حسام الدين درويش: الطريقة الريمية في اللعب والنقاش

0

منذ بضع سنوات، وأنا ألعب كرة القدم مع ابني ريمي (7 سنين). وقد لاحظت مؤخرًا أنني لا أفوز في أيّ مباراة معه، وعند البحث عن الأسباب، ومراقبة ما حصل في مباراتنا الأخيرة، توصلت إلى ما يلي:

بعد تسجيلي لهدفٍ في مرماه، قرّر ريمي ليس إلغاء الهدف فحسب، بل إلغاء مرماه بالكامل أيضًا، فلم يعد باستطاعتي تسجيل أيّ هدف عليه، لأنه لا يوجد مرمى له لأسدّد عليه. وبهذا اقتصر اللعب معه على الدفاع عن مرماي، وتقليل كمية الأهداف المسجلة فيه. وبسبب نقص الكوادر البشرية، يتطوّع ريمي دائمًا للقيام بدور الحكم. وبالصدفة غير المحضة تكون قراراته، دائمًا تقريبًا، لصالحه وضدي. وهو لا يتردّد في إشهار البطاقات الحمر والصفر في وجهي، عند محاولتي الاحتجاج أو مناقشته في بعض قراراته القراقوشية.

بدا لي أنّ بعض الشخصيات الحاضرة في المجال العام تتبع “الطريقة الريمية” المذكورة. فالمذكورون ليس لديهم مرمى/ موقف واضح لمناقشته ونقده، بل يقتصرون على إعلان براءتهم من كلّ القوى السائدة والمواقف الممكنة في خصوص أيّ مسألة، ويكتفون بمهاجمة الجميع بدون معرفة البديل الذي يتبنونه، أو يقترحونه، بحيث يمكن الاستفادة من هذا البديل ونقده وتقويمه. فهم ضد النظام، وضد معارضته، وضد الرماديين أو الوسطيين، وضد أي مفاضلةٍ بينهم أو اقتراح بديل ممكنٍ وأنسب من أيٍّ منهم؛ أو هم ضد إسرائيل، وضد حماس، وضد سلطة رام الله، وضد المقاومة المسلحة، وضد المقاومة بالدبلوماسية، بدون أيّ مفاضلةٍ بين الأطراف والطرق. هم ضد أن يتحدث سوريو الخارج عن سورية، لأنهم خارج سورية ويمكن ألا يعودوا إليها مطلقًا؛ وفي المقابل هم يعلمون أن لا إمكانية، عمومًا، للحديث عن الشأن السوري العام في “سورية الأسد”. هم ضد اليمين المحافظ، واليسار الطائش؛ هم ضد الليبرالية الفردانية، وضد الجماعاتية المضادة لليبرالية، وضد الوسط التلفيقي أو التوفيقي … إلخ، في الوقت نفسه.

ونظرًا إلى حصانتهم من الهجمات المرتدة النقدية أو الانتقادية يكونون واثقين جدًّا من وفي “مواقفهم”، ولا تنتابهم أيّ شكوكٍ في خصوصها، ويقتصرون على الهجوم، ولعب دور الحكم، وتوزيع البطاقات الصفراء والحمراء، وإخراج هذا أو ذاك من “مجموعة الفهمانين” التي يتربعون على عرشها. وليس نادرًا أن تفضي هذه الجذرية إلى نزعةٍ عدميةٍ لا ترى معنىً للتمييز بين السيئ والأسوأ؛ فالكلّ سيئون، والاختلافات بينهم طفيفةٌ، ولا تستحق أي انتباهٍ أو مفاضلةٍ.

