هناك دائمًا تساؤل عن المستقبل. يطرح البشر على أنفسهم سؤال المستقبل في كل وقت وكل مكان، ولا يختلف البشر في هذا عن بعضهم بعضًا. لكنهم يختلفون ويتمايزون، في سياق الإجابة عن سؤال المستقبل، حول: قراءتهم لواقعهم الذي هو نقطة الانطلاق نحو المستقبل، المدى الزمني للمستقبل الذي يسألون عنه، هل يعني الغد أو بعد شهر أو سنوات، وحول الأهداف التي ينشدونها في المستقبل، والآليات التي يستخدمونها للوصول إلى أهدافهم. في السياسة، لا يمكن الحديث عن المستقبل من دون الإجابة عن الأسئلة الكبرى المطروحة علينا أو التي نطرحها على أنفسنا في ضوء القراءة الموضوعية للواقع.
هذا كله يندرج في خانة التفكير الاستراتيجي الذي يهتم بقراءة الواقع بخطوطه الأساسية الفاعلة، والإجابة عن أسئلته الكبرى، ومطابقة الأهداف مع الإمكانات المتوافرة أو الكامنة، ومن ثمّ الاستخدام الأمثل للإمكانات والوسائل المتوافرة. قد يكون من الضروري أحيانًا إنجاز بعض الأهداف المرحلية التي يؤدي تحقيقها إلى إحداث تغييرات مهمة تسمح بالوصول إلى الأهداف الأساسية أو الكبرى. يُضاف إلى ذلك أن الاستراتيجية الناجحة هي التي تنجح في اختيار الوسائل الأجدى والأقل تكلفة للوصول إلى الأهداف، أي التي تنجح في تأمين التوافق بين الوسيلة والهدف.
كان لدى النظام السوري، خلال العقد الماضي، استراتيجية محدّدة من حيث قراءتها للواقع وأسئلته الكبرى وأهدافها ووسائلها وآلياتها، فشلت المعارضة في قراءتها أو توصلت إلى بعضها في مراحل متأخرة. يمكننا أن نتخيّل كيف قرأ النظام الواقع والمستقبل، وكيف ناقش الأسئلة الكبرى بينه وبين نفسه: 1) لا أستطيع أن أرضخ لمطالب الثورة مهما كانت بسيطة؛ لأن أي تنازل سيفسَّر بوصفه ضعفًا، وقد أكون أمام سلسلة لا نهائية من التنازلات التي قد تؤدي إلى انهياري. أنا لا أقدِّم شيئًا تحت الضغط. 2) الآلية الرئيسة المنتجة في الداخل هي استخدام أقصى قدر ممكن من القمع؛ فالقمع إذا كان شديدًا ومعمّمًا يمكن أن يفي بالغرض. 3) أميركا لن تتدخل في سورية؛ فتجربة العراق غير مشجعة، ولا توجد لديها مصالح أو قوى فعلية في سورية. 4) مواقف الدول الأخرى غير مهمة بالنسبة إليّ؛ لأنها لا تستطيع أن تتحرك تحركًا فعليًا من دون قرار أميركي. 5) دول الخليج غير قادرة على إزعاجي في المآل، وبعضها سيفعل المستحيل من أجل ألّا تصل قوى إسلامية إلى السلطة في سورية. الدولة الوحيدة القادرة على إزعاجي نسبيًا هي تركيا، وهذه يمكن أن أشغلها بمعركة مع الكرد، وباللاجئين. 6) لا يستطيع “المجتمع الدولي” أن يسير إلى النهاية نحو إسقاطي؛ لأن أي مرحلة انتقالية بعدي، أو من دوني، قد تكون جحيمًا على المنطقة وعليه. لكن سيضغط “المجتمع الدولي” عليَّ كثيرًا، وأستطيع أن أتحمل الضغط، وسأنتظر حدوث تغيرات في إدارات الدول وأولوياتها. 