شُكِّلت مئات، وربما آلاف، المنظمات والجمعيات، بصورة خاصة خارج سورية، خلال العقد الفائت، وكلها تُعلن انتماءها إلى “المجتمع المدني السوري”، لكن هذا الأخير ما زال غائبًا فعليًا عن المشهد، على الرغم من فتح بعض القنوات أو المسارب له من قبل الهيئات والمنظمات الدولية والأممية، بقصد إظهاره أو اللعب باسمه أو تحت لافتته، إن كان من الدول أو المنظمات الأممية أو من بعض السوريين أنفسهم.
إذا أردنا تحديد بعض السمات الجوهرية لمنظمات المجتمع المدني، بصورة عامة، يمكن القول إن سمة المشاركة الاختيارية الحرة هي السمة المركزية؛ فهي تميزها عن التكوينات والروابط الاجتماعية المفروضة أو المتوارثة في المجتمع التقليدي، مثل العشيرة والطائفة، وعن تلك المبنية على التراتبية والطاعة والانضباط الصارم في المجتمع العسكري، لذلك تكون العلاقات في المجتمع المدني أفقية، وليست رأسية أو عمودية مثل العلاقة بين شيخ العشيرة وأتباعه، أو بين الأجير والمؤجر، أو بين الضابط والعسكري، أو بين رجل الدين ومريديه، أو بين رئيس الحرفة والصانع. أما السمة الثانية فهي الاستقلالية النسبية عن الحكومة/الحكومات، بما يسمح بتكون رأي أو نشاط، خاص أو عام، لا يخضعان لسلطتها، بل تصبح الحكومة نفسها تحت رقابة المنظمات هذه. السمة الثالثة هي وجود حيز ما ضمن المنظمة للعمل التطوعي أو وجود قاعدة واسعة من المستفيدين تتخطى العاملين في المنظمة.
هذه السمات تكاد تكون غائبة عن كثيرٍ من المنظمات السورية التي ظهرت بدءًا من 2011، على الرغم من أن البدايات كانت تدعو حقًا إلى التفاؤل، خصوصًا مع تشكيل لجان التنسيق المحلية وبعض المنظمات الحقوقية التي جرى تفعيلها مع انطلاق الثورة، لكن الحال لم يكن كذلك فيما بعد على الرغم من الكم الكبير من الجمعيات والمنظمات. يمكن الحديث كثيرًا عن صفات المنظمات والجمعيات التي شكلها السوريون طوال السنوات العشر الماضية، وأعتقد أن كثيرًا منها لا يصلح لأن يُدرج في نطاق منظمات المجتمع المدني أصلًا. وفي بعض الأحيان، استثمرت لافتة “المجتمع المدني” لإعادة إنتاج التقليد والانتماءات ما قبل الوطنية (مثل اتحادات العشائر، المنظمات التعليمية الدينية/الطائفية… إلخ).
تفتقد أغلبية المنظمات السورية الحالية إلى صفتي الكفاحية والتطوعية مثلًا؛ فكثير منها أقرب إلى بنية وأداء الشركات، خصوصًا أن أعضاءها جميعهم موظفون، وأن رؤساءها هم فحسب الذين يحضرون في المشهد العام، ويكاد يقتصر المستفيدون من المنظمة على الموظفين أو العاملين فيها، ولا تتجاوز عضويتها عضوية الموظفين العاملين فيها، ونتائج عملها تذهب غالبًا إلى الداعمين، ولا تؤثر أو تتفاعل مع المجتمع أو المجتمعات السورية التي تعمل فيها، ربما باستثناء المنظمات الخيرية أو التي تعمل في مجال الإغاثة، لكن هذه الأخيرة أقرب عمومًا إلى منظمات المجتمع الأهلي المعروفة في تاريخنا، لا المدني.
بالطبع، لا تتقدم وتعمل أي منظمة مجتمع مدني من دون التوظيف والمال، لكن عندما تقتصر عضويتها على الموظفين، وعندما تكون نتائج أعمالها محصورة بهم أو بالداعمين، فإنها تتحول تدريجيًا إلى شركة أو قطاع خاص، على الرغم من معرفتنا بوجود نماذج عديدة في العالم من منظمات المجتمع المدني، بعضها مغلق على عدد محدود من الأعضاء، وبعضها مفتوح. على العموم، لا تغيب سمة التوظيف عن منظمات المجتمع المدني، لكن اقتصار أي منظمة على الموظفين فيها يعني وقوعها تحت خطر تحولها من فاعل مدني حر إلى موظف تابع للجهة الممولة، ليصبح أعضاء المنظمة جميعهم أصحاب مصالح خاصة. كذلك، عندما لا تستطيع المنظمة رفد نشاطها بأعمال تطوعية وبأعضاء متطوعين، وعندما لا تتلقى أي مال من جهات وطنية أو محلية، فإنها تفقد وظيفتها المدنية.
