حسام الدين محمد: الطوطم السياسي العربي.. أدب الندم والانتقام!

0

هناك نقطة قصوى تتناظر فيها الأيديولوجيات السياسية مع صعود شخصية كاريزمية يتجسد فيها المجرد، وتتعانق الصورة البشرية مع الرمزي، وتجد عناصر التقديس ويجد التخييل نقطته المركزية، مع انجذاب هذه الشخصية الكاريزمية نحو حدث مأساوي، ينتهي غالبا بموته، ويكون مسؤولا بدوره عن أحداث لا تقل فجاعة.
قُتل القائد الشيوعي فرج الله الحلو، بعد اعتقال سلطات الإقليم الشمالي لـ«الجمهورية العربية المتحدة» تحت التعذيب، وذوبت جثته بالأسيد، عام 1959، وسلم حسني الزعيم الجنرال الانقلابي السوري، أستاذه الانقلابي أنطون سعادة القائد المنظر لـ«الحزب القومي السوري الاجتماعي» إلى السلطات اللبنانية عام 1949 فقامت بإعدامه شنقا بسرعة، ونفذت السلطات المصرية قرارا بإعدام المنظر الإسلامي سيد قطب شنقا عام 1966، بعد سجنه عشر سنوات.
يتناظر تزايد الطابع الدرامي والفجائعي لسيرة هؤلاء القادة السياسيين، مع حصول صراع كاسر، بين هذه الحركات السياسية، وشخصياتها الرمزية، تتكسر فيه موجات الأيديولوجيا على صخور صراعات الواقع.
تتواجه شخصيتا سيد قطب (الثوري الإسلامي) وفرج الله الحلو (الثوري الشيوعي) مع شخصية جمال عبد الناصر، وبمقتلهما تتثبت في التاريخ صورة الحركتين المطاردتين، وزعيميهما القتيلين في مواجهة صورة زعيم قوي ذي شعبية كاسحة، يقود دولة كانت آمال ملايين العرب تأمل بازدياد قوتها وتسجيلها مزيدا من «الانتصارات». يتناظر بذلك منحنيان، يصعد فيهما خط عبد الناصر، وجماهيرية حركته الكاسحة، التي يتم تجسيدها بدولة قومية ذات تأثير إقليمي وعالمي، مع خط انكسار (أو تكسير) الحركتين، الإسلامية والشيوعية، وفجيعة زعيميهما، والقمع العنيف الذي تعرض له محازبوهما. في ظل هذه الدراما الملحمية الكبرى تتسبب صورة مقتل الزعيم بانكسار رمزي ودلالي، يطارد الطرف المقابل، المسؤول عن تلك الجريمة، إضافة إلى أنها تدفع لارتدادات عنيفة متلاحقة، تهدف إلى الانتقام من العنف والقتل بشكل يفتح دوائر انتقام وانتقام مضاد متوالية.

أبناء الانقلابات

يمثل ما حصل مع مقتل أنطون سعادة زعيم الحزب القومي السوري الاجتماعي، مثالا على التداعيات المتلاحقة التي يحفزها الحدث الفجائعي، ويبدأ هذا مع اغتيال المسؤول عن قرار إعدامه، رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح، في مطار ماركا في العاصمة الأردنية عمان عام 1951، ويحضر الحدث أيضا في أسباب الانقلاب العسكري الثاني في سوريا، وفي إعدام الرئيس حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي في العام نفسه، وهو ما أدى إلى مقتل الرئيس الانقلابي الثاني سامي الحناوي، على يد أحد أبناء عائلة برازي عام 1950، ثم مقتل الرئيس الانقلابي الثالث أديب الشيشكلي، على يد شاب من عائلة أبو غزالة الدرزية عام 1964 إلخ.
كانت تنظيرات سيد قطب مصدر إلهام لمجموعة من الحركات السياسية الجهادية المسلحة، لكن ردود الفعل على مقتله تجاوزت حالات الانتقام الفردية، والانقلابات العسكرية الفاشلة، كما في حالة سعادة، ورغم أن تلاميذ قطب السياسيين، لم يتمكنوا من الانتقام من شخص عبد الناصر، غير أن اغتيال نائبه، ورئيس الجمهورية المصرية التالي محمد أنور السادات، في مشهد الاغتيال الشهير على المنصة، يمكن أن يعتبر حدثا انتقاميا، أدى جزءا من هذا الغرض، بالتأكيد، كما أنه تسبب بموجات جديدة من القمع ضد الإسلاميين، ومن ترسخ دائرة مقفلة للصراع بين الطرفين. تجاوز الانتقام لقطب، اغتيال الرئيس المصري، وهناك آراء وجيهة تربط نشوء «القاعدة» وتفجيرات نيويورك عام 2001، بهذا الخط السياسي، الذي يمكن تتبعه من هجاء قطب العنيف لأمريكا (كما في كتابه «معركة الإسلام والرأسمالية») ومع ربطه بتغول الدولة العربية، وانقفال المشهد السياسي على العنف المعمم، وتطور خط الراديكالية الإسلامية بظهور تنظيم «القاعدة» يمكن اعتبار التفجيرات التي استهدفت أمريكا، وما تلاها من تداعيات (اجتياح أفغانستان والعراق) من ضمن الارتدادات الهائلة الناتجة عن مقتله التراجيدي، وانقفال المشهد السياسي، ضمن دائرة القتل المفتوحة بين الدولة العربية (التي انخرطت منظومتها في هذا الصراع) والإسلاميين خصوصا، وأشكال المعارضة المدنية عموما.