7) خلط الثورة والمعارضة بالجهاديين والمتطرفين وصفة ناجحة ومجربة، وسيجدني الداخل والخارج دائمًا أفضل وأقدَر الموجود. 8) في حال وصلت إلى محطات حرجة، يمكنني أن أستعين بحلفاء قادرين؛ سقوطي ليس في مصلحة إيران أبدًا، وروسيا يمكن أن تستفيد من وجودي في مناكفة الغرب ومقايضته من جهة، وفي عودتها إلى الشرق الأوسط والساحة الدولية من جهة أخرى. 9) على العموم لدي أوراق مساومة عديدة يمكن أن تربك الآخرين أو تدفعهم لعقد صفقات معي، تحت الطاولة وفوقها؛ لبنان، الجولان، حزب الله والمنظمات الإسلامية، شبح الإسلاميين… إلخ. 10) لا توجد معارضة فعلية منظمة في سورية، وسيكون تنظيم الثورة في قوى سياسية مستحيلًا، ومن ثمّ لا خوف من تشكّل بديل قوي ومنظم، ثم إن التزاحم بين أقطابها، والخلافات الإثنية والطائفية والأيديولوجية بين “أجزائها” سيجعل حركتها صفرية، ويمكن إنهاكها أيضًا بالعمل الإغاثي واليومي.
وفي سياق تحقيق أهدافه، استخدم النظام وسائل عديدة تتوافق معها، مثل القمع، وتسطيح الإعلام، وهذا الأخير كفيل بأن يأتي بشخصيات سطحية أيضًا من الطرف المقابل، فالنظام فرض طبيعة المعركة الإعلامية ومستواها، والمعارضة لاقته في منتصف الطريق. لا شك في أن استراتيجية النظام كانت واقعية من زاوية رؤيته ومصالحه، وحافظت على وجوده، لكنه ليس الوجود المشتهى بالنسبة إليه بالطبع. في المقابل، كانت الحصيلة النهائية لاستراتيجيته هي خراب سورية، وتحولها إلى دولة هشة، تحتاج إلى مدة غير قليلة لتستعيد بعض عافيتها.
أما بالنسبة إلى المعارضة والثورة، خلال العقد الماضي، فلا توجد استراتيجية محدّدة فاعلة ومسيطرة، ويمكن تفهم ذلك في البدايات، لكن لا يمكن استيعابه في المراحل اللاحقة، خصوصًا لدى النخب السياسية والثقافية؛ اتّسم أداء المعارضة وتمثيلات الثورة، خلال العقد الفائت، بكونه عملًا تجريبيًا، منفعلًا، تابعًا، غارقًا في اليوميات، مشتتًا، فاقدًا للنواظم والإيقاع، مفرِغًا للثورة من محتواها، وراكضًا من دون وعي نحو الحفر التي صنعها النظام، لا يراكم ولا يستفيد من التجربة، ويكرِّر الأخطاء ذاتها، وتعبيراته يفني بعضها بعضًا.
الاستراتيجية الوحيدة التي كانت يمكن أن تكون مضمونة ومنتجة على المدى المتوسط والبعيد هي استراتيجية بناء التنظيمات السياسية القوية ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة، وبدلًا منها ذهبت الثورة والمعارضة نحو إنتاج تشكيلات سريعة بناء على الطلب الدولي في أغلب الأحيان، أو مؤخرًا بناء تشكيلات أخرى بصورة سريعة، وفق مقتضيات اللحظة الراهنة، بعيدًا عن الدول لكنها لا تختلف في أدائها ومفاهيمها وخطابها عن التشكيلات السابقة. سيكون النظام مطمئنًا جدًا من هذه الناحية؛ لا توجد بدائل سورية.