في الحياة عمومًا، وفي المجال المعرفي والأخلاقي خصوصًا، يمكن التمييز، مع وليم جيمس، بين طريقين أو طريقتين أساسيتين: الأولى تسعى، بالدرجة الأولى، إلى تجنّب السلبيات وعدم الوقوع في الأخطاء أو اقتراف الشرور والخطايا، قدر المستطاع؛ في حين تنشغل الثانية بتحقيق الإيجابيات ومعرفة ما هو حقيقيٌّ وخيِّرٌ، وممارسته عمليًّا، قدر المستطاع. من الواضح أنّ متبني “الطريقة الريمية” يتبنون، بوعيٍ أو بدونه، الطريقة الأولى. لكن ما ينبغي التشديد عليه، هنا، هو أنّ تجنّب الخطأ أو الباطل معرفيًّا، والخطيئة أو الشر أخلاقيًّا، لا يعني ولا يضمن الوصول إلى الحقيقة والخير، أو إلى الحق، بالمعنيين المعرفي والأخلاقي للكلمة. فالوصول إلى الحقيقة والخير يتطلب اتخاذ مواقف ما، والمغامرة بالوقوع في الخطأ أو ارتكاب الأخطاء والخطايا، من دون أن يعني ذلك، بالتأكيد، استسهال اتخاذ المواقف و”شلف الحكي” و”إلقاء الكلام على عواهنه”، بلا تفكيرٍ مسبقٍ أو بلا امتلاك تسويغاتٍ معقولةً وكافيةً، بالحدود الدنيا، على الأقل.

ومع ذلك، ليس سهلًا تجنّب الوقوع في فخ “الطريقة الريمية” في الحياة والمعرفة والأخلاق، لاتسامها بالجذرية الجذابة والفاتنة التي تتخذ غالبًا صيغة أو مضمون الطهرانية الأخلاقية. والطريف في الأمر أنّ متبني هذه الجذرية يقدمون الكثير من المحاجات الأخلاقية ليس ضد الموقف الأخلاقوي فحسب، بل ضد الموقف الأخلاقي أيضًاً. وعلى الرغم من أنّ ذلك الموقف الجذري يبدو مسوَّغًا ومعقولًا ومطلوبًا، في بعض الأحيان؛ من الضروري عدم استسهال الوقوع في أحضانه، وطرد الآخرين من الملعب، من أجل الاستئثار به. وعمومًا، ينطبق هذا الكلام علينا كلنا جميعًا  (“كلنا يعني كلنا”) بدون أن ينطبق، انطباقًا كاملًا، على أيٍّ منا.

ويكمن الخطر الأكبر عندما تتبنى مؤسساتٌ وأنظمةٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ “الطريقة الريمية”. ففي تحليله للعوامل أو الأسباب (الاقتصادية) التي أدت بالسوريين إلى الثورة على النظام الأسدي، تحدث محمد جمال باروت، في تأريخه لتلك الثورة، عن الابتعاد المتزايد لذلك النظام عن فلسفة “الملعب المنبسط”، وتحوّله المتسارع إلى “نظام احتكار القلة”. فعلى العكس من النزعة الاحتكارية والإقصائية المليئة بالاستثناءات والقواعد المختلفة غير المنصفة، تتضمن فلسفة “الملعب المنبسط” مواجهة “جميع اللاعبين في الساحة الاقتصادية القواعد ذاتها، بعامةٍ، في إطار بيئةٍ مؤسسيةٍ وتشريعيةٍ مناوئةٍ للاحتكار، وحاميةٍ للمنافسة”.

لم أقم بالثورة على ريمي، لأنه، نتيجةً لمناقشاتٍ مستفيضةٍ معه، بدأ يدرك أنّ طريقته في اللعب تفضي إلى تحقيقه فوزًا غير مستحقٍ، ولا يحظى بأيّ اعترافٍ جديٍّ. واستجابةً لاحتجاجاتي، وتجنبًا لتنفيذي لتهديداتي بالثورة عليه، بدأ ريمي عملية إصلاحٍ لنظام اللعب ولمضامين العلاقة القائمة بيننا. في المقابل، لم يستجب النظام الأسدي للمطالبات بالإصلاح ولضروراته، فاضطر سوريون كثر إلى اتخاذ موقفٍ ثوريٍ واضحٍ منه. وإذا كان نيتشه يرى أنه “إذا أردنا أن نجني أجمل ما في الوجود، ينبغي أن نعيش في خطرٍ”، فهناك، في المقابل، من حاول ويستمر في محاولة تجنّب الاختيار، وفي ظنه أنّ ذلك يجنِّبه مسؤولية الوقوع في الخطأ والخطر. لكن هناك من يرى أنّ مواجهة الخطر ليست خيارًا بين الخيارات، بل هي الخيار الوحيد في الحياة، وأنّ السؤال الرئيس، في هذا الخصوص، هو “ما الخطر الذي ينبغي لنا اختياره؟”، أو “ما الموقف الذي ينبغي لنا اتخاذه في مواجهة هذه الأخطار؟”.

*العربي الجديد