حسام الدين محمد: الجائحة العلمانية والكوڤيديا الإلهية!

0

لاحظ كتاب ومثقفون ظواهر ناتجة عما حصل بعد انتشار جائحة كورونا المستجد، في ما يتعلّق بالأديان، تتراوح بين اعتبار أن الظاهرة كشفت «العلمنة الكاملة للكوكب»، على حد تعبير شادي لويس بطرس، وأنها أدت إلى «انشطار هائل» بين الأديان والقيّمين عليها، بحيث أطاح الوباء بالجميع «وحتى بهيبة الأماكن المقدسة»، على حد قول فرج بيرقدار، فيما كتب راتب شعبو أننا «نشهد «إمكانية نشوء مرحلة جديدة من تاريخ الأديان» بعد أن أظهرت الشهور القليلة الماضية «الإفلاس المعلن الذي تعيشه المؤسسات الدينية»، وقد طرح آخرون هذا الموضوع في آراء تراوحت بين إبداء الاحتقار لممثلي الأديان، أو الناطقين باسمها نتيجة رفضهم لإجراءات السلطات، ورفض إقفال المعابد والكنائس والمساجد، وأنواع من مقاومة الأجراءات الأمنية والطبية، لأسباب أيديولوجية (واقتصادية).
في مقالته، «هل تؤسس الجائحة لدين جديد»، اعتبر شعبو أن خلاء دور العبادة، جعلها أماكن شديدة الدنيوية، كونها لم تستطع مقاومة ثقل جائحة الفيروس العالمية، فاستوت بذلك مع المدارس والمعامل والمحلات التجارية، ما أفقدها هيبتها الدينية وأي تمايز سماوي كانت تحظى به، فترأس البابا وحيدا الصلاة في ساحة كاتدرائية القديس بطرس، خوفا من الوباء، وألغى المسلمون مواسم الحج والصلوات في الجوامع، وبعض طقوس رمضان الاجتماعية، كما شهد العالم إلغاء للقدّاسات ولزيارات المقامات وصلوات الجماعة «لكل الأديان والمذاهب والفرق»، وبذلك رأى الجميع، إن «المزاعم الروحية الغامضة لرجال الدين تبخرت، وكأن السماء تخلت عنهم فجأة وباتوا عاجزين».
أمام هذا التهميش وتعرّي وظيفتهم الدنيوية، عبّر رجال الدين عن مقاومتهم لما يحصل، حسب راتب شعبو، في «تصريحات تعصبية تصل إلى حدود السخف التام»، فادعى رجال دين مسلمون ومسيحيون ويهود وهندوس، أن الوباء لا يصيب أتباع أديانهم، وتنصل بعضهم من الفيروس ونسبه إلى دين آخر والنتيجة أن «الجمهور من كل الأديان لم يعد ينتظر اليوم ما يقوله رجال دينهم».

دين جديد بلا رجال دين

تقدير الكاتب للجانب الروحي المهم للبشرية في الدين، قدّم فكرة جديدة، برؤيته في الهوة التي نشأت فجأة في وعي الناس، بين الدين ورجال الدين «لحظة نادرة في تاريخ البشرية يمكن أن يتأسس عليها نشوء دين إنساني عام، لا تتوسط فيه فئة من البشر بين الله والبشر، أي دين بلا رجال دين»، ويتراجع بالتالي الجانب الاجتماعي (أو المؤسساتي) من الدين لصالح الجانب الروحي. أظهر الوباء العالمي فعلا هيمنته الكبرى على البشر، وكشف، بشكل فضائحي أحيانا، تهافت كثير من سرديّات رجال الدين.

ولعل أكثر الأمثلة دلالة على هذا التهافت جرى مع طائفة غور حسيدي اليهودية، التي تصادف أن أحد زعمائها الكبار، يعكوف ليتسمان، كان أيضا وزيرا للصحة الإسرائيلية، والذي من مهامه الأساسية حماية صحة السكان عموما، وليس أبناء الطائفة فحسب، غير أن رد فعله الأوليّ تمثل في إعلان أن الوباء يعني قرب ظهور المسيح المنتظر (المشيّاح) في موعد عيد الفصح اليهودي، وحضوره بعض الصلوات الجماعية، والنتيجة أن الوزير وزوجته ونسبة كبيرة من طائفته أصيبوا بالمرض، وأصبحت مدن الحريديم وأحياؤهم بؤرا لتفشي الفيروس، واضطروا، بعد مقاومة عنيفة، لاتخاذ الإجراءات الصحية اللازمة، وكانت استقالة ليتسمان من وزارة الصحة الخاتمة الطبيعية لهذه القضية، وقد حصلت ردود فعل شبيهة لدى شخصيات من أديان أخرى، كما فعل علي رضا بناهيان، مستشار خامنئي للشؤون المذهبية، الذي اعتبر انتشار كورونا في العالم يمهد لظهور المهدي، وكما فعل علي خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية، بالحديث عن أعداء من الجن والأنس يشاركون في نشر الوباء، فيما رفضت جماعات إسلامية في باكستان وإندونيسيا الإجراءات واستمرت في الصلوات الجماعية، وخرجت طبعات عديدة من «الأدوية» ذات الطابع الديني، فتحدث مسلمون عن حبة البركة وزهرة البنفسج وقام هندوس بشرب بول البقر المقدس.

شي جين بينغ: كورونا شيطان

يندرج اعتبار السرديّات الدينية لظواهر الحياة، من الطبيعية منها، كالكوارث والأوبئة، إلى الحروب والطغيان والعدالة، وحتى تفاصيل الحياة اليومية في صلب نظرتها إلى العالم، باعتبار الله والأديان ملجأ البشريّ الذي لا يمكنه الإحاطة بمصيره الذي تتحكّم فيه هذه الظواهر الهائلة، فيما بشّرت سرديّات الحداثة البشريّة بحاكمية الجنس البشري، وبفكرة امتلاك البشر لمصائرهم، وقدرتهم على فهم للعالم وظواهره بطريقة غير دينية، وسنّهم قوانين لا تتوافق بالضرورة مع القوانين المستمدة من الأديان والشرائع.
يبدو هذا التقسيم للسرديّات، بين دينيّة وعلمانيّة، مقنعا ومتماسكا، غير أن الجائحة التي شملت مجمل سكان الأرض لم تضع البشريّة كلّها على طاولة المساءلة، بل قدّمت أيضا نماذج معقّدة ومختلفة لطرق تعامل البشر عموماً مع هذه الظاهرة، بحيث أظهرت أشكالا هائلة من التعصّب والتطرّف والسخف لا يقتصر على شخصيات وسرديّات دينية، بل على مجمل السرديّات والنظم والأيديولوجيات بحيث خلخلت الجائحة وأربكت السرديّات البشريّة كلّها، ووضعتها كلّها موضع تفحّص وتساؤل.
كان من المثير للتأمل، على سبيل المثال، أن الرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو قائد دولة متطرّفة في «علمانيّتها» وعدائها للأديان، لم يجد مصطلحا يصف به وباء كورونا سوى بالمصطلح الديني «شيطان».

العلمانية باعتبارها دينا

وإذا كانت الأديان عموما، ومؤسساتها، قد تعرّضت لهزّة عميقة أظهرت تهافت ردود فعلها على ظاهرة كورونا، كما أدّت إلى قطع طرق التأثير المباشر والتجمع واستقبال التبرعات التقليدية، فإنّها، من جهة أخرى، أظهرت استشراف بعض قادتها للتطوّرات، والفعل الإيجابي فيها، كما يفعل البابا الحاليّ، قائد الكنيسة الكاثوليكية، في مجمل تصريحاته المتعلّقة بالمناخ، وأشكال الطغيان السياسي والاقتصادي، كما أن بعض الكنائس البروتستانتية، كما الكنيسة الإنكليزية، استفادت من فتح قداسات رقميّة وفتح خطوط هاتف للمؤمنين بها، وهو ما أدى إلى زيادة كبيرة في أعداد الحضور الرقمي، فاق بكثير الأعداد التي كانت تحضر الكنيسة. لقد تعرّضت السرديات والمؤسسات الدينية لضربة كبيرة، لكنّ الحاجة إلى الدين زادت، وهذا ينطبق بالتأكيد على كافّة الأديان ومعتنقيها.
رغم ما يكشفه المشهد الظاهري الحالي من تعرّض الأديان، وممثليها، وسرديّاتها، لضربة كبرى، فإن ذلك يجب أن لا ينسينا أن المؤمنين بالعلمانيّة والعلم والتقنيّة، لم يكفّوا يوماّ عن التعامل معها كأيديولوجيات دينية. لقد استخدم النازيون، وهم أتباع حركة «علمانية» متطرفة النظريات العلمية، لخدمة سياساتهم العنصرية، وآمن الشيوعيون بأفكار ماركس ولينين، على أنها حقائق اقتصادية وسياسية وفيزيائية مطلقة، وكما تناول مفكرون وكتاب بالنقد هاتين الأيديولوجيتين فقد فككوا أيضا أسس أيديولوجيات مثل الليبرالية والإنسانية. لقد اعتمد العلم دائما على معتقدات دينية أو أيديولوجية لتمويل أبحاثه وتبريرها.
أجمل تعبير عن هذه الفكرة جاء من الكاتب الأردني هشام غانم، الذي اعتبر «الكوڤيدية» دينا جديدا يؤدي المعتنقون له صلاة «خليك في البيت»، معتبرا إياه أيديولوجية مصاحبة لفيروس كورونا تقوم على تقديس العزل والحجر وتقريع المتحفظين عليهما، والاحتفال بالحجر (المترافق مع مديح الدولة والسلطة) باعتباره إنجازا عظيما، واصفا بسخرية ما يحدث بـ»الكوڤيديا الإلهية»!

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here