حتى على مستوى الخطاب الإعلامي، لم تكن هناك استراتيجيات توافقية، واقتصر الخطاب المعارض/ الثوري على التوصيف أو الشتم أو الوعود أو التنافس الشعبوي أو على إطراب قسم من السوريين بما يحبون أن يسمعوه في لحظة معينة، وذهبت المعارضة عمليًا إلى كل الأخطاء التي أراد النظام أن تصل إليها؛ خطاب انفعالي مؤقت، ومنفِّر، ووعود في الهواء، وخفّة على مستوى علاقاتها بالدول. ومن ثم تحولت إلى منصات تخدم دولًا أكثر مما تخدم سورية، متوهمة أنها تعمل وتنتج وتخدم سورية والسوريين.
لم تطرح المعارضة و”التعبيرات الثورية” على نفسها أسئلة استراتيجية كبرى؛ هل ستتدخل أميركا لمصلحة الثورة والمعارضة؟ هل يمكن إسقاط النظام بضربة واحدة أو هل يمكن إسقاطه أصلًا بالطرق التي تحدث عنها كثيرون وحاولوا تنفيذها؟ هل يمكن فعلًا تحقيق انتصار عسكري نهائي على النظام؟ هل تستطيع الثورة والمعارضة إدارة مرحلة انتقالية آمنة من دون مشاركة جزء من النظام؟ في حال أُغلقت أبواب التدخل والصراع المسلح، ما البدائل التي بين أيدينا؟ ما القوى الذاتية المضمونة بين أيدينا؟ هل لدينا قوى سياسية قوية ومنظمة يمكن أن تؤدي دورًا فاعلًا؟ في حال سُدِّت آفاق العملية السياسية المطروحة، التفاوض واللجنة الدستورية، وهو الأرجح، ما البدائل؟ هل يفيد الثورة أو سورية احتضانها لفصائل إسلامية متطرفة؟ هل يمكن أن يقبل العالم بمساعدة الثورة في حال انتحالها خطابًا إسلاميًا؟ ما الطرق لعزل النظام داخليًا، وما عناصر الخطاب الذي يُفترض إيصاله إلى السوريين الموالين للنظام؟ وغيرها من الأسئلة الجوهرية. على العكس، سارت التشكيلات المعارضة، وعملت على الطريقة “السبحانية”، وأجابت إجابات خاطئة عن معظم الأسئلة المطروحة عليها، ما أدى إلى سيرها في متاهات، يبدو اليوم أن كثيرًا من صناعها يحاولون التبرؤ منها، لكن العقل نفسه يعود ويطل في كل لحظة يتصورون فيها أن النظام يعيش آخر أيامه.
تتحول الاستراتيجية من دون تكتيك يخدمها إلى رؤية بليدة، ويتحول العمل التكتيكي إلى عمل فارغ لا معنى له، أو يأخذ أصحابه من حفرة إلى أخرى، في غياب التفكير في الاستراتيجية والأسئلة الكبرى، خصوصًا في ظل شيوع تكتيكات يعدم بعضها بعضًا. يتخيّل المستغرِقون في المهمات المستعجلة والمطالب اليومية ومشكلات المدى القريب والمؤقت والجزئيات أنهم ينتجون ويعملون، يسافرون ويلتقون بالدبلوماسيين ويصرِّحون ويكثرون من الحركة الخلبية، فيما هم “يغمِّسون خارج الصحن” أو يعملون وفق مبدأ “حركة بلا بركة” كما يقال في العامية. في غياب الاستراتيجية، تصبح التحركات اليومية بلا معنى أو أهمية، ويصبح السياسيون مثل عمال “المياومة”، العمال الذين يشتغلون كل يوم بيومه بحثًا عمّا يسدون به حاجتهم.
من المهم أن نطرح الأسئلة الكبرى على أنفسنا دائمًا، في كل لحظة، وكل مكان، فهذا يساعدنا ألّا نستمر في مراكمة أوهام جديدة فوق أوهامنا، وسيقنعنا بأن الطريق إلى سورية وطنية ديمقراطية مستقلة طريقٌ طويلة، تحتاج منا إلى عمل هادئ وصبور وطويل المدى، على مستوى الفكر والسياسة في آن معًا.
*المدن