قررت مجموعة من طلاب وطالبات الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1965 أن تخطو خطوة «ثورية» في موضوع البشرية الأثير: الحب، ولمساعدة زملائهم في إيجاد الشريك العاطفي بدأوا تجربة سموها Operation Match «عملية التوافق العاطفي».
كان على الراغبين في ترتيب لقاء مع شخص مناسب لعلاقة عاطفية أن يجيبوا على أسئلة ويدفعوا مبلـــــغ 3 دولارات، وكانت الأسئلة تتركز على إيجاد شبان وشابات متوافقين، وليس شـــركاء زواج، وكانت الأسئلة تشبه ما يحصل في اللقاءات الأولى بين الجنسين، التي تحاول كسر البرود والحواجز مثل «هل تؤمن بأن الله يستجيب للصلوات والدعاء؟» أو «هل تعتقدين أن الزواج يجب أن تسبقه علاقة جنسية طويلة؟».
مع تجمع عدد كبير من الراغبين بالتلاقي مع شريك مناسب اخترع مدير المجموعة أول خدمة توافق عاطفي رقمية. كانت الأجوبة تحول إلى بطاقات مثقبة ثم يتم معالجتها بكومبيوتر موديل IBM 7090 الذي كانت أجرته 40 ألف جنيه في الشهر (أي ما يعادل نصف مليون دولار بالقيمة المالية لذلك المبلغ حاليا). بعد أسابيع من ذلك يتلقى المشاركون قائمة من الأسماء وأرقام الهواتف، لأشخاص جاهزون للقاء بهم.
بعد ذلك اليوم لم يعد ترتيب لقاء عاطفي مع شخص مناسب مشكلا. لماذا عليك أن تخوض في إحراجات الأسئلة الأولى للعلاقة إذا كان الكومبيوتر يقوم بذلك عنك؟ وإذا أخذ المبرمجون معلومات كافية عما تحب وتكره والأمور التي تفضلها في الشخص الذي تريده فالنتيجة الوحيدة هي أن تجد الحب الذي تنتظره.
البرنامج المذكور توقف بعد سنوات لأنه كان سابقا لزمنه لكن إذا نظرنا ما حصل منذ خمسين عاماً حتى اليوم سنجد أن هذه الفكرة صارت صناعة راسخة تقدر قيمتها السنوية بعشرات المليارات، فبعد الانتشار الهائل للإنترنت في كل بقعة من بقاع الأرض، والهبوط الهائل في أسعار الكومبيوترات، أصبحت تطبيقات إيجاد الشريك العاطفي متوفرة في كل مكان، وحسب الأرقام فهناك قرابة مئة مليون شخص مسجل ضمن شبكات خدمات المطابقة العاطفية الرقمية.
غير أن الحكاية لم تنته هنا، فبرامج الكومبيوتر هي تطبيقات منطقية، تعمل على الوصول إلى نتائج محددة سالبة أو موجبة، فيما الحب لدى البشر لا يتعلق بالمنطق بل بالمفاجأة، وباللاعقلانية لا بالعقل، ويتأثر بمئات العوامل التي تحبب أو تنفر شخصا بشخص آخر، فكيف تمكنت الرياضيات من حل إشكالية «الشرط البشري» للحب هذه؟
هل تحب مشاهدة أفلام الرعب؟
الحلّ طبعا هو في الخوارزميات Algorithme، وهي عملية رياضية تنسب لمحمد بن موسى الخوارزمي، الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي، والتي أصبحت البنية التي تقوم عليها برامج الكومبيوتر، وتعريفها المبسط أنها مجموعة من القواعد التي تعبر عن سلسلة محددة من العمليات، وفي هذه العمليات يمكن وضع أي معلومة لإخضاعها لمسار من الأسئلة والأجوبة، بحيث يؤدي كل سؤال إلى إجابة خاصة به، وبالتالي فالمنتج (التوافق بين شخصين في مقالنا هذا) يتغير بتغير المدخل (المعلومات التي يدخلها الشخصان)، وباتباع سلسلة طويلة من الأسئلة والمسارات المتفرعة عنها يصل البرنامج إلى إمكانية التوافق أو عدم التوافق بين شخصين.
تعتبر شبكات التوافق العاطفي خوارزمياتها أسرارا خاصة بها، وهي تقوم بالضرورة بمحاولة تحسينها وبالتالي جعلها أكثر تعقيدا ودقة، ولكنّ المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه كل العمليات الرياضية المعقدة تلك، بسيط ويعتمد على مجموعة من الأسئلة ثم مقارنة الأجوبة بين عدد كبير من الأشخاص.
مثل التجربة الجامعية الأولى عام 1965 فإن الخوارزمية «العاطفية» تبدأ العمل من الأسئلة الأولية للمشتركين في هذه الخدمات من قبيل «هل تحب مشاهدة أفلام الرعب؟»، أو «هل تميل لفكرة الزواج؟»، لكن الأسئلة تتجه للتعقيد وتصبح أصعب مثل «هل تحب أن تكون الشخص المقرر في العلاقة؟»، فحين تصل الخوارزمية إلى شخصين يرغبان في السيطرة، فإما أن تقوم الخوارزمية باعتبار هذين الشخصين غير متناسبين أو، إذا كانت أكثر تعقيدا ودقة، فإنها تحاول معرفة من يرغب في السيطرة، أكثر أو أقل، ومن منهما سيقبل التراجع عند حد ما.
لا يكفي هذا طبعا للتعرف على إمكانية نجاح المطابقة فإذا افترضنا أن شخصا قال إنه يحب أفلام الرعب، وأنه يريد علاقة تفضي للزواج فإن على المبرمج أن يضع سؤالا يفسح إمكانية أن يشاهد الشخص الأفلام التي تعجبه مع شخص آخر غير من يريد الزواج منه، ويبقي على شرط الزواج لأنه أمر لا يحتمل خيارات.
تعمل الخوارزمية «العاطفية» على إعطاء أرقام معيّنة لكل سؤال، فإذا كان جواب السؤال غير مهم فيكون الرقم صفر، وإذا كان مهما بدرجة معقولة فيمكن أن يعطى 10، وإذا كان مهما جدا يعطى 50 درجة، وإذا كان أمرا حتميا لا يمكن تجاوزه يعطـــــى 250 درجة، وبذلك سيكون صعبا جدا أن تتناسب مع شخص تختلف معه في أمر جذري، ولنفترض أن درجة التوافق بين شخصين هي 85٪ و100٪ فإن نسبة التوافق الافتراضية هي 92٪ لولا أن هذه الطريقة في الحساب صارت قديمة وغير دقيقة، فإذا كان هناك شخصان واحد منهم مطابق بنسبة 100٪ وواحد مطابق بنسبة 0٪ فإن نسبة الـ50٪ ستكون مضللة، وبالتالي فقد اعتمد الرياضيون طريقة حساب معقدة أكثر، تمنع هذا الخطأ الممكن حصوله.
لماذا نراسل من نكرههم؟
رغم الإمكانيات الهائلة التي تسمح بها هذه البرامج والخوارزميات المعقدة، فإن البشر أكثر تعقيدا بكثير من قدرة تلك البرامج على احتساب كل الاحتمالات، ولذلك فقد فتحت بعض شبكات الخدمة العاطفية المجال لزبائنها لوضع «بروفايلات» تضم آراءهم وصورهم (كما يفعل فيسبوك مثلا) وهواياتهم وتطلباتهم، كما سمحت للمشتركين بتقييم بعضهم بعضا، وحللت تفضيلاتهم ومعاييرهم للجمال، وقامت إحدى الشبكات بدراسة الرسائل التي تلقتها 5000 امرأة خلال شهر.
النتيجة كانت أن فتاتين متقاربتين جمالا، حصلتا على نسبتين مختلفتين، وكان الناتج لا يتعلق بالجمال بل بالآراء، فصاحبة الآراء المثيرة، سلبا أو إيجابا، حصلت على رسائل أكثر من نظيرتها، وكانت الرسائل تتراوح بين الكره والإعجاب، وهو ما يعني أن المثير للتناقض يثير الجاذبية أكثر من العادي.
النتيجة التي توصل إليها المحللون هي أن من الأفضل أن تكون صادقا في التعبير عما يمكن أن يعتبر أخطاء وأن يثير الانتباه والجدل. فالأمر الذي يمكن أن يعتبر نقيصة قد يكون أمرا إيجابيا برأي شخص آخر، فإذا كنت تحب لبس ثياب ملونة أو وضع نظارات أو قبعة، فضع ذلك في صورك فبعض الناس سيحبون ذلك وآخرون لن يحبوا، غير أن التناقض يثير الاهتمام.
فتح اختراع الكـــــــومبيوتر والإنـــترنت وتطبـــيقات الكومبيوتر والموبايل، المجال لإمكانيات تعارف هائلة بين البشر، لكنه، في الوقت نفسه، وللمفارقة، جعــــل كل شيء متــــوفرا في العالم الافتراضي، وقطع الكثير جدا من الصلات الحقيقية بين البشر، وجعل الكثير من الناس معزولين ووحيدين، ليس لديهم تواصل مع العالم الحقيقي. من حسن الحظ، رغم ذلك، أن فــرص البشر للتعرف على شريك للحياة، بغض النظر عن الظروف، صارت أكبر بكثير، وما عادوا بحاجة لـ«الخطابة» التي تدق الأبواب، أو صعوبات التعارف واللقاء القديمة، ومصاعب الرسائل والسفر والتكاليف. لقد حلّت الخوارزميات العاطفية كل ذلك.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
لقراءة المقال من المصدر انقر هنا