يقدّم محمد أمير ناشر النعم، في كتابه «جدد القول: هموم وأوهام في الفكر الإسلامي» كشفا باهرا (ومؤرقا) لحال الفكر الإسلامي، الذي بدأ، في العصر الحديث، كما يقول، مع «أفاضل رواد»، خلفهم خلف «لم يبلغوا مبلغ عظمتهم فتمتعوا بهذه الثروة الثمينة على غير استحقاق، ثم بددوها تبديد السفه، وهدروها هدر المعتوه»، «حصروا مهمتهم في تطويق الإنسان تطويقا محكما» ليخرجوا علينا بنتاج، يسمّيه ناشر النعم، «فقه الهموم المتقزمة».
أنتج هؤلاء فتاوى «معرقلة» لاستقرار المجتمعات الإسلامية، ومعيقة لمسيرتها وتقدمها، لم تقتصر على العبادات، بل تدخّلت «في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية»، بحيث ناقضوا الأدبيات الإسلامية، وصارت خلاصة فتاواهم أن «الأصل في الأشياء المنع والتحريم»، فحرموا الاقتراض من بنوك الدولة (وحللوا بالمقابل «العقود اللئيمة» للتجار التي يصطادون بها المحتاج)، وارتياد الجامعات، والتجنس للمغتربين، كما حرموا السلام على أبناء وطنهم من الديانات الأخرى، وحرموا الاحتفال بعيد الأم إلخ.
يتطرّق ناشر النعم إلى أمثلة واقعية كثيرة عن «شيوخ الهموم المتقزمة»، مبينا الأضرار التي أصابت بلاد المسلمين ومجتمعاتها من أفاعيلهم، فيتحدث عن «دعاة القنوات الفضائية» الذين جلهم «رسل تسلية وترفيه»، بحيث «ما عاد بوسعنا تمييز الرصين من المبتذل، ولا الباحث من العابث، ولا الفقيه من الفهيه»، ويورد آراء دعاة يستخدمون سلوك الحيوان لإظهار «إعجاز التشريع الإسلامي»، عبر خط طويل يبدأ من حديث منسوب لعمرو بن ميمون عن «رجم القردة الزانية»، لنصل إلى «أبحاث إسلامية» عن «عقوبة النحلة السكرانة»، عند محمد العريفي، و»محاكم الغربان» عند زغلول النجار، وحكم «النملة الكاذبة» و«الحصان الفاجر عند عمر الأشقر!
من الآهات الإسلامية إلى باب المعاملات
من ذلك أيضا، إشارة الكاتب إلى قضية «الآهات الإسلامية»، التي اخترعت في تسعينيات القرن الماضي، في استوديوهات الخليج العربي، لتصاحب الأفلام والبرامج الدينية بدلا عن الموسيقى التصويرية، عبر «تلاقح اتجاهين: الحركة الإسلامية والسلفية»، وبذلك تولّدت الآهات عن «تحايل فقهي طريف»، يعتبره ناشر النعم أنموذجا حيا لمصطلح «البديل الإسلامي». أحد الأمثلة الساخرة على ذلك شارة بداية برنامج داعية سلفي يحرّم الموسيقى قطعيا، حيث نقرأ في شريطه «لا يوجد موسيقى فقط مؤثرات صوتية»، و»كأنهم يقولون: صحيح أنك تسمع موسيقى، ولكنها ليست بموسيقى، لأننا لا نسميها موسيقى، بل نسميها مؤثرات صوتية، لذلك هي ليست بموسيقى، فالحلال والحرام مرتبطان بتسمياتنا».
ينسحب هذا «التحايل الفقهي» الذي لم يعد طريفا، على ما يظهر، على جلائل الأمور وليس صغائرها فحسب، فيلخص قضية البنوك الإسلامية التي نجمت عن تزاوج الإسلامية المصرية مع الرأسمالية الخليجية، و«لما اكتشفت البنوك الأجنبية ذلك، راح بعضها يلعب اللعبة ذاتها»، والنتيجة، كما يرى، «ستغدو أفظع وأفدح من الفوائد»، بحيث تدخل المودعين، فعليا، في «باب الربا»، لأن مناط تحريمه «هو الظلم النابع من الاستغلال». يفكك الكاتب أيضا «أوهام الاقتصاد الإسلامي»، الذي هو «اقتصاد رأسمالي خالص مئة في المئة»، تواطأت السلطات وأصحاب الأموال فيه على سحب مدخرات الناس والضحك عليهم بدعوى «البنوك الإسلامية» و»التأمين الإسلامي» وغيرها، ويوضح كيف أن تعريفات الشيوخ له هي إعادة تعريف لباب المعاملات الفقهية متسائلا: «هل يمكن ان نذهب إلى أحكام الحرب في الإسلام ثم نؤسس من خلالها علما نسميه علم الحرب الإسلامي؟».
