يمكن ربط جزء من الملحمة الجزائرية ـ الفرنسية المستمرة بـ«أثر الفراشة»، حيث يغيّر حدث طفيف وقائع التاريخ، إلى الأبد. غير أن الحدث تعلّق هذه المرة بحشرة تدعى فيلوكسيرا التي قضت على صناعة الخمر الفرنسية عام 1836.
كانت فرنسا قد احتلت الجزائر قبل 6 سنوات، فبدأ مزارعو العنب ينتقلون، بعشرات الآلاف، وما لبثوا أن أغرموا، كما فعل بطل ألبير كامو «الغريب»، بالشمس والبحر والضوء في الجزائر.
في عام 1930، خلال احتفال فرنسا بمئوية الاحتلال كانت الجزائر، البلد الذي سكانه غير الفرنسيين من المسلمين، أكبر مصدّر للخمر في العالم بقرابة مليار لتر سنويا. كان عمّ كامو يعمل في المصانع الكثيرة التي تنتج براميل الخمر، وكان الأديب الذي حاز جائزة نوبل، «جزائريا» بالولادة، وفي روايته، التي اعتبرتها أجيال من الوجوديين، بمن فيهم العرب، أيقونية، يقتل المستوطن عربيّا لا يعرفه كان يتمشى على الشاطئ. احتلال الجزائر، على عكس الاحتلالات الفرنسية، أو الأوروبية الأخرى، لم يعد احتلالا عابرا، بل استيطانا خلط أوراق الشعبين بطريقة لا يمكن فصمها. القصة، على أية حال، مليئة بالآثار، وأحدها لا يشبه أثر الفراشة، بل الجرح الطويل.
المظلّي في الجزائر ـ الفاشي في فرنسا
في إحدى ليالي آذار/مارس 1957 هاجمت مجموعة يقارب عددها 15 إلى 20 من العسكريين الفرنسيين بيتا في أحد أحياء العاصمة، حيث قامت بتعذيب والد الأسرة، أحمد رولة، وقتله أمام زوجته وأبنائه الستة. زعيم المجموعة كان طويلا وقويا وأشقر الشعر، استخدمت المجموعة أسلوب الإغراق بالماء والصعق بالكهرباء ثم أنهوا التعذيب بذبح أحمد، احتفظ محمد أحد أبناء القتيل، الذي كان بعمر 12 عاما حينها، بالسكين مخبأة وراء عداد الكهرباء في المنزل، إلى أن أصبحت، بعد عقود طويلة، دليلا رئيسيا في دعوى قضائية. على مقبض السكين، كان محفورا: ج. م. لوبين – كتيبة المظليين البحرية الأولى. سيؤسس جان ماري لوبين لاحقا «الجبهة الوطنية» ويغدو زعيما لليمين الفاشيّ الفرنسي، وستصبح ابنته مارين لوبين، زعيمة بعده.
فلورنس بروجيه بدأت بجمع خيوط حكاية جان ماري لوبين، الذي أنكر واقعة السكين ورفع دعوى قذف وتشهير ضد الكاتبة التي قررت إعادة السكين إلى فرنسا كدليل على الجريمة، لتواجه معضلة إدخالها إلى باريس. طلبت بروجيه مساعدة سفيرين فرنسيين لكنهما قالا إن الأمر قد يؤدي لفضيحة حكومية. صديق عسكري لها نصحها بتغليفها بالرصاص لمنع كشفها في المطار، لكن موظفي المطار كشفوها وسألوها عنها فقالت إنها عمل فني. لم يكن موظف المطار غبيا، وعندما رأى موظف المطار الاسم المحفور على مقبض السكين قام بعدة اتصالات، ثم تركها تخرج بالسكين. خسر لوبين الدعوى، والسكين الآن موجودة في متحف في الجزائر!
لا يمكنك أن تشن حربا على بلدك!
