قدّمت صحيفة «عكاظ» السعودية مؤخرا حوارا هاتفيا مع سعدي يوسف، ولم يبخل الشاعر العراقي الكبير علينا فيه بتقديم دفاع مستجد عن آراء سابقة في شعراء أو أدباء آخرين، ومنها قوله إن عبد الوهاب البياتي «لم يكن يحب أي شاعر» (والذي أتبعه مباشرة، ويا للعجب، بالقول إنه «قلما تستهويني التجارب الشعرية الحديثة»)، وحين سئل عن جبرا إبراهيم جبرا قال، إنه لم يكن «فاعلا في التجربة الحداثية. خدم الثقافة الرجعية وانحاز لمصالحه الشخصية»، وأن الجواهري «يعتني بصقل التراكيب اللفظية والمعجمية من دون معاناة مع القصيدة»، ولم يفلت من نقده، من شعراء القديم والحديث، غير امرئ القيس، الذي اعتبره الشاعر العربي الأبرز، «بحكم علاقته بالمكان والإنسان».
ختاما لهذه الآراء الثقافية التي تقول الشيء ونقيضه يطرح يوسف، جملة تصريحات لا تقل مفارقة وغرابة، فجوابا على سؤال عن سبب ترك بدر شاكر السياب للحزب الشيوعي يقول «الشيوعي الأخير»، كما يسمي نفسه، إن «الحزب كان يكره المبدعين»، وحين يسأل عن التحولات في السعودية يقول إن «المملكة خير من الجمهوريات العربية كلها»، يوجّه بعدها التحية لولي العهد السعودي مطالبا الصحافي، الذي يجري الحوار بأن ينقل للأمير أن «سعدي يوسف يحييك ويقدر لك إخراج قدرات شعبك من القمقم»، متمنيا، في نهاية حواره أن يكون بين أهله في جزيرة العرب «حيث الجذور»، لأنه برم من العيش في الغرب أكثر من عقدين.
تناولت هذه الزاوية، خلال مسعاها لتحليل ظواهر ثقافية – سياسية، بعض آراء سعدي يوسف المثيرة للجدل، ومنها تعريضه بالشاعر الكبير نزار قباني، سياسيا وأخلاقيا وأدبيا، وأحاديثه المناهضة للثورات العربية، واعتبارها «صناعة أمريكية»، وتوصيفه النظام السوري، ضمن هذا السياق، بأنه «مقاوم وممانع»، وتشنيعه ببعض وجوه المعارضة السورية، ووصفه لاجئين سوريين إلى الجزائر بأنهم «إرهابيون ابتعثهم الجنرال برهان غليون»، وصولا إلى تصريحه «الفلتة» بأن «الشعوب عميلة، بمعرفتها أو بدون معرفتها»!
الحزب الذي يخلّد الشاعر ويكره المبدعين
لا يمكن تجاهل، أدبيا وسياسيا، تصريحات سعدي، فهو شخصية عامّة تمتلك رصيدا إبداعيا كبيرا، فهذه التصريحات تأتي مدججة بتاريخ طويل من الشعر والترجمة والعمل الإبداعي، يسنده تاريخ من العلاقة العضوية بالحزب الشيوعي العراقي، ورغم أن هذا الحزب، حسب قوله، «يكره المبدعين»، فإن الوجه الآخر لهذه المقولة، هو أن الحزب، والجوقة العالمية المرتبطة به، كان جزءا من آلة إعلامية كبيرة دعمت سعدي يوسف شخصيا، وعليه فعلينا أن نقرأ تصريحه ضمن قراءتنا لمعنى هذا الوصف السلبيّ في ضوء توصيفه لنفسه بأنه «الشيوعي الأخير»، وبالأحرى، ضمن سياق خطابه، الذي تلعب هذه التناقضات والمفارقات والتقلّبات دورا أساسيا في صناعته.
تحمل مفارقات وتناقضات سعدي يوسف قابلية لتكون موضوعا للتفكّه والسخرية أو التسلية، لكن التناقضات الأدبية والسياسية والشخصية الكثيرة التي يتحفنا بها، لو أردنا أن نكون واقعيين، تمثّل تلخيصا للمشهد السياسي والأدبي العربيّ المعقّد حاليا، أو جزءا مهما منه. يجد يوسف مثاله الشعري في امرؤ القيس، الملك الضليل، الذي مات وهو يحاول استعادة ملكه، وهذا ليس خيارا معرفيّا يعود للذائقة الأدبية، بل يتعلّق بنزوع يوسف إلى أسطرة نفسه، بحيث يلتقي بأول شعراء العربية، ويمسح في طريقه، شعراء اللغة الآخرين الكبار، كالمتنبي وأبي تمام والمعرّي وجرير والفرزدق الخ، كما يمسح شعراء العربية الحديثين، من أحمد شوقي إلى نزار قباني وإيليا أبي ماضي وبشارة الخوري، وصولا إلى محمود درويش وجيل واسع من الشعراء المهمين.
