تستند أعمال محمد الماغوط الأدبية والمسرحية والصحافية، إلى خزان هائل من المفارقات، الواقعيّة والمجازيّة، وفي صلبها يحضر الصراع الدائم بين المسحوقين المهمشين المستضعفين والمخذولين والمذعورين من جهة، وعناصر الشرطة والأمن والجلادين القتلة الطغاة المتوحشين في قسوتهم وبهيميتهم، من جهة أخرى.
وترتبط مفارقات الماغوط هذه بتجارب حياتيّة عاشها، من الفقر المدقع إلى الشهرة، ومن الحبّ إلى الميتة المبكرة للحبيبة/الزوجة، ومن السجن إلى تصدّر اسمه للمجلات والصحف والمسارح، ولعل إحدى أكبر المفارقات التي عاشها على هذه الحدود بين الأدب والواقع، كانت في قبوله منصب رئيس تحرير مجلة «الشرطة».
كنت في التاسعة من العمر حين وجدت على سقيفة بيت جدّي في حي «الميدان» الدمشقيّ نسخة من تلك المجلة، ورغم ان معرفتي بالواقع الحقيقي كانت واهية فقد تلمّست فطريّا نوعا من المفارقة في تلك المجلة، فقد كنت أعرف من الخوف الذي يتلبّس الناس في سوريا أن الشرطي كائن مرعب، فكيف يقوم هذا الموكل بترويع البشر واعتقالهم بإصدار مجلة تشبه الحوليّات وتتضمن مواضيع قانونية وثقافية مفيدة؟
كان الشعر هو صرخة الماغوط الأعلى على قباحات العالم، لكن ذلك ينطبق بالقدر نفسه علي أعماله المسرحية والتلفزيونية ومقالاته الصحافية
لسبب غامض تثبّت في ذاكرتي الطرية اسم رئيس تحرير تلك المجلة وستمر سنين طويلة قبل أن أدرك الحجم الهائل للمفارقة بعد اكتشافي أن رئيس التحرير ذاك لم يكن غير أحد أكبر هجّاءي الشرطة والقمع في تاريخ الشعر العربي الحديث: محمد الماغوط. وظنّي أن إسناد تحرير الشرطة لمحمد الماغوط خلال أواخر الستينيات من القرن المنصرم كان إحدى مساخر القدر التي نتجت عن أوهام حكام تلك الفترة الأيديولوجية (أتكلم عن مرحلة صلاح جديد ونور الدين الأتاسي وعبدالكريم الجندي) التي تمثلت بفكرة الانقلاب والتغيير من فوق، فقد كان كافيا في اعتقادهم وضع أشخاص ثوريين على رأس السلطة حتى ينقلب التخلف حداثة، ورجل المخابرات غيفارا، والضابط الجائع للسلطة ثائرا اشتراكيا.
زكريا تامر رفيق الماغوط في هجاء الأنظمة والقمع تحدث مرة عن تلك الفترة قائلا، إن الماغوط كان يرتعش خوفا خلف مكتبه برئاسة تحرير الشرطة كلّما دخل عليه شرطيّ بسيط بورقة لتوقيعها، أو بمادة لنشرها. ولعلّ الماغوط كان يحكي عن حالة شبيهة عندما تساءل في قصيدة له:
من أورثني هذا الهلع/ هذا الدم المذعور كالفهد الجبلي/ ما أن أرى ورقة رسمية على عتبة/ أو قبعة من فرجة باب/ حتى تصطك عظامي ودموعي ببعضها/ ويفر دمي في كل اتجاه/ كأن مفرزة أبدية من شرطة السلالات/تطارده من شريان إلى شريان .
٭ ٭ ٭
عام 1948، دخل الريفي البسيط ابن الـ14 عاما مدينة دمشق قادما من السلمية، معقل الإسماعيليين التاريخي على أطراف بادية الشام. كان أقصى ما يطمح اليه آنذاك (على حدّ قوله) أن يتزوج ابنة عمه أو ابنة جيرانه ويعيش بسلام، لكن دخوله السجن («متحف الرعب» كما يسميه) كان صدمة زلزالية غيّرت شخصيته للأبد، وثبّتت في داخله خوفا وحزنا خالدين. لكن هذه الصدمة أطلقت، من جهة أخرى، طاقة الشعر والإبداع الهائلة في الإنسان المقهور المزروع في الشاعر منذ أجيال. من السجن يخرج الماغوط عام 1955 بمسرحية «المهرّج» (التي قام السجناء بتمثيل بعض منها في سجن المزة، وسيستخدم الرحابنة مادتها في تأليف مغناتهم «ناس من ورق» كما سيستعينون بعبقرية الشاعر وفانتازيته في تأليف مسرحيتهم الأخرى «المحطة») وكذلك بقصيدة «القتل» التي سيفاجئ بها مجموعة مجلة «شعر» في بيروت وسيكون نشرها بداية حرث ثور الماغوط في صالة مرايا الشعر تاركا، منذ ذلك الحين، تأثيرا لا يمحى على الشعر العربي.