نكايات الفقهاء وخصومات المذاهب
لم يكتف البعض بأوهام الاقتصاد الإسلامي، وبتجاهل الفظائع التي ارتكبت عبر الخلط بين الفائدة والربا، ثم إقناع الجمهور بـ«البنوك الإسلامية»، ما نتج عنه معاملات خطيرة أدت لانهيار بنوك كبيرة، وخسارة المودعين لمليارات من ودائعهم، فإن بعضهم الآخر، كما هو حال مؤسسي مجلة «إسلامية المعرفة»، خاضوا أكثر من 25 عاما في هذا المجال الزائف، ليعودوا فيغيّروا اسم المجلة إلى «الفكر الإسلامي المعاصر»، من دون مراجعة او تقديم اعتذار.
يقدّم ناشر النعم بضعة اقتراحات لتفسير أحوال الفقهاء والدعاة، ليس الآن فحسب، بل عبر التاريخ، فيرى أن دارسي تاريخ التشريع توقفوا عند الأسباب الموضوعية والظاهرية، ولم يتناولوا دور الفقيه نفسه، ولم يمتلكوا «الجسارة التنويرية» لدراسة الأسباب الذاتية النفسية كالنكاية. يحفر الكاتب في هذا السياق تاريخيا، فنقرأ عرضا موثقا بالأسانيد المتصلة لآراء أئمة العلم بعضهم ببعض «فيصيبنا الذهول والعجب». تنشأ عن الفتاوى، فتاوى مضادة، ومواقف متباينة، فهي «في المحصلة ليست سوى مضاربة على كسب مرضاة ذبذبات السلطة، أو المعارضة، أو الشعب»، وتمتد النكاية إلى المذاهب والطوائف والأديان، فتصبح «أحد أبرز دوافع حركة الوضع والاختلاق».
من المفتي الماجن إلى المفتي الداجن
على المستوى السياسي، يعبر ناشر النعم بنا، من مصطلح «المفتي الماجن»، لدى أبو حنيفة، إلى «المفتي الداجن» في حقبة الاستبداد العربي الحديث، الذي يُفتي بالقتل ويشرّعه ويدعو إليه ويطالب به «إذا كان ذلك يرضي السلطة ويعجبها»، ولا يقتصر الكاتب على أتباع السلطات القائمة، فيتعرّض أيضا إلى «فقهاء المعارضة»، على ما هو حال «المجلس الإسلامي السوري»، الذي ترقى بعض آثار فتاواه، كما يقول، «إلى درجة الجريمة الإنسانية التي يحاسب عليها القانون الجنائي الدولي».
تفتح لنا بحوث الكتاب مروحة واسعة من الأمثلة على أنواع العطب التي أدت إليها ممارسات الاستبداد السياسي، وأتباعه من الشيوخ والفقهاء والدعاة، كما تضع بعض الفصول الاصبع على جروح فاغرة في «الفكر الإسلامي»، كما فعل حين تطرّق لموضوع تنظيم «الدولة الإسلامية» وردود الفعل عليه التي دفعت البعض لإعلان الرغبة في العودة إلى الوثنية، وحين تحدث عن حكم الترحم على غير المسلم، وتخلف الفقه الإسلامي في تناول مسألة الانتحار، وتنادي المسلمين لتأصيل العلاقة بين الديمقراطية والإسلام «وكأنها مسألة مستحدثة».
إضافة إلى اتفاقي مع الكاتب على مجمل النقاط التي تضمنّها كتابه، فإنني أجد في نفسي اتفاقا شديدا معه على مسائل تشغلني سياسيا ومعرفيا وشخصيا، منها وضوح موقفه من علاقة الاستبداد السياسي بالديني، ومنها الموقف من الديمقراطية، الذي أجد أنه أحد أهم أسباب العطب في أحوالنا العربية، وكذلك مسألة التسامح التي يفصّل رحلته الوجودية باتجاهها. لفتت نظري، كثيرا، انتباهته العظيمة لأهمية تعبير اللغة عن التطوّر الفكريّ، وقد لاحظت كيف تكشف هذه القضية معدن السياسي والعالم والناشط والحزب والنخب، بحيث يعكس انعدام الأصالة والإبداع والتخشّب في الأفكار والمصطلحات عقم الفكر والسياسة والاجتماع، فيهوي الشاعر إلى شويعر فشعرور، ويهوي الفقيه إلى مرتبة الفهيه، وكما ينطبق الأمر على الشعراء والفقهاء، فهو منطبق أيضا على النخب التي تتنطّع لنخب، تدّعي المعارضة، ولا تخرج، في منطوقها ومضمونها وأساليبها، عن السلطات التي تعارضها.
مفيد، في نهاية هذا العرض، أن يُشار أيضا، إلى أن كثيراً من «أوهام الفكر الإسلامي» تنطبق أيضا على أوهام الفكر العلماني، وكلاهما ينضحان من بئر الاستبداد، ولعلّ جذورهما، في النهاية، تلتقي ليس في أشكال التعصّب والتطرّف الأيديولوجي فحسب، بل في صدورها عن الميراث السياسي – الديني نفسه أيضا (ولهذا حديث آخر).
*القدس العربي