كان المرحوم نادر شاليش أحد أولئك الذين هُجِّروا من بيوتهم من جراء قصف منزله في كفر نبودة بريف حماه، ليلجأ بعدها إلى مخيم أطمة على الحدود السورية التركية، وهناك كتب قصيدة رائعة عن داره بعنوان “أرسلت روحي إلى داري”، تركت أثرًا كبيرًا في أذهان السوريين، ويتجدّد حضورها إبان كل موجة نزوح جديدة، ولذلك ليس غريبًا أن يبكيه كثيرون من السوريين، وهو الذي مات في منفاه قهرًا لتهجيره عن بلده وبلدته وداره.
يقول شاليش في قصيدته، من دون أن ينجح في إخفاء حشرجات اللوعة في أثناء إلقائها:
أَرْسَلْتُ رُوْحِيْ إلَى دَارِيْ تَطوف بِهَا … لَمَّا خُطَانَا إِليْهَا مالَهَا سُبُلُ
أَنْ تَسْأَلَ الدَّارَ إِنْ كانَتْ تَذَكَّرُنَا … أَمْ أَنَّهَا نَسِيَتْ إذْ أَهْلُهَا رَحَلُوا
هَيْهَاتُ يَا دَارُ أَنْ تَصْبُو الحَيَاةُ بِنَا … وَيَرْجِعُ الْجَمْعُ بَعْدَ النَّأْيِ مُكْتَمِلُ
لَكِنَّ رُوْحِيْ سَتَبْقَى فِيْهَا سَاكِنَةً … مَالِيْ بِأَطْمَةَ لا شَاةٌ ولا جَمَلُ
ومثله فعل في الماضي الشاعر حسني غراب المولود عام 1899 عندما كتب عن مدينته حمص، وداره التي يحنّ إليها:
أبعد حمص لنا دمع يراق على… منازل أم بنا من حادثات هلع؟
دارٌ نـحن إليـها كلــما ذكرت… كأنما هي من أكبادنا قطعُ
وملـعبٌ للصبا نـأسى لــفرقته… كأنه من سواد العين منتزعُ
لعلّ أكثر الأسئلة التي تخطر في بال السوريين الذين هُجِّروا من وطنهم وبيوتهم هو السؤال الذي يتناول الحيرة بين الموطن الجديد والموطن القديم؛ إذ يحتار المرء، وهذا في اعتقادي طبيعي، بين إبقاء سورية في ذاكرته أو نسيانها، بين أن يحرِّض نفسه وأبناءه وغيرهم على الاحتفاظ بسورية في الوجدان، وبين الاندماج في الأوطان الجديدة.
كثيرًا ما كان السؤال عن الوطن سؤالًا مثيرًا للجدل والحيرة؛ ما الوطن؟ هل هو الجغرافيا؟ يقول بعضهم الوطن هو حيث تعيش بحرية وكرامة، وتُصان حقوقك، فالوطن ليس جبالًا وأشجارًا وماءً وشوارع ومبانٍ ومقاهٍ وغيرها. نعم هذا صحيح، لكن هل تمنع هذه القناعة، أو الوطن الجديد، المرءَ من أن يشتاق إلى ما تعوَّده؟! وفي حال لم يكن قادرًا على الخروج من دائرة الحنين، فهل نسمي ذلك مرضًا؟!
في بدايات حياتي، كنت أستمع إلى أقاربي يتحدثون عن الجولان، وعن بلدتهم في الحمة السورية، كفر حارب، في آخر نقطة على الحدود السورية الفلسطينية، فوق بحيرة طبريا، أحاديث متخمة بالشوق والحنين والذكريات، أحيانًا يبكون، وأحيانًا يستذكرون ما يضحكهم. لم تكن ذكرياتهم تلك تثير شيئًا فينا نحن الصغار بحكم عدم معرفتنا بالمكان وولادتنا في دمشق، ولم يكن نادرًا أن أستنكر تعلقهم بالماضي أكثر كثيرًا من الحاضر.
كتب جدي، عبدالرحمن جبر الخالدي، قصيدة عن داره التي فقدها بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، نازحًا باتجاه دمشق، يقول فيها:
ألا يا دار فيها قد ربينا… وفي جنباتها عشنا سنينا
سأبني من طلولك لي مصلى… وأجعل من خيالك لي خدينا
وكانت رؤية الدموع في عينيه معتادة بالنسبة إلينا كلما اقتحمت دارُه روحَه وذاكرتَه، ولا يلبث أن يردِّد بيتين آخرين من شعره:
هواها لا أروم سوى هواها… فتاة صبابتي وأنا فتاها
أحبّ العالمون دمًا ولحمًا… وأحببت الديارَ ولا سواها
نظرتي إلى هذا الأمر تغيَّرت بعد التجربة الشخصية؛ لا شيء يستطيع منع المرء من الحنين إلى داره حتى لو كان العقل حاضرًا في حياته في كل كبيرة وصغيرة. على الرغم من أن هناك مدنًا كثيرة أجمل من دمشق، لكن هذا لم يمنع كثيرين من أن يشتاقوا إلى بيوتهم وحيواتهم السابقة فيها، على الرغم من معرفتهم بمساوئها وعيوبها عند مقارنتها بمدن عديدة في العالم. أيضًا لا شيء يستطيع إقناع الأجيال الجديدة بضرورة الإبقاء على صلتهم الروحية بمواطن أهاليهم الأصلية، وإن حدث ذلك فهو مصطنع وغير حقيقي.