من الندامة إلى الانتقام

يجمع المسرحي اللبناني عصام محفوظ، بين أنطون سعادة وفرج الله الحلو، في مسرحيته «لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71؟» وإضافة لأمريكا، كموضوع للعداء، سيحضر موضوع إسرائيل والصهاينة أيضا، وتشكل المسرحية، في رأيي، نصا مناسبا لدراسة الهذيان السياسي المتعلق بهذه الاغتيالات والمواضيع السياسية التي نشأت حولها.
وتصور رواية «تبقى وحيدا وتندم» للبناني إلياس الديري حالة الحزبي الذي «خان» زعيمه وحزبه، ثم صارت حياته عنوانا للخيبة والندم، وهو ما يعيدنا مجددا إلى أطروحة سيغموند فرويد المثيرة للتفكر حول «الطوطم والحرام» حيث يؤدي مقتل «الطوطم» رمز الأب في القبيلة إلى حالة من الندامة الجماعية لأبنائه ناتجة عن إحساسهم بالمسؤولية عن مقتله. يحفر الندم في أعماق الظاهرة الدينية السحيقة. يمكن بدؤه، في الميثولوجيا الإبراهيمية، مع ندم آدم على خطيئته التي أدت إلى هبوطه للأرض. يحضر الندم في سردية المسيحية، التي تحتوي طقوسها بعض معاني «أكل» الأب، وقد ظهرت طوائف عديدة يمارس أفرادها الجلد للتخلص من خطيئتهم، التي دفع المسيح ثمنها، وتحضر المناحة على الإله تموز/أوزيريس في الديانات الشرقية القديمة، التي سيكون مقتل الحسين وأصحابه في كربلاء، حدثا استعاديا فيها، وتأسيسا جديدا لها، يعيد تعريف أهميتها ضمن الظاهرة الدينية للمنطقة، في حلتها الإسلامية. يمشي الندم العربي، يدا بيد، مع الرغبة في الانتقام، وهو ما يمكن أن نرى مثالا عليه في «ثورة التوابين» التي كانت أول ثورة قامت بعد واقعة كربلاء، بهدف الثأر للحسين وأصحابه. تقول كتب التاريخ إن زعيم الثورة، سليمان بن صرد الخزاعي، ذهب مع أربعة آلاف رجل إلى قبر الحسين «فما رؤي باكون أكثر من ذلك اليوم».
يحفل التاريخ العربي الحديث بأحداث مقتل الآباء الرمزيين، بدءا من ملك العراق وعائلته الذين قطعت جثثهم، مرورا بخلع وحبس شكري القوتلي، الزعيم الاستقلالي السوري، على يد الانقلابيين، والإطاحة بملك مصر فاروق، ثم بإطاحة عبد الناصر بمحمد نجيب، الذي كان أكبر أعضاء تنظيم الضباط الأحرار سنا ورتبة. بعد قتل الآباء السابقين، يتابع الأب الرمزي الجديد، الطوطم السياسي للدولة الحديثة، «التهام» أبنائه، فسيد قطب كان المدني الوحيد الذي يحضر اجتماعات الضباط الأحرار، وكان فرج الله الحلو (حسب شهادات) زعيما شيوعيا ذا ميول وحدوية، أي أنه كان أقرب للخط الناصري من زميله، خالد بكداش (الطوطم الشهير للشيوعية العربية) وهناك اتهامات لبكداش في المساهمة بتسليمه للسلطات. تتعقد حبكة الزعيم السياسي العربي الحديث، مع دخول بعض رموز الدولة القومية الباطشة، في الحلقة التي ضمت ضحاياه. وبعد أشكال النقد العديدة لذلك الزعيم، يحل الندم والنوستالجيا مكان الهجاء.
في «دفتر على هوامش النكسة» يقول نزار قباني: «لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان/ قلت له: يا سيدي السلطان/ كلابك المفترسات مزقت ردائي/ومخبروك دائما ورائي» و«أرغمني جندك أن آكل من حذائي» و«يا سيدي السلطان/ لقد خسرت الحرب مرتين/ لأن نصف شعبنا… ليس له لسان».
لكن عندما مات عبد الناصر كتب الشاعر نفسه: «قتلناك… يا آخر الأنبياء/ قتلناك…/ ليس جديدا علينا/ اغتيال الصحابة والأولياء» وينتهي مقطع هذه القصيدة نفسه، باستعادة تاريخ الندم بالقول: «فتاريخنا كله محنة/ وأيامنا كلها كربلاء» وبذلك تنقفل الدائرة مجددا على كربلائية جديدة، يقتل فيها الزعيم السياسي، بما هو الرمز المقدس والطوطم الذي أكل أبناءه (على عكس أطروحة فرويد) فأقاموا حفلة بكاء عليه محاولين، من فترة لأخرى، إعادة عصره «الذهبي».

*القدس العربي