هذا الكلام ليس إدانة، بالطبع، للمنظمات وموظفيها؛ فأحوال السوريين كانت، خلال العقد المنصرم، وما تزال، سيئة جدًا، وليس هناك ملامة على أحد في العمل مقابل الحصول على أجر مادي. لكن، في المقابل، لا ينبغي لنا “التكبير” من حجم العمل المبذول في الجمعيات والمنظمات الحالية، والنظر إليه بوصفه يصب حقًا في خانة بناء “المجتمع المدني السوري”. لكن في حال التوظيف، ينبغي الالتفات، على أقل تقدير، إلى طبيعة الأهداف والمهمات الملقاة على عاتق أي منظمة، من حيث كونها تصبّ فعلًا في الصالح العام، أو على أقل تقدير، لا تضرّ به.
شُكِّلت منظمات سورية كثيرة بمبادرات من دول أو منظمات دولية، وحتى عند تشكيلها بمبادرة من مواطنين سوريين فإنهم يشكلونها، بحكم ضغوط الواقع، وعينهم على “التمويل”، أي تُبنى المنظمة أساسًا بالانطلاق من سؤال “كيف نحصل على التمويل؟”، وليس انطلاقًا من الحاجة الفعلية للبلد وأهلها أو انسجامًا مع تطلعات الموظفين أصلًا. ولذلك سنجد أن أولويات الجهات الممولة غالبًا ما تطغى على أولويات السوريين، وأن هذه الجهات تطرح علينا، في كثير من الأحيان، مشكلات ليست مشكلاتنا، أو تدفعنا إلى الاهتمام بقضايا هامشية بعيدًا عن مشكلاتنا الكبرى، ومن ثم يصبح هاجسنا إقناع “الممول” والحصول على إعجابه، أكثر كثيرًا من الخضوع لأولوياتنا وهواجسنا ومصالحنا وحاجاتنا الفعلية. مصالح الداعم متدرِّجة، من حدود دنيا مقبولة وتمثل تقاطعات مشتركة بيننا وبينه، إلى حدود قصوى غير مقبولة. أحيانًا تكون حاجة الداعم مقتصرة على الرغبة في السمعة الإيجابية بأنه يناصر الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، وهذه لا تشكِّل مشكلة لنا، وأحيانًا ربما يدفعنا الداعم إلى مناصرة أجندة سياسية محدَّدة أو محور إقليمي أو سياسة ما، وهذه فيها كل المشكلة.
هذا يعني أنه، على الرغم من وجود الكثير من المنظمات والجمعيات، فإننا نفتقر إلى هذه اللحظة إلى منظمات مدنية حقيقية لها القدرة على الفاعلية والاستمرار؛ فأكثرية المنظمات ستتبخر بانقطاع التمويل أو عند العودة إلى سورية، حيث الحياة الحقيقية، ولأننا سنكون هناك أمام معادلات واصطفافات جديدة بالضرورة، ستفرض نفسها على تفكيرنا وأولوياتنا.
في تجارب المنطقة العربية معظمها، يجري تمويل منظمات المجتمع المدني بأموال المساعدات الغربية، وهذا ليس مدعاة للشجب أو الاستنكار في حدّ ذاته، خاصة عندما يكون واضحًا، ووفق اعتبارات مدروسة. لكن يُفضَّل، بالطبع، اللجوء إلى مصادر التمويل الوطنية/ المحلية، مثل رجال الأعمال، فهذا أحد المؤشرات للدلالة على قدرة منظمات المجتمع المدني على النفاذ إلى البنية الاقتصادية والاجتماعية، وعلى وجود تفاعل وتشبيك حقيقيين معها، وعلى قدرتها أيضًا على بناء وإنتاج نفسها ماديًا. لذلك، تصبح من مهمات المنظمات هذه دعوة القطاