نشر الكاتب السوري بكر صدقي، على صفحته في «فيسبوك» قبل أشهر، بضع «بوستات» طريفة حول العلاقة بين الشوارب والسياسة في تركيا، فذكر أن كل رجال حزب «العدالة والتنمية» بشوارب، فيما كل ضباط الجيش التركي بلا شوارب، كما نشر خبر تداول وسائط التواصل الاجتماعي التركية، صورا لاجتماع وفد تركي برئاسة رجب طيب اردوغان، بآخر أمريكي برئاسة دونالد ترامب، يظهر أن الوفد التركي كله رجال بشوارب باستثناء وزير الدفاع خلوصي أكار، كما أشار صدقي إلى سؤال بائع تركي له، إن كان يساريا، مشيرا إلى أن ميول الأتراك الأيديولوجية تعرف من شكل الشوارب، أو الشعر أو غيرها من المظاهر.
أوردت حينها معقّبا على الموضوع مقطعاً من كتاب الإيرانية آذر نفيسي «أن تقرأ لوليتا في طهران» يذكر أن اليساريين بعد الثورة الإيرانية كانوا يغطون شفاههم العليا بشوارب كثة تميزهم عن الإسلاميين، الذين كانوا يتركون مسافة حافة موسى بين شفاههم وشواربهم، أو يربّون لحاهم حتى تطول، أو يطلقونها لتنمو خفيفة نابتة، أما اليساريات فكن يرتدين قمصانا فضفاضة، تتهدل على بنطلونات مهلهلة باللون الكاكي أو الأخضر الغامق، بينما ترتدي الإسلاميات إيشاربات رأس أو تشادور.
معلوم طبعا أن هذه الإشارات الرمزية الواضحة التي تربط بين الشارب واللحية، عند الذكور، ونوع اللباس وطريقة لبسه، لدى الإناث، ارتبطت بمجالات السياسة والدين، بشكل رئيسي، في كافة أنحاء العالم، منذ نشوء الحضارة، وقد كانت دائما مجالا للتعبير عن صراعات سياسية، ولكنّها كانت أيضاً، وما تزال مجالا للتعبير عن عوامل عديدة معقدة اقتصادية واجتماعية، وإضافة إلى المظاهر الدينية والسياسية، فقد تم التعبير عن هذه القضايا في الأدب والفنون والأزياء وغيرها.
تداول فقهاء الإسلام أحاديث منسوبة للنبي محمد حول إعفاء اللحية وحفّ الشارب لأسباب أهمّها «مخالفة المجوس» الذين كانوا، على ما يبدو، يعتنون بالشوارب ويحلقون اللحية، وستجد في كتب الفقه السني أبوابا مثل «بلوغ المآرب في قص الشوارب» للسيوطي، كما تجد في الفقه الشيعي كتابا مثل «تحفة الطالب في حكم اللحية والشارب» لآية الله السيد جعفر بحر العلوم، وبهذا التقليد الشهير يظهر شكل من الصراع التاريخي السياسي والديني، انتقل من المؤقّت، الذي كانت تمثله مخالفة الفرس، إلى المؤبّد الذي تحتفظ به تقاليد الدين وتحافظ عليه، رغم زوال أسبابه، في تمثيل لأحد الإشكاليات الكبيرة للفقه الإسلامي التقليدي.
اللحى بين المتنبي وزكريا تامر
من أشهر نماذج نقد هذا التقليد الإسلامي بيت للشاعر أبي الطيب المتنبي يقول: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم، وفي شرح الشاعر أبو العلاء المعري للبيت يقول إن تلك كانت عادة أهل مصر حينها، وأن مراد المتنبي القول: «اقتصرتم من الدين على ذلك، وعطلتم سائر أحكامه، ورضيتم بولاية كافور (الإخشيدي) عليكم مع خسته».
يربط المتنبي في بيته الشعريّ ذاك إذن بين التمسك الشكلي بمظاهر الدين، والقبول بالحاكم الخسيس، أي أنه ينتقد الخنوع السياسي والتديّن السلفيّ الجامد، مقدما بذلك مثالا فذا، عن قضيّة إشكاليّة ما تزال تعاني منها المجتمعات الإسلامية حتى الآن، وهناك جماعات سلفيّة عديدة تعتبر هذه الشكليّات المركز الذي تدور حوله.
تقدم قصة للقاص السوري زكريا تامر عنوانها «اللحى» معالجة ساخرة ومؤلمة للموضوع، وتتحدث عن مدينة تحاصرها جيوش تيمورلنك، فيقرر رجالها المتفاخرون بلحاهم تسليمها من دون حرب، ولا يمانعون حتى في تسليم نسائهم، غير أن تيمورلنك يقول لهم إنه لا يبغي ذهبا ولا نساء، وقد علم أن الحلاقين مظلومون في المدينة، فقرر ألا يرحل عن المدينة حتى يحلق الرجال لحاهم، وكان سؤال الرجال: ما الفائدة إذا ربحنا الحياة وخسرنا اللحى، والنتيجة كانت دخول الغازي إلى المدينة ورفعه جبلا من رؤوس رجالها الذين ماتوا وهم فخورون بلحاهم.