في بيروت التي انتقل إليها سيلتقي الماغوط بالشاعرة سنية صالح (أخت خالدة سعيد زوجة أدونيس) التي ستكون رفيقة دربه وسببا إضافيا آخر لآلامه لاحقا بموتها المبكر (توفيت عام 1985 عن ابنتين: شام وسلافة، وثلاث مجموعات شعر: «الزمن الضيق» و«حبر الإعدام» و«قصائد» ومجموعة قصصية بعنوان«الغبار»)، وسيسجن مجددا (عام 1960) لعلاقته بالحزب السوري القومي الاجتماعي.
سألت، في لقاء لي مع القاصّ زكريا تامر قبل أسابيع، عن قصة كررها الماغوط حول الحزب السوري، وهي أنه لم ينضم إليه لقناعة مبدئية أو أيديولوجية ولكن لأن مقرّه في مدينته السلمية كان قريبا من بيته وكانت فيه مدفأة «على عكس مقرّ حزب البعث»، فغمغم تامر بما معناه أنه يجب عدم هذا القول على محمل الجد.
قد تكون تلك القصة إحدى «ألعاب» الماغوط الساخرة الكثيرة، أو لعلها تحمل نقداً مضمراً لتلك العلاقة مع الحزب القوميّ، يدعمه ربّما هجاءه اللاحق للشاعر أدونيس، الذي كان أحد عرّابي الحزب الأدبيين، وكان أيضاً الوسيط الذي عرّفه على مجلة «شعر».
عيش الماغوط الدائم ضمن هذا النوّاس العجيب سيتبدى واضحا في شعره القائم على المفارقات والصور المتنافرة، والأمر نفسه ينطبق على اختياره لقصيدة النثر التي أحبها ـ كما يقول ـ حبا من أول نظرة وأول كرباج قائلا إنه اختار هذا الشكل الشعري لكونه كان شخصا ملولا ولجوجا، وأنه كان هاربا وجائعا ومتشردا يبحث عن مخبأ أو ملجأ يؤويه ولم يكن لديه وقت للقافية، وهو تفسير يشبه حكاية التجائه للحزب الذي لديه مدفأة(؟!).
٭ ٭ ٭
كان الشعر هو صرخة الماغوط الأعلى على قباحات العالم، لكن ذلك ينطبق بالقدر نفسه علي أعماله المسرحية والتلفزيونية ومقالاته الصحافية.
أتذكّر الآن من قصصه المرعبة واحدة يتحدّث فيها عن انشغاله بالبحث عن هدية يهديها لأمّه في عيد الأم، فلا يجد بعد طول تفكّر إلا أن يأخذها لأحد فروع المخابرات ليقوموا برفعها فلقة لأنها أنجبته في بلد عربي.
٭ ٭ ٭
على عكس انقلابيي وثوريي السياسة الذين ساهموا في تعيينه رئيسا لتحرير «الشرطة» والذين سخر الواقع من أحلامهم الطوباوية بطرق مأساوية («انتحر» عبد الكريم الجندي وقضى جديد والأتاسي حياتيهما في السجن وتفرق الباقون نفيا وموتا وسجنا) أنجز الماغوط انقلابه الشعري الكبير، وطبع الذائقة الشعرية العربية بمعالم صدقه العنيف وجرأته الوقحة وألمه الهائل المرفوع على أسّ شعره، الذي ينوس بتطرّف بين البراءة والقسوة.
في كل الأحوال يمكن اعتبار وجود الماغوط رئيسا لتحرير «الشرطة» واحدا من أكثر المشاهد المسرحيّة، التي اشتهر الماغوط بكتابتها، إدهاشا، كما لو أن المرحلة السياسية برمّتها التي عاشها، وعاشتها سوريا، كانت شكلاً من أشكال السخرية السوداء لسلطات وضعت الشاعر السجين المرعوب من القمع في موقع رئيس تحرير لمجلة «الشرطة»، ثم أدخلت البلاد بأكملها في فانتازيا سوريالية من تأليف عصبة من الضباط الموتورين الذين انقلبوا من ضحايا افتراضيين إلى جلادين حقيقيين ملأوا السجون بأمثال الشاعر، ثم آلت البلاد كلّها إلى ضابط واحد صفّى الآخرين وأورثها لابنه الذي جعلها، كما يقول بيت شعر للماغوط: «شعوبا جريحة تبحث عن موتاها».
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
لقراء المقال من المصدر انقر هنا