أحد الاعتقادات الراسخة في السرديات الحديثة للعالم، هو أن العلم هو «التعبير الأكمل عن العقلانية». حكم العلم لتفاصيل حياتنا ناتج، حسب تلك السرديات، عن نضال طويل ضد مؤسسات الدين والدولة و»الاعتقادات غير العلمية». بدوره في النضال ضد الخرافة أصبح العلم تجسيدا للمنطق العقلاني. غير أن هذه «الحكاية الخرافية» على حد قول جون غراي في كتابه «كلاب القش» تخفي تاريخا مثيرا للاهتمام. أصول العلم ليست موجودة، في رأيه، في المحاكمة العقلانية، لكن في الدين والسحر والحيل (تذكرنا الكلمة الأخيرة بتسمية العرب الظريفة للميكانيك بـ:علم الحيل). لم يربح العلم الحديث الحرب بعقلانية متفوقة على الخصوم، بل لأن مؤسسيه الغربيين، مع نهاية العصور الوسطى وبدء الحداثة، «كانوا أكثر مهارة من سابقيهم في استخدام البلاغة وفنون السياسة».
لقد انتصر غاليليو في معركة تثبيت علم الفلك الكوبرنيكي (نسبة إلى العالم البولندي الشهير نيكولاس كوبرنيكوس، الذي قال إن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس) ليس بالتزامه بقواعد «المنهج العلمي» لكن بفضل مهاراته في الإقناع ـ ولأنه كتب نظريته بالإيطالية، فبالكتابة بالإيطالية، بدلا من اللاتينية، كان غاليليو قادرا على إبطال منطق المعارضين التقليديين لأفكار كوبرنيكوس الفلكية، والحصول على دعم المناهضين للأساليب القديمة في التعلم.
يرى غراي، أن العلماء الكبار، والفلاسفة ومؤسسي العلم الحديث، لم يكونوا أبدا ملتزمين بما نعتبره اليوم «قواعد المنهج العلمي» ولم تكن لديهم علاقة بما يسمى حاليا الرؤية العلمية العالمية. رأى غاليليو في نفسه مدافعا عن اللاهوت، وليس كعدو للكنيسة. أصبحت نظريات إسحق نيوتن، أسسا للفلسفة الميكانيكية، لكن تلك النظريات، بالنسبة لنيوتن، لم تكن منفصلة عن الفهم الديني للعالم، باعتباره نظاما إلهيا مخلوقا. لقد شرح نيوتن الحوادث التي تبدو غريبة، باعتبارها آثارا تركها الله، وفيما اعتبرها العالم الفلكي الدانماركي تايكو براهي، معجزات، فإن جوهان كبلر رأى أن الظواهر الشاذة في الفلك هي ارتدادات لـ»روح الأرض».
لكل ذلك، يستنتج أستاذ فلسفة العلوم الألماني بول فايرابند، أن الاعتقادات التي يعتبر أنها ترتبط بالدين والميثولوجيا والسحر، كانت مركزية في رؤية الأشخاص الذين أسسوا العلوم الحديثة.
لماذا تنتصر أفكار البلهاء؟
رغم أن الفلاسفة يصوّرون العلم باعتباره نشاطا عقلانيا متفوقا، فإن تاريخ العلوم يظهر أن العلماء يهزأون بقواعد المنهج العلمي. تقدم العلوم، يحصل عبر العمل لمناهضة المنطق السائد والمستقر. كانت نظريات داروين وآينشتاين، حين تم طرحها، على خلاف مع الأدلة العلمية المتوفرة، ولم تتوفر أدلة على صحتها إلا لاحقا. يرى غراي أيضا أن الإيمان بالحقيقة وبأنها ستقوم بتحريرنا، ليس إلا طللا لدين قديم. لقد ثبت سقراط أركان الفكرة الأوروبية أن الإيمان بالحقيقة يحرّرنا، وانتقلت هذه الفكرة إلى المسيحية، وصولا إلى شكلها الجديد: الإيمان بالإنسانية.
تستند الإنسانية الحديثة إلى الإيمان بأن الجنس البشري يستطيع معرفة الحقيقة عبر العلم ـ وبذلك يتمكن من التحرر. غير أنه إذا كانت نظرية داروين في الاصطفاء الطبيعي صحيحة، فإن هدف الدماغ البشري هو إنجاح عملية الارتقاء الطبيعي وليس الحصول على الحقيقة.
تقترح إحدى النظريات (Memes Theory) أن الاعتقادات والأفكار تتنافس بالطريقة التي تتنافس فيها الجينات البشرية، وبذلك فإن الأفكار الأفضل تنتصر. تتنافس الأفكار بالتأكيد، لكن من ينتصر عادة، كما يقترح غراي، هم الأشخاص الذين يملكون القوة، والذين تصطف البلاهة معهم. حين قامت الكنيسة في القرون الوسطى بالقضاء على المنشقين، فهل كان ذلك بسبب أن أفكار الكنيسة أفضل من أفكار المنشقين؟
حتى لو كانت النتيجة هي الخراب؟
ما تؤكده لنا نظرية الاصطفاء الطبيعي، هو أن الحقيقة غير ضرورية للبقاء أو إعادة التكاثر. الحقيقة هي في أغلب الأحيان ميزة سلبية، بينما الخداع يعطي صاحبه أفضلية، وينطبق هذا على عالم الحيوان والإنسان، كما على السياسة.
لا تستخدم البشرية العلم للبحث عن الحقيقة أو لتحسين حياة البشر، ومالكو المعرفة سيستمرون في استعمالها للخداع. يستخدم البشر ما يعرفونه لتحقيق رغباتهم الأكثر ضرورة ـ حتى لو كانت النتيجة هي الخراب.
ليس التاريخ، أيضا، صراعا للحفاظ على النوع البشريّ، كما تخيل المفكر البريطاني هوبز، ففي مجرى حيواتهم اليومية، يناضل البشر لاستيعاب كيف يربحون ويخسرون، وفي أزمنة اليأس يحاولون حماية أبنائهم، والانتقام من أعدائهم، وهذه ليست عثرات يمكن إصلاحها. لا يستطيع العلم أن يعيد تشكيل الجنس البشري في قالب أكثر عقلانية، وأي نموذج جديد للبشرية سيعيد إنتاج الإعاقات المعتادة الموجودة في مصمميه. لا يدخل العلم منطقا وعقلانية في عالم غير عقلاني، وجلّ ما يفعله هو تقديم نسخة جديدة من الجنون المعتاد، والخلاصة التي يصل إليها غراي، هي أن «الإنسانية» ديانة علمانية تم تجميعها من البقايا المتعفنة للميثولوجيا المسيحية، وإذا كانت الفلسفة قد تمكنت، خلال القرنين الماضيين، من هزّ المسيحية، لكنها لم تتمكن من التخلص من العطب الأساسي فيها وهو الإيمان أن البشر مختلفون بشكل جذري عن عالم الحيوان، فهل هناك طريق آخر للبشرية غير الخراب؟
*القدس العربي