الندّية الذي يوفّره لك تاريخ الأزهر والدين الإسلامي والانخراط كجندي في جيشي.
يقدّم تصوّر السيسي هذا لـ»تجديد الفكر الديني» الأطروحة الأساسية للنظم العربية في فهم الدين، باعتباره أحد مجالات احتكاراتها العديدة من السياسة إلى الاقتصاد والاجتماع، أولا، وفي فهم المؤسسات الدينيّة، ثانيا، باعتبارها مؤسسات لعبادة الحاكم، وكذلك في فهم طريقة هذه الأنظمة، والسيسي شخصيا، لكيفية إدارة المؤسسات التابعة لمنظومة الحكم عموما، وبهذا السياق الكبير يمكننا أن نفسّر مواقف الخشت، والحشد الإعلامي الرسمي الذي يخوض معركة «تجديد الفكر الديني» الافتراضية العتيدة.
فتنة تراثية أم سياسية؟
يفهم شيخ الأزهر طبعا المقايضة المعروضة عليه، ولذلك يركّز في ردوده التلميحية أو التصريحية على السياسة، ففي المساجلة المذكورة أشار إلى أن «الفتنة التي نعيشها الآن سياسية وليست تراثية»، وهناك تاريخ طويل لمناوشاته مع «خطاب التجديد» على الطريقة السيسية، بدءا من مطالبته عام 2013 بفتـــح تحقيق قضــــائي في قتل الجيـــش لعشرات المعارضين، ثم تبرئه من أحداث فض اعتصام رابعة في العام نفسه، ورفضه استخدام الأزهر عام 2013 في الصراع بين السلطة والتنظيمات المسلحة، وكذلك رفضه الخطبة الموحدة لكافة خطباء المساجد، ولم يوفّر السيسي من سخريته حين قال مرة إن «كيفية أداء الصلاة أمر متروك لرئيس الدولة، ويحدده بمشورة مستشاريه حسب الزمان والمكان»!
إحدى النقاط التي أثارها شيخ الأزهر خلال المساجلة الأخيرة كانت إشارته إلى تبعية مصر، والبلدان العربية، للغرب، وتأخرها الصناعي والتقني حيث قال: «نشتري الموت بفلوسنا ولا نستطيع صنع كاوتش (عجلة) سيارة»، كما أشار إلى «صفقة القرن» الجارية قائلا إن «شخصيتنا كعرب ومسلمين هي لا شيء الآن» مضيفا: «كنت في منتهى الخزي، وأنا أشاهد ترامب ونتنياهو يخططان ويقولان ويتحكمان ولا يوجد عربي ولا مسلم» يناهضهم).
يعكس السجال الجاري بين السلطة ومنظومتها من جهة، والأزهر من جهة أخرى، صراعاً على إنهاء الوزن الاستقلالي للمؤسسة العريقة، وعلى توظيف رأسمالها الرمزي في معارك النظام الحقيقية والمخترعة، ويوضّح السجال بين الطيب والخشت، أن الصراع ليس على المضامين «الفكرية» وعلى «التجديد الديني»، كما يدّعي رئيس جامعة القاهرة، بل على أشكال الاستتباع والاستخذاء والتوظيف المسيء لمؤسسات كبرى كالجامعة والجامع. وكما راكم الطيّب بعضاً (أو كثيرا) من المواقف التي تحتسب له في هذا الصراع، فإن الخشت الذي يجلس على كمّ كبير من الكتب والمنجزات، هو نفسه الذي عقد حفلا كبيرا لطلاب الجامعة استضاف فيه المغني محمد حماقي، فتحوّل من الأكاديمي الذي يعتبر مرجعاً، إلى ما يشبه «ميشو شو» يقدّم حلقة تهريج سياسي رخيص لفرقة حسب الله لـ»تجديد الفكر الديني».
*المصدر: القدس العربي