من الطبيعي أن تكون أرواحنا اليوم ممزقة بين الماضي والحاضر، بين الوطن القديم والوطن الجديد، بين محبة الوطن وكراهيته، بين الإصرار على الاستذكار ومحاولات محو الذاكرة، بين فصل الوطن عن النظام الحاكم وبين إدماجهما في مركب واحد، وما يكتنف ذلك من مقارنات ومفارقات تبدأ ولا تنتهي. أليس غريبًا أن كثيرًا من السوريين خارج سورية يشتاقون إليها، وكثيرًا من السوريين داخل سورية يتمنون مغادرتها؟! هذه المفارقة وحدها كفيلة بإسقاط ألف نظام حاكم؛ كل الأسئلة السابقة تثير الحيرة والقلق، وكل المشاعر مفهومة ومشروعة، لكن ما هو ثابت هو أن التهجير جريمة كبرى توازي جرائم الإبادة وكل الجرائم ضد الإنسانية.
من حق بعضنا أن يستنكر مقولة أن مرور الأيام تنسي الإنسان وطنه وداره، فماذا يفعل ذاك الذي ما زال يستذكر طفولته وشبابه والروائح التي تنشّقها ورفقة الأحباب والأصدقاء. ومن حق بعضنا الآخر أن يستنكر أي عمل لحشو الوطن والدار والذكريات عنوة في رأس الآخر. كل المشاعر طبيعية ومشروعة ومفهومة. لكن المسألة التي تحتاج إلى انتباه هي تلك الحالة من الحنين التي تأخذ صاحبها إلى الاكتئاب والعصبية والحزن الشديد والرغبة في الانعزال عن البشر وافتقاد الحافز والعجز عن القيام بالمهمات الحياتية البسيطة، بما يمنعه من التأقلم بفاعلية مع الواقع الجديد. هنا يأتي الحديث عن النوستالجيا التي تشير إلى الحالة النفسية التي يشعر فيها المرء بالحنين إلى مرحلة أقدم من حياته.
يتكون هذا التعبير، كما هو معروف، من كلمتين يونانيتين؛ (نوستوس Nóstos)، أي رحلة العودة، و(ألغوس álgos)، أي الألم والحزن. وفي العصر الإغريقي القديم، كتب هوميروس قصيدته الشهيرة (الأوديسة) التي صوّر فيها رحلة العودة للملك (أوديسيوس) إلى وطنه بعد حرب طروادة، لاستعادة عائلته وهويته، وواجه في أثنائها صعوبات عديدة ووحوشًا وغضب الآلهة.
استُخدمت الكلمة في سياق طبي في القرن 17 للدلالة على حالة مرضية تنتج من التعلق الشديد بالوطن، حيث لم تكن وقتها تعني مجرد حنينٍ إلى الماضي، بل مرضًا صريحًا؛ اعتقد الأطباء وقتها أن التفكير الزائد بالوطن يؤدي إلى أن يسحب العقل الدم من الجسم كله ما يؤدي إلى وفاة المرء. لكن استخدام الكلمة تغير عبر الزمن، ففي نهاية القرن 18 أصبحت تشير إلى التعلق المرضي بالأمكنة والأزمنة والأشخاص البعيدين أو الغائبين. وفي النصف الثاني من القرن 19، توقف استخدام الكلمة في الحقل الطبي، وأُدرجت الأعراض المرتبطة بها تحت داء الاكتئاب النفسي.
لكن النوستالجيا تفرض نفسها بأشكال أخرى على المشهد العالمي، خاصة في منطقتنا، عندما تتجلى بصورة الحنين إلى الماضي المجيد والرغبة في استعادة أمجاد الماضي وصناعة المستقبل انطلاقًا من الماضي. هذا ما تفعله كثير من الحركات القومية، العربية والكردية، ومعظم الحركات الإسلامية، على الرغم من أن الماضي أيضًا كان متخمًا بالحروب والعداوات والعنصرية والفقر وغيرها. النوستالجيا أيضًا عنصر رئيس في خطاب وسلوك عدد من السياسات العالمية، مثل سياسة بوتين التي ارتكزت على محاولة استعادة أمجاد السوفيات، وسياسة ترامب التي جعلت من شعار “أعيدوا أميركا عظيمة كمان كانت” في انتخابات الرئاسة، شعارًا لها.
على مستوى الثقافة المجتمعية تتمظهر النوستالجيا بالرغبة في نسيان الحاضر بإحباطاته وأزماته، والهروب إلى الماضي الجميل، نتيجة فقدان الثقة بما يجري في الحاضر، وهنا يصبح التعلق المرضي بالماضي ثقافة عامة ترتكز على تصوّر خيالي أو سحري للماضي، تصوّر غير قابل للنقاش أو النقد، وهذه الثقافة يمكن أن تستثمر فيها أنظمة وحركات سياسية متطرفة وعصبوية. ربما يصبّ أيضًا شعار “كنا عايشين” الذي يتردّد بين فينة وأخرى في هذا السياق، وإن كان متخمًا بشيء من الانتهازية. في العالم المعاصر أصبحت النوستالجيا أيضًا تشير إلى مشاعر الاغتراب والوحشة التي يعيشها الإنسان تجاه العالم، بسبب التعقيد الهائل الذي تفرضه الحياة المعاصرة على المستويات كافة.
بعض النوستالجيا طبيعي، هذا إن بقيت في حيز الحنين إلى الدار أو الأهل أو الوطن، ولم تذهب إلى حقل الثقافة أو السياسة أو إن لم تصل إلى درجة تشلّ قدرتنا على التعامل مع مشكلات الواقع الراهن، وإن لم تمنعنا من الاستغراق في لحظات السعادة التي يمكن أن نخلقها في الحاضر، وإن لم تقف عقبة أمام التعامل الإيجابي مع آمال مشروعة يمكن أن نؤسِّس لها طامحين إلى مستقبل آخر.
*المدن