في قصيدة نشرها بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 الشاعر السوري محمد سليمان الأحمد (المعروف ببدوي الجبل) ورد بيت مثير للتفكر يقول فيه: يسومنا الصنم الطاغي عبادته لن تعبد الشام إلا الواحد الأحدا.
كانت القصيدة واحدة من عدّة هجت زعماء مصر وسوريا بعد الهزيمة («كافور» و»من وحي الهزيمة»)، وأدت، كما تقول سيرة الشاعر، إلى محاولة لاغتياله بضربه بعصا حديدية على رأسه، ثم اختطافه لعدة أيام، فبقي بعد إطلاق سراحه يعاني من مشاكل في النطق والمشي، حتى توفّي عام 1981، وقد تبعت عائلة الشاعر لعنة الملاحقة والاختفاء والموت، فقتل ابنه منير عام 1992 (تعذيبا في فرع المخابرات العسكرية حسب بعض التقارير)، ومات أخوه المعارض للنظام ميتة غامضة في شقته في بلغاريا عام 1993، ومات ابناه جهينة وعدنان شابين (وهذا يفسّر، ربما، أن حفيده أحمد منير الأحمد، صار وزيرا لثقافة النظام السوري، في حركة «جدلية» يحتوي فيها النظام «تراثه» مع العائلة).
تعامل السوريون الثائرون مع تماثيل العائلة الرئاسية بطريقة هدم الأصنام الشهيرة في الثقافة الإسلامية، فيما تعامل النظام معها كرموز لسيطرته، فأخفى بعضها كي لا تتعرض للهدم، وأعاد نصب بعضها في المدن التي استعادها، وتعامل مع محطميها على أنهم مرتكبو خيانة عظمى (وهي التهمة الحديثة المناظرة للكفر في السرديّة الدينية) فالتمثال هو تعبير مجسّد لألوهية السلطة وخلود رموزها، ولعل هذه الحادثة ستكتسب معاني أكبر إذا عُرف أن والد الشاعر كان زعيما دينيا للطائفة العلوية، وأن مقر إقامته كان قرية لا تبعد كثيرا عن القرداحة، مسقط رأس عائلة الأسد، وهو ما يمكن أن يفسّر الطبيعة الثقافية والوجودية للنزاع المتعدد الأبعاد بين الجهتين، كما يفسّر العنف الهمجيّ الذي ووجه به الشاعر.
تتواجه مفردتا الصنم والتمثال في اللغة العربية، فالأولى من طبيعة دينيّة مرتبطة إلى حد كبير بنشوء الإسلام ونزوعه اللاحق لتحريم الرسم والتصوير والمنحوتات، وهو أمر دفع الفن الإسلامي نحو التجريد والهندسة واللغة والحكاية والشعر والبلاغة، أما الثانية فتنحو منحى حياديا، نابعا من فكرة التماثل والتشابه غيّر المحمّلة بتأويلات دينيّة.
الزعيم باعتباره صنما
تحوّل الرسم والفنون التصويرية والنحت والفنون الأخرى، كالمسرح والسينما والدراما، إلى علائم على الحداثة ودخول منظومات العرب والمسلمين السياسية والثقافية في عولمة المفاهيم الحديثة للفن، من جهة، وإلى التراث الديني السياسي الذي يرفع الملوك إلى سدّة الآلهة، ويبني أضرحة خالدة لهم، مرورا بأشكال أخرى من العمارة، كالقصور والقلاع والمعابد، وصولا، عبر الأيديولوجيات الحديثة، حيث استعملت التماثيل والنصب، في بلداننا، لتأليه وتعظيم الزعماء السياسيين، كتعبير عن هيمنة الدولة الحديثة، وسطوة القائد «الواحد الأحد»، الذي لم يكتف بجمع سلطات الجيش والأمن والمال، بل أضاف عليها سلطات القداسة التي تقارب كثيرا مفهوم الصنم في السردية الإسلامية.
اختلف فقهاء الإسلام في حكم التصوير «المجسّم التماثيل»، وحكم الرسم بين التحريم والكراهة، وترددت في كتبهم أن التصوير للإنسان والحيوان «لا بأس به» متى كان لأغراض علمية مفيدة للناس، «إذا خلت الصور والرسوم من مظاهر التعظيم ومظنة التكريم والعبادة»، ويشتبك هذا التفسير مع اشتغال الأنظمة الحديثة على «تديين» الزعماء وتقديسهم، بحيث يتلبّسون بسهولة، في الذاكرة التاريخية للشعوب الإسلامية، مفهوم الصنم الديني، والواضح أن هذا يدخل في صلب سياسة الأنظمة الحديثة على عمومها، والشمولية والديكتاتورية منها على الخصوص. تشير هذه العلاقة، لا في المجال الثقافي/السياسي العربي الإسلامي فحسب، بل في المجالات الثقافية الأخرى أيضا، ظاهريا، إلى صراع يتمّ تغليفه عادة ضمن عناوين نمطية من قبيل: التراث والمعاصرة، القديم والحديث، الدين والعلمانية («الثابت والمتحول» على حد تعبير أدونيس)، الأزهر والجامعة، وهي عناوين مفيدة للشرح المدرسي (بالمعنى السلبيّ للكلمة).
تتكشف هذه المتقابلات الثنائية المتعارضة، عند تفكيكها نقديا، عن ألغام قابلة للتفجر، فمحاولة الفصل العنيف بين ظواهر تاريخية متشابكة يؤدي، بالضرورة، إلى استعصاءات ثقافية وسياسية حادّة، تتعدّد الأمثلة الحاضرة عليها في عالمنا: من العلاقة الشائكة بين قضايا الدين والسياسة في العالم العربي، إلى إشكالات تطبيق العلمانية الفرنسية، وصولا إلى المعركة الثقافية القائمة حاليا في أمريكا وأوروبا حول التماثيل.
تظهر العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة في العالم العربيّ في ديناميّة إحلال المقدّس في السياسي، بحيث يتحوّل الزعيم (الرئيس أو الملك)، إلى مركز عبادة سياسيّة، إلى طوطم يكتسب قداسة السلطة واجتماع أركانها في يديه بشكل يتحدّى، بداهة، القداسة التقليدية. يتحوّل الزعيم إلى إله يؤدي المسّ به إلى «كفر» سياسيّ جسيم يستوجب عقوبات قاسية، تستلهم العقوبات الدينيّة وتفوقها في قسوتها أحيانا، لأنها تريد إثبات أن جبروت الزعيم أشد من جبروت الدين، ويقابل ذلك تسامح مدروس عن المسّ بالقداسات التقليدية لبلورة المقارنة بين المقدّس الدنيوي، والمقدّس الديني، وإظهار أيهما أعلى شأنا وخطورة، وفي هذه اللحظة الدينية/السياسية، يتحوّل تمثال الزعيم إلى صنم، ويصبح إسقاطه المعنى الرمزيّ الأقصى لإسقاط صاحبه.
إسلام السلطة و»الإسلام السياسي»
الديناميّة الإشكالية الأخرى الناتجة عن هذه العلاقة بين الدين والسياسة، تدور حول سلطة الزعيم المطلقة، التي لا تعتبر رساميل القوة ممثلة بالجيش والمخابرات والاقتصاد والسياسة حكرا عليها، بل تحتكر أيضا الرأسمال الرمزيّ الديني الذي تتحدّاه، حين يتطلّب الأمر، لكنها لا تفرّط في اعتباره جزءا من آلتها للهيمنة، ولهذا ترى في استخدام أي جهة خارج نطاق سيطرتها، خصوصا من تعتبرهم خصومها، لهذا الرأسمال، فعلا سياسيا مناهضا صريحا. المفارقة هنا أن السلطات العربية، والنخب المعاضدة لها – مباشرة أو مداورة – توظف، لوصف خصومها الذين يعتبرون الفكر الإسلامي أو الدين الإسلامي جزءا من عدتهم الفكرية، مصطلح «الإسلام السياسي» (بالتزامن مع توصيفهم بالإرهابيين طبعا)، وهو ما يفترض أن استخدام السلطات للإسلام (أو الأديان الأخرى بالطبع) ليس «إسلاما سياسيا»، وهذا يعني أنها محايدة تجاه المسألة الدينية، أو أن استخدام الدين في السياسة هو حقّ محتكر لها.
النتيجة المستخلصة من هذا النقاش هو أن مصطلح «الإسلام السياسي» ينطبق على السلطات وخصومها، بمن فيهم أصوليو العلمانية، الذين ينادون بـ»فصل الدين عن الدولة»، وفي أذهانهم طبعا العلمانية الغربية (في طبعتها الفرنسية خصوصا)، فأصوليو العلمانية يستخدمون الإسلام، مثل خصومهم، كتعلّة لترويج فكر الإبادة والاستئصال ضد أعدائهم الأيديولوجيين، وينتهي الأمر بهم، كما نرى في أنحاء الجغرافيا العربية، مناصرين أشداء للاستبداد، الذي، كما قلنا، يعتبر نفسه محتكر «الإسلام السياسي»، سواء بإحلال القداسة على الزعيم السياسي، أو بتحويل المؤسسات الدينية إلى مراكز تسويق «إسلام سياسي» للزعيم، بل وتحويلها، أحيانا، إلى جزء من المؤسسات الأمنية.
لا يريد أصوليو العلمانية العرب، «فصل الدين عن الدولة» فحسب، بل كذلك فصل هذا الشعار عن سياقه الواقعيّ التاريخي المتعين، خصوصا ارتباطه بالديمقراطية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكما كان الشيوعيون يرفعون شعار ديكتاتورية البروليتاريا، لكنهم يحتقرون دور البروليتاريا مقارنة بدورهم كـ»نخبة ثورية قائدة» فكذلك يرفع أولئك شعار «فصل الدين…» عن سياقه الاجتماعيّ ـ التاريخيّ. إذا كان التخلّص من حامل الأيديولوجية الدينية (وهي النسبة الكبرى من الشعب) غير ممكن، فإن «الإسلام السياسي» للسلطات وأصوليي العلمانية يسعى، على الأقل، إلى إبادة خصومهم الأيديولوجيين من «الإسلاميين»، ولو أدى ذلك، بالنتيجة، إلى تحوّل مجتمعاتنا العربية إلى ساحات للحروب الأهلية المعممة، حيث يتحوّل العلمانيّون الأصوليون إلى «مناضلين» منافحين عن الاستبداد السياسي ـ الديني القائم، ويتحول الإسلاميون الأصوليون إلى «مجاهدين» لنشر استبداد سياسي ـ ديني جديد.
*المصدر : القدس العربي