يعرض «جزيرة الحب»، أحد أشهر برامج تلفزيون الواقع في بريطانيا، مجموعة من الشبان والصبايا في منزل كبير معزول عن العالم، حيث يتنافسون على عرض أجسادهم البديعة، وعلى محاولة الاشتباك العاطفي والجنسي بين بعضهم بعضا، ليحوزوا على اهتمام جمهور هائل (أكثر من 7 ملايين مشاهدة لكل حلقة)، وليحصدوا أصواتهم، فيتحصل الفائزون على المال والشهرة والعروض التي تنهال عليهم.
تعرّض هذا البرنامج الناجح جدا (بدأ موسمه الخامس) قبل أيّام لهزّة كبرى جديدة، تمثلت بانتحار مقدمته كارولاين فلاك (40 عاما)، لتصبح بذلك الضحيّة الثالثة بعد صوفيا غرادون (32 عاما)، وقبلها مايك ثالاسيتيس (26 عاما)، اللذين كانا متسابقين في البرنامج.
أسباب الميتات الثلاث متشابهة، وهي على علاقة بقضايا الحبّ وتداعياتها الحديثة، المرتبطة بتأثير الميديا غير المسبوق على حيوات العشاق/ المشاهير الطارئين.
جاء نبأ الانتحار بعد يوم واحد من «عيد فالنتاين»، الذي أصبح القديس الأشهر في العالم لارتباط اسمه بالحبّ، وقد تزامنت مع المناسبة هذه، أنباء من أنحاء العالم تتشابك فيها قصص العشق مع أحداث الموت.
سائق التوك توك والمسعفة
إحدى الظواهر اللافتة كانت إصرار كثير من الشعوب التي تعاني من ظروف صعبة، كالعراقيين والإيرانيين والأفغان، على الاحتفال بالحبّ، وتناقلت وكالات الأنباء قصصا لطيفة، مثلما حصل مع شاب وفتاة وقعا في الحب، خلال وجودهما في الحجر الصحي، بعد إجلائهما من الصين، وعن تبادل العشاق في تلك البلاد لورود معقمة وقفازات ومطهرات، وعن قيام زوج صيني بإنارة الطريق المظلم في الثالثة صباحا لزوجته الممرضة الماشية في طريق مظلم لأنها ترفض الركوب معه وتعريضه لخطر العدوى والموت، وقرأنا قصصا من العراق منها خطوبة سائق «توك توك» إلى مسعفة خلال المظاهرات، ومن أفغانستان قصة انتخاب «فتاة عيد الحب»، ومن إيران عن محاولات السلطات منع مظاهر العيد هذه باعتبارها تعبيرا عن «ثقافة غربية».
هناك قصص عديدة لفلسطينيين نجحوا في تهريب نطافهم من عتمة السجون الإسرائيلية، كي تتمكن زوجاتهم من الإنجاب، وقصص أخرى عن سوريّات، توفّي عشاقهن في المعارك، فألفن جمعيّة لتبادل ذكريات العشق والموت، وفي كل الإحالات السابقة، يتكرر تساؤل: هل هناك علاقة وثيقة بين الحب والموت، ولماذا يترابطان؟
اعتُبر إيروس في الميثولوجيا الإغريقية إلها للحب الحميم والرومانسي، وقد نحت الكاتب النمساوي الشهير سيغموند فرويد مصطلح الإيروسية للتعبير عن غريزة الحياة التي تتضمن الغرائز الجنسية، ودوافع العشق، والاندفاعات الغريزية المهمة لبقاء الإنسان حيّا، ويقابله ثاناتوس، إله الموت، المرتبط بدوافع الموت، وهذا الثنائيّ المتقابل لا يضع الحب مقابل الموت فقط، ولكنّه يضمّن في الحب كل الغرائز الحيوية الداعية للبقاء على الحياة، فيما يضمّن في الموت كل نوازع التخريب والتدمير والأذى، وهذا ما يوسّع أفق ومعاني الظاهرتين، لكنّه يشير إلى وجودهما معا في النفس البشريّة، ليس كصراع فقط، ولكن كتجاور وتبادل ممكن للأمكنة.
كان تحليل فرويد للساديّة هو ما دفعه لافتراض وجود دافع تدميري لدى الإنسان بحيث نحصل على ثنائيّة بشريّة تضم دوافع الحب والموت معا، وينتبه جورج باتاي، الكاتب الفرنسي، في كتابه «الإيروسية» إلى المركيز دو ساد بدوره، فيستعيد منه فقرة تقول إنه «لا يوجد شخص متحرر جنسيا، ومنهمك في الرذيلة إلى حد ما، لا يدرك كم للقتل من سطوة على الحواس»، ويشرح باتاي بعدها كيف يرتبط الحب بالعنف، بدءاً من الخليّة الأولى التي يشكّلها اندماج الحيوان المنوي مع البويضة، وهو اتصال يؤدي لتكوين كائن جديد، انطلاقا من موت وتلاشي كائنين منفصلين، ومن الإنجاب الذي يؤدي «إلى انفصال الكائنات، لكنه يعرّض اتصالها للخطر، كونه مرتبطا ارتباطا قويا بالموت»، كاشفا أن «اتصال الكائنات والموت كلاهما يتساويان في الفتنة».
يصعب علينا أن نجد سرديّة بشريّة، منذ الملاحم القديمة للإنسانية، كجلجامش والإلياذة والأوديسة، وصولا إلى الفلسفات والفن والروايات والأفلام، قضية لا يتجادل فيها مفهوما الموت والحب، فالحياة البشرية تقوم عمليا على تفاعل هاتين الظاهرتين.
أعددت لي قبل أن ألقاك أكفانا
تدفع مكابدة العاشق به نحو أحوال عنيفة، فيبدأ بالعذاب، وينتهي أحيانا إلى الجنون (مجنون ليلى/مجنون إلزا إلخ)، وهذه المكابدة وأحوال الخطر تقرّبه أيضا بشكل حثيث من الموت، وهناك قصص إنسانية شهيرة تدور حول هذين الموضوعين، كما في «روميو وجولييت» اللذين ينتحران ليلتقيا في العالم الآخر، وفي مئات الروايات الشهيرة، مثل «أنا كارنينا» و»مدام بوفاري» و»عشيق الليدي تشاترلي» و»الحب في زمن الكوليرا».
معلوم استخدام اللغة العربية، كما في لغات أخرى، استعارة الموت حبّا، وهناك روايات وأفلام بهذا العنوان، كرواية بيار دوشين الشهيرة، وأغنية شارل أزنافور Mourir D’aimer، وفيما يقدّم هذا الموضوع في أغلب الأعمال تراجيديا، فهناك أيضا أعمال خفيفة وكوميدية، كما فعل وودي ألان في فيلمه «الحب والموت» (1975) الذي يسخر من تناول الأعمال الكلاسيكية الروسية لهذا الموضوع.
هناك أمثلة عن تناظر هذين الموضوعين في الشعر العربي القديم حديث عنترة عن ذكره عبلة «والرماح نواهل» و»بيض الهند تقطر من دمي»، وجميل بثينة الذي يقول إن «كل قتيل» عند من يحب «شهيد»، وجرير عن عيون الحبيبات اللاتي «قتلننا ثم لم يحيين قتلانا» و»لو كنت أعلم أن الحب يقتلني أعددت لي قبل أن ألقاك أكفانا»، وأبو فراس الحمداني الذي يقول لحبيبته إنه «قتيلك قالت أيهم فهم كثر».
إضافة إلى قصص عنتر وعبلة وقيس الملوّح وليلى وجميل وبثينة، فلعل أكثر القصص تعبيرا عن هذا الترابط الكبير بين الحب والموت قصة الشاعر عبد السلام بن رغبان، المسمّى ديك الجن الحمصي، الذي قام بقتل حبيبته (ورد) النصرانية، نتيجة مكيدة من ابن عمّ له، ثم اكتشف خطيئته وقضى باقي حياته يكرر أشكال الحزن والندم والألم عليها، غير أن الأسطورة الأكثر كشفا وإثارة للتأمل في هذه الحكاية هي ما ذهب إليه رواة سيرته من أن ديك الجن قام بصنع كوز أو كأس من رماد حبيبته ظل يشرب منه مدى حياته، وهناك قصة وضاح اليمن، الذي يقال إنه قتل بسبب بعد أن وجد مختبئا في غرفة زوجة الملك!
ولعل المثال الخالد في الأدب العربي (والإنساني) هو «ألف ليلة وليلة» حيث تدور الحبكة عن شهرزاد المهددة بالقتل بعد ليلة دخلتها على الملك شهريار، والتي تقوم بنسج قصة حب مع الحاكم المعطوب تنتج عنها أجمل الحكايا، ويتوقف مسلسل قتل العذراوات.
تؤكد هذه الأمثلة كلّها ارتباطا وثيقا بين الحب والموت، لكنّها بقدر ما تكشف هذه الظاهرة، بقدر ما تجعلها غامضة وغير مفهومة، بدءا من جعل الحبّ، كما فعل فرويد، بجعله جزءا من منظومة الأيروسيّة الحسّية، وبالتالي عدم التعاطي معه كظاهرة فريدة وخاصة، على ما أعتقد، بالجنس البشريّ، أو كما فعل باتاي بدوره الحب، أيروسيّة القلوب (في ما اعتبر الجنس أيروسية الأجساد)، وبذلك جعله تابعا بدوره.
وإذا كان إتباع الحب بالأيروسيّة إشكاليّا، فإن مفهوم الحب الأفلاطوني لا يقلّ إشكاليّة، ولعل كتاب «الحب والحب العذري» لصادق جلال العظم من الدراسات التي حاولت دراسة الحب، كما هو عليه، وليس عبر موشور فلسفي، حيث يعتبره، بعد عبوره طور الانجذاب الجنسي، يشمل كيان الإنسان، جسدا وعقلا وروحا.
*المصدر: القدس العربي