لم يكن للطيب تيزيني، الكاتب وأستاذ الفلسفة السوري، على الأغلب، أن يتوقع حجم النقاش الذي سيثار حول شخصه وأعماله بعد رحيله، ولعلّه تمنّى، وهو الشخصيّة الفكريّة المعروفة، أن يحظى بقراءات تتناسب مع تاريخه ومع المشروع الفكري الذي بناه، ومع جرأته التي تحتسب لشخص في عمره، في الوقوف مع ثلّة صغيرة من المتظاهرين عام 2011، وتعرّضه للضرب والاعتقال، وبعدها متابعة انتقاده العلنيّ لنظام مشهور بإجرامه غير المحدود، وقبلها رفضه «كرم» حافظ الأسد عليه مما أجّج غضب النظام عليه.
كان حجم تجاهل السلطات لوفاة تيزيني أمرا مفهوما (وقد أبدع الكاتب والشاعر السوري ماهر شرف الدين في تحليل ذلك في مقال بعنوان «جنازة صغيرة») غير أن المفاجأة كانت تصدّعا في «الجبهة» التي يُفترض أن تحتفي بتيزيني، وهو أمر بدأه الكاتب وأستاذ الفلسفة السوري ـ الفلسطيني أحمد برقاوي بنشر فقرة على «فيسبوك» حول تيزيني، يقول فيها إنه لم يعجب «بأي صفة من صفاته ولم يرض عن أي سلوك من سلوكاته، ولم يستحسن أيا من مؤلفاته»، وهو ما أثار استنكاراً من كثيرين بينهم أصدقاء أو معارف لبرقاوي مثل إسلام أبو شكير وخلدون النبواني وحسام الدين درويش وخضر زكريا، فسئل برقاوي، على سبيل المثال، إذا كان لم ير في مواجهة تيزيني للسلطة سلوكا يثير الإعجاب، كما سوئل عن موضوعيته وإنسانيته، وقام آخرون، كعدنان عبد الرازق، باعتبار رأي برقاوي «نشازا»، ناتجا عن «عداوة الكار» ومحمولا على الإطلاق والنرجسية، واعتبر حسام ميرو «الظاهرة» هذه «مرضا»، فيما نُشرت ردود أخرى تحاول الموازنة وتدعو لعدم «حفر قبر آخر لأحمد برقاوي»، فـ»كلنا يخطئ وبرقاوي أخطا بالوصف والتوقيت والأسلوب المتعالي، لكن هذا لا يعني فتح النار عليه».
منظّر لاستبداد حافظ الأسد؟
ما لبث متابعو تفاعلات الحدث أن تلقّوا مفاجأة جديدة من أكاديمي آخر هو عماد الدين الرشيد، الذي كان أستاذا في جامعة دمشق أيضاً ونائبا لعميد كلية الشريعة، بنقله النقاش إلى حقل أيديولوجي آخر، عبر استغرابه صدور ثناء وتزكية من الإسلاميين للكاتب الراحل وكأنهم «لا يعرفون أن فكر الرجل كله يستهدفهم»، و»لا يعرفون أنه كان من أهم المنظّرين لاستبداد حافظ الأسد، والمسوّقين لموقفه من الإسلاميين بل ومن الإسلام»، وأن موقفه في الثورة «يفيض انتهازية» وأنه «انتقل من كفر إلى كفر آخر» متسائلا إن كان الأمر غفلة أم نفاقا، ومطالبا إياهم بعدم تزكيته، وساحبا قياسه إلى شخصيات أخرى رحلت وحظيت بتبجيل وتقدير السوريين كالفنانتين الراحلتين المعارضتين فدوى سليمان ومي سكاف، من دون أن ينسى الإحالة مجددا إلى تعليق أحمد برقاوي (رغم أنه أيضاً من حقل الفلسفة «الكافر» مثل تيزيني)!
استدعى تصريح برقاوي ومقالة الرشيد ردّا من عمر قدور بعنوان «تيزيني وصكوك الغفران» أشار فيه إلى «انعدام الرحمة» و»إفساد الحزن النبيل»، وإلى «نتيجة سياسية واحدة هي اليأس من إمكانية بناء مشتركات بين السوريين»، مفككا منطق الرشيد على أنه «إعادة تربية شاملة» على جري النظم الشمولية، وانتكاس عن الرحمة الاجتماعية المتعارفة بين السوريين لتقسيمها بين «داري الكفر والإسلام» وهو ما يجعل الاجتماع الوطني عملا مستحيلا «فمن يضن بالترحم على الموتى، لن يكون أكرم في مجال السياسة»، وأن الأمر تجاوز مصادرة الإسلام واحتكار فهمه إلى «مصادرة الله نفسه والتقرير نيابة عنه».