يجد يوسف، مع ذلك صلة بعبد الرحمن منيف، الذي كانت «مدن الملح» أشهر رواياته، وهي رواية تقدم تشريحا نقديا لنشوء المملكة العربية السعودية، ودول الخليج عموما، لكنه يتواجه مع إرث منيف سياسيا، حين يزجي ولي العهد السعودي مديحا كبيرا ويعتبر المملكة «خيرا من كل الجمهوريات العربية»، كما يجد صلة بطه حسين، متحدثا عن تراثه التنويري والتعليمي، من دون إحساس بالمفارقة الكبرى التي تمثلها مواقفه السياسية والأدبية، التي تخلط كل شيء بخلاط عجيب.
الثورات صناعة أمريكية
تتقافز آراء سعدي يوسف بسهولة (شعرية) من الشخصي إلى العام، ومن عرض آرائه في الشعر واللغة والتراث والتاريخ، إلى اختلاطها بتفاصيل الأحوال اليومية، فتسوح بين نقد «الرجعية العربية»، واعتبار المملكة العربية السعودية أفضل من كل الجمهوريات العربية، ومن التنديد بكره الأحزاب الشيوعية للمبدعين، إلى التغنّي الميثولوجي بالشيوعية، واعتبار نفسه «الشيوعي الأخير»، ومن قضاء جلّ عمره يحرّض على قيام الثورة، إلى هجائه المقذع لتلك الثورات حين تقوم فعلا، واعتبارها «صناعة أمريكية» تم تركيبها وصوغها في «البيت الأبيض». لا يجد منطق يوسف تناقضا في نقده العنيف الشرس والمقذع أحيانا كثيرة للأنظمة العربية، بما فيها النظام العراقي، السابق واللاحق، إلى اعتبار النظام السوري، الذي هو حليف النظام العراقي الحالي، قلعة للمقاومة ضد الإمبريالية، وفي الوقت الذي يقول في المقابلة الأخيرة إن «التهديد الفارسي» هو «الخطر الأكبر على الأمة العربية»، وأن «الفرس لا علاقة لهم بالدين الإسلامي»، فإنه لا يرى أن هذا «التهديد الفارسي» الذي تمثله الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو الحليف الأكبر لنظام الممانعة «العلماني» في سوريا، وفي حين يندد بالإمبريالية التي صنعت الثورات العربية، فإنه يزجي المديح للسعودية وولي عهدها، متجاهلا العلاقة الحميمة التي تربط إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو من يفترض أنه رأس الإمبريالية، بالمملكة التي يزجي إليها المديح.
لقاء الأعداء
في مديحه للمملكة وولي عهدها، الذي أخرج قدرات شعبه «من القمقم»، وإعلان رغبته أن يكون «بين أهلي في جزيرة العرب»، والحديث عن تبرمه من العيش في الغرب مدة عقدين، لا يعود الأمر تجاهلا معرفيا أو دبلوماسية، من شاعر وكاتب لم تعرف عنه الدبلوماسية، ولا يدخل في باب المديح والتكسب على طريقة الشعراء القدامى، وحسب، بل يوفّر، بالأحرى، حالة مثلى لقراءة ظاهرة الهبوط التاريخي للمثقف العربي.
يدور العالم حول شخص يوسف، وهو ما يفسّر، نفسيا، تلك التناقضات المذهلة، لكنّ من الكسل المعرفيّ أن نبرّر خطابه السياسي بنرجسية الشاعر وامتلاكه الطفوليّ للعالم، فخطاب يوسف ليس مقطوع الصلة بالعالم، وهناك أشباه ونظائر كثر لسعدي في العالم العربي. هناك أكثر من «شيوعي أخير» في سوريا والجزائر والبحرين وباقي دساكر العرب، لكنّ وجودهم لا يرتبط وحسب بعوامل الحتّ الطبيعية، التي تعرض لها اليسار العربي، فهم، بالأحرى، جزء من نخبة تتوزع على أطياف القوس السياسي، وتجمعها الرابطة الوثيقة بالاستبداد بأشكاله السياسي والاجتماعي والديني، ورغم علاقة يوسف الشهيرة بالشيوعيين، فإن الأمر يفيض عنهم، ويمكن سحبه على أعداء الشيوعيين الألدّاء، من قوميين عرب، هبطوا من النضال الجماهيري للدفاع عن الكادحين، ليصبحوا جزءا من دين يعبد الجيش والقوّة وتحطيم البشر، وإسلاميين، بدأوا بخطاب الدعوة الإسلامية، لكن ما لبث أن فتنوا بخطاب الاستبداد القومي والماركسي، وساهم القمع الوحشي ضدهم، في تحوّلات قاسية، ليشكل جزء منهم صورة فظّة للسياسة والإسلام، ساهم في نشر تنظيمات كاسرة وقمعيّة وإرهابية.
إشكالية سعـــدي يوسف، هي جزء من إشكالية كبرى، ومن نخب أرادت قيادة بلدانها، بطرق الاستبداد نحو الحرية، وبأفكار العصابات نحو الوحدة (العربية أو الإسلامية)، وبنظم الإجرام والهمجية نحو الحرية، وبذلك تعرضت، وعرّضت شعوبها، إلى أسوار أوقفت نموّ تلك النخب العربية وأصابتها بالإعاقة السياسية والفكرية التي نشهد آثارها حاليا.
*المصدر: القدس العربي