نشر تامر القصة في مجلّة «أدب» التي كان يرأسها الشاعر يوسف الخال، وفي نقاش معه قال لي إن محمد الزعبي، وزير الإعلام آنذاك قال له إنه مضطر لمنع المجلة لأن الناس سيقرأون فيها أحداث خلاف كان ناشبا حينها بين صلاح جديد، الذي كان رئيس السلطة عمليا آنذاك، والشيخ حسن حبنكة الميداني، وهنا نجد نموذجا مستجدا لثيمة قصيدة المتنبي، عبر الرابطة بين السخرية المذهلة من التديّن الشكلي والنقد الشرس للديكتاتور.
لماذا قصّر هتلر شاربه؟
دخلت اللحى والشوارب في الأزمنة الحديثة طورا لافتا مع ارتباطها بزعماء الأيديولوجيات الكبرى (الأديان الحديثة للإنسانية)، فقد انزاح على سبيل المثال، التأثر الأيديولوجي بالزعيم الشيوعي جوزيف ستالين على أجيال من السياسيين، إلى محاولة تمثّل الشخصية وليس الأيديولوجيا وحسب، وليست مصادفة إذن أن يلتزم زعماء شيوعيون عرب كبار بالشوارب كما فعل فهد العراقي وخالد بكداش السوري وجورج حاوي اللبناني، وصولا إلى عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، ومن المثير للتأمل، حين تجد صورة لقادة الشيوعية الكبار، ماركس وأنجلز ولينين وستالين، كيف أن الأولين اشتهرا بلحيتين كثتين، أما لينين فكان يحمل شاربا ولحية صغيرة (عثنون)، لينتهي الأمر بستالين ذي الشارب الكثّ، وقد شاع قول منسوب للزعيم الشيوعي اليوغوسلافي جوزيف تيتو يسخر بطريقة مبطنة من ستالين بالقول إنه «معروف في كل العالم بسبب شاربه».
لم يقتصر الأمر على السياسة طبعا ففي بريطانيا، زمن الشاعر اللورد بايرون، درجت موضة تقلد الشاعر الذي حافظ على وجهه حليقا خاليا من الشعر، باستثناء شارب رفيع وانسيابي الشكل، ولعدة عقود سادت موضة شوارب بايرون، إلى أن تغير الحال عام 1854 مع بداية حرب القرم، حيث عادت اللحى الكثيفة مع انتهائها وصارت اللحية رمزا للبطولة والرجولة، وكادت الشوارب تختفي، وعلى حد قول كاتب اسمه فرانك ريتشاردسون: كانت تلك أوقاتا صعبة للشوارب!
وفي إسبانيا تأثر المعجبون بشارب الرسام السيريالي الشهير سلفادور دالي، إلى حد أن تصويتا جرى على كونه شاربيه هما الأكثر شهرة وتميزا في العالم، وحين سئل إن كان شاربه مزحة، أجاب أنه أكثر العناصر جدية في شخصيته، وقد سجل مسلسل إسباني يدعى «بيت الورق» La Casa de Papel نجاحا عالميا كبيرا مؤخرا، باستخدام أبطاله قناعا يمثل شارب دالي رمزه الأساسي، وهو يشبه بالشكل والدلالات قناع غاي فوكس الشهير باللحية المخططة والشارب الطويل، الذي تستخدمه حركة «أنونيموس» العالمية التي تقاوم سلطات العالم عبر الإنترنت.
وحسب سلسلة وثائقية عرضت في قناة التاريخ البريطانية، فإن شارب هتلر كان طويلا ومدببا، وأنه اضطر لقصّه بالشكل الذي أصبح «العلامة» التي تميزه، بسبب اضطراره لاستخدام قناع الغاز خلال الحرب العالمية الأولى، والمفارقة الكبيرة في هذا الموضوع أن شارب هتلر كان أقرب لموضة شعبية أوروبية قبل الحرب العالمية الثانية، ولكنّ صعود النازية وتداعياتها على العالم أدت إلى كراهية الناس لهذا الشارب.
حسب قول منسوب لجبران خليل جبران، يكون الإنسان بعد عمر الأربعين مسؤولا عن شكله، ولكنّ الحقيقة أن مسؤولية الإنسان عن شكله تحددها عوامل كثيرة، لا تفهم كلّها بالمنطق الظاهري للأمور، وتخلط عناصرها، في موضوع اللحى والشوارب، بين الشخصي والبيولوجي مع الديني والسياسي، فهي تعبير عن انتماء لجماعة أكبر، دينيّة أو سياسية، ولكنّها قد تكون وسيلة الفرد للاختلاف والتميز.
المصدر : القدس العربي