على الضفّة المعاكسة لعماد الدين الرشيد، نشر الشاعر والكاتب عادل محمود مقالة أيضاً يعدد فيها بعض مناقب تيزيني وأفكاره متذكرا فيها طلبا منه عدم الحوار المعرفي والثقافي مع الشيخ محمد رمضان البوطي لأنه «حتى الآن لم ينجح في أي يوم طوال 1400 سنة أي حوار مع الدين»، وهنا نلمس أيضاً قسمة أخرى شبيهة بقسمة الرشيد وإن بطريقة أكثر حذراً، فاستحالة الحوار مع الدين تفضي، من دون حاجة لتمحّك كبير، إلى استحالة الحوار مع المتدينين، فما بالك بالحوار مع «الإسلاميين»؟
«المجتمع العميق»
بعد تجاهل النظام للجنازة وصاحبها، ونفي برقاوي الجازم لأي حسنة لدى تيزيني، ثم إخراج الرشيد له من «جنّة» الثناء عليه وتزكية عمله، وتأنيب محمود له على «حواره مع الدين»، ظهرت مقالة بعنوان «الطيب تيزيني… قيامة الطريق الثالث» للروائية السورية سوسن جميل حسن، التي تبدأها بالقول إن مشكلات منطقتنا «ليست الأنظمة السياسية أو الحكومات العميقة» فهناك برأيها مشكلة «أكثر خطورة وأكثر إلحاحا لتفكيكها» وهي «المجتمعات العميقة التي كشفت الأزمة السورية عن مدى تمكّنها ورسوخها في البنيان السوري». تقدّم الروائية السورية هذا الرأي على أنه رأي تيزيني نفسه، وهو ما اعتبره حسام الدين درويش، الكاتب السوري وأستاذ الفلسفة، «تشويها لفكر طيب تيزيني ومواقفه»، متسائلا إن كان «في نصوص تيزيني ومواقفه وكلامه ما يدعم هذه الرؤية أو يسوغها أو يتبناها صراحة أو ضمنا؟»، خالصا إلى أن هذا الخطاب الثقافوي «يجعل من الضحية مجرما ويسهم في تبرئة المجرم».
وفي مقابل «تقريع» الإسلامي «المعتدل» عماد الدين رشيد جمهور «الإسلاميين» على التعاطف الإنساني مع تيزيني «الكافر» ونشر البعض حكاية مروية عن قريب لتيزيني تحدث فيها عن صلاته عدة مرات في الفترة الأخيرة من حياته (وتشهّده قبل وفاته) فقد قام زعيم حركة «النهضة» الإسلامية، راشد الغنوشي، بنشر تغريدة ينعى فيها تيزيني ويعزي «أهل الفقيد والشعب السوري والعربي في وفاته»، في تعبير يظهر إمكانية التأكيد على الإنساني والسياسي والمشترك بين الإسلاميين وغيرهم حين يتعلق الأمر بالفكر ومواجهة الاستبداد.
هذا جسدي فكلوه!
يثير الموت مشاعر عميقة لدى البشر فهو يذكرهم بفنائهم ويدفعهم لفحص علاقاتهم بالشخص المتوفى، أما حين يكون الميت شخصية عامة فيتحول الموت إلى مسرح لحضور التناقضات والاختلافات البشرية والسياسية والفكرية.
بين أقصى قوسي التناقضات يمكن أن تحضر طقوس التقديس الطوطمية، فيتحول الميت إلى مسيح يقوم تلاميذه بأكل جسده الرمزي، أو إلى الحسين المطالب بإمامته والثأر لمقتله، أو إلى تموز القتيل الساعي لإعادة دورة الحياة والخصوبة؛ كما يمكن أن تحضر طقوس الالتهام والانتهاب (كان موت بعض الباباوات في القرون الوسطى مناسبة لحصول نهب عام لممتلكاتهم)، وتحضر سرديّات أوديب وكاليغولا ويهوذا الأسخريوطي.
يمكن، في وفاة تيزيني، تلمّس بعض آثار هذه الطقوس العميقة الأثر في النفس البشرية. لأسباب تتعلق بالتراجيديا السورية المفتوحة، ولوقوف فكر تيزيني على تخوم أيديولوجيات متعارضة (الماركسية والدين)، ولبقائه في البلاد، رغم معارضته للسلطة (زعم البعض أنه بعثيّ وهو أمر غير صحيح، فيما تحدث آخرون عن شيوعيته) الخ… ليوضع في حقول قد يجدها قارئوه متعارضة، فيطالب عادل محمود بعدم الحوار مع المتدينين، أو تستنتج سوسن جميل حسن من أعماله أن المشكلة هي في المجتمع لا في الاستبداد، أو يعتبره عماد الدين رشيد كافرا، فيما يورد أحمد عمر خبرا عن قريب له عن صلاته وتشهّده قبل موته، وتؤكد ابنته منار تيزيني على الرابطة التي تجمعه بحسين مروة ومهدي عامل، الكاتبين الشيوعيين اللبنانيين اللذين تم اغتيالهما… وفي كل ذلك يعيد السوريون تكرار حروبهم، ويسعى الخيميائيون لاكتشاف وصفة حجر الفلاسفة، فيما يتابع شيطان الاستبداد، بأشكاله السياسية والدينية والاجتماعية، عملية إبادة كيميائية ممنهجة للجميع.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
لقراءة المقال من المصدر انقر هنا