بدأت جبهة التحرير الوطني الجزائرية عملياتها في تشرين الثاني/نوفمبر 1954. كانت رؤية الحكام لقمع تحرر الجزائريين مختلفة عن رؤيتهم للقتال في بلاد أخرى مثل فيتنام أو سوريا أو المغرب، فالجزائر، التي كانت تحت حكمهم لمئة وعشرين عاما، كانت «فرنسية»، وبالتالي فإن ذلك كان بالنسبة لهم، كما يقول المؤرخ جوليان جاكسون قمعا لـ»تمرد داخلي. لا يمكنك أن تشن حربا على بلادك!».
كان هناك مليون مستوطن في الجزائر وكان الكثير منهم من عائلات تأسست عبر أجيال، وفي تلك الحرب وهو ما جعل الطرفين يتحاربان وجوديا بشكل مرعب.
استقدمت السلطات، لمواجهة «التمرد الداخلي»، قرابة نصف مليون مجند كان أغلبهم أطفالا خلال فترة الاحتلال الألماني لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، ومع اقتحاماتهم للشوارع والبيوت، كما تقول رافاييل برانشي، في كتاب صدر مؤخرا بعنوان «فرنسا في حرب»: «تردد صدى بينهم لممارسات الاحتلال النازي في بلدهم. كانوا على الجانب الخطأ من التاريخ».
ديغول: أيها الفرنسيون تعالوا لنجدتي!
في أيار/مايو 1958 كان شارل ديغول، الشخصية العسكرية الفرنسية الأشهر في الحرب العالمية، متقاعدا خارج السياسة حين حصلت أزمة حكومية. أحس الضباط بأن الحكومة على وشك الاستسلام في الجزائر وقاموا بما يشبه الانقلاب. أسسوا «جمعية السلامة العامة»، وخططوا لإنزال مظليين في باريس نفسها. بدا ديغول حلا وسطا للسياسيين من تطرف الجيش في الجزائر، كما بدا حلا للعسكر من السياسيين، وبالتالي فقد اعتبر «منقذا» للطرفين. ذهب ديغول إلى الجزائر وخطب في المستوطنين قائلا: لقد فهمتكم! لكن الحقيقة أن حرب الجزائر لم تكن على رأس أولوياته. لقد كان هناك، كما يقول جاكسون لـ»يعيد عظمة فرنسا» ويضعها في صدارة المشهد العالمي مع أمريكا والقوى الكبرى الأخرى عبر التقارب مع ألمانيا والأوروبيين. كان ما يحصل في الجزائر، بالنسبة له، تسميما لفرنسا وبذلك أصبح عدوا للجميع، والضباط الذين جاؤوا به في انقلاب 1958 قرروا القيام بانقلاب آخر عام 1961 وامتلأت البلاد بإشاعات عن هبوط المظليين في باريس، وحاصرت الدبابات المؤسسات الرسمية.
ظهر ديغول بالظهور على التلفزيون باللباس العسكري مخاطبا أولئك الضباط المتقاعدين بازدراء شديد، وأصدر أمرا بإعلان القوات العسكرية ولاءها له ومنهيا خطابه بالقول: أيها الفرنسيون والفرنسيات تعالوا لنجدتي! انتهى الانقلاب لكن حرب المستوطنين والجزائريين استمرت داخل فرنسا.
نحن الجزائريين غرقنا هنا!
في بداية حقبة ديغول الجديدة تلك، وفي 17 تشرين الأول/أكتوبر 1961 قرر الجزائريون المقيمين في باريس النزول في مظاهرات ضد حظر التجول الليلي الذي أقامته السلطات ضدهم. 21 ألفا من الشرطة وقوات مكافحة الشغب أغلقوا وسائل المواصلات العامة لكن عدة آلاف وصلوا. تعاملت السلطات بوحشية وجرت مجزرة لم تحصل في أي دولة أوروبية أخرى. أحد هتافات المتظاهرين السلميين هو: الحرية للجزائر. كانت الحرب الجزائرية، مرة جديدة، موضوعا فرنسيا داخليا، ورغم قتل العشرات وطرد الآلاف من فرنسا، فإن الحرب لم تنته. تعامل الجمهور الفرنسي مع المجزرة بالتجاهل والإنكار، وكذلك فعل ديغول. لكن الجثث التي كانت تطفو على مدار الأيام والشهور التالية كانت تعيد تذكير الباريسيين بما حصل، وكذلك كتابات الغرافيتي التي كانت ترسم على الحيطان ويتم محوها: نحن الجزائريين غرقنا هنا!
أسس العسكر، الذين اعتبروا أن ديغول خذلهم، ما سمي «الجيش السري» الذي بدأ بتنفيذ عمليات ضد المؤسسات الرسمية، وعدة محاولات اغتيال لديغول، خلّد أحدها في الفيلم الشهير «يوم ابن آوى»، حين أمطر «الجيش السري» سيارة ديغول الستروين الشهيرة. نجا ديغول من الاغتيال وأعدم قائد المحاولة.
وقع ديغول في آذار/مارس 1962 اتفاقية إيفيان مع جبهة التحرير منهيا احتلالا دام 130 عاما، وعاد مئات آلاف المستوطنين، الذين ووجهوا بجو عدائي واعتبارهم طابورا خامسا وسببا للحرب. أحد هؤلاء، لوران بونفيس، الذي ظهر على برنامج «ظلال الجزائر» في القناة الرابعة الإذاعية البريطانية، قال إنه كان في الثانية والعشرين ولم يكن يفهم كيف أن الجزائر لم تعد بلاده. ذهب لاحقا إلى الجزائر ودق على باب المنزل الذي كان يسكن فيه وقال للمرأة التي ظهرت على الباب: هذا بيتي. والدي وجدي ولدا هنا فطردته. استقر أغلب أولئك جنوب فرنسا حيث الطقس الأقرب للجزائر، وصاروا يتعاملون مع تلك البلاد على أنها فردوسهم المفقود. لقد اعتبروا ما حصل نفيا لهم إلى فرنسا وأن الدولة الفرنسية خانتهم.
يلعن أبوك يا فرنسا!
كان مصير الحركيين، الجزائريين المتعاونين مع المستوطنين، أسوأ بكثير، فقد اعتبرهم ديغول «غير فرنسيين» ويجب أن يبقوا هناك، قتل عشرات الآلاف منهم في الجزائر وتمكن قرابة 90 ألفا من الفرار لفرنسا. شرح أندرو هاسي، وهو أكاديمي بريطاني يقيم في فرنسا، في كتابه «الانتفاضة الفرنسية» ظاهرة الحرب بين فرنسا والعرب وقام فيه بربط اعتناق شبان فرنسيين من أصول عربية لأفكار «الإسلام الراديكالي». هوجم الكتاب من قبل اليسار الفرنسي، وقام الناشر بإلغاء طبعه.
بالنسبة لهاسي كانت العلاقة بين ما يحصل في فرنسا في العقود الأخيرة والحرب الفرنسية ـ الجزائرية واضحة لكنه اكتشف أن هذا موضوع محرّم لدى اليسار الفرنسي وهو ما يسميه «الصندوق الأسود للتاريخ الفرنسي» الذي يحتوي المعلومات التي لم يتم تحليلها بعد. يلفت هاسي الانتباه إلى أحد الشعارات التي يستخدمها المتظاهرون المغاربيون في فرنسا وهي «يلعن أبوك فرنسا»، ويحلله باعتباره لعنة ضد فرنسا وميراثها وكل الحضارة الغربية. لقد حصل تحوّل على «الحرب الأهلية» الجزائرية ـ الفرنسية، وانعكس ذلك على سياسات اليمين (واليسار) الفرنسي بالعلاقة المعقدة مع كل ما هو مسلم أو إسلامي الطابع، والإشكالية مع الدين، التي تمظهرت في الثورة الفرنسية، تحوّلت لإشكالية مع الإسلام والمسلمين. مع الأقليات الفقيرة والعاطلة عن العمل التي تنتشر فيها المخدرات والسرقات وقمع الشرطة، وغالبا ما تزيد حرارة هذا الجرح النازف منذ 1830 عند الانتخابات، كما حصل مؤخرا.
لقد تحوّلت المسألة إلى حرب أهلية مستمرة. مرارات الجزائريين ومرارات المستوطنين، وسكين لوبين، بهذا المعنى، ما تزال تقف فوق سياسات فرنسا والجزائر.
*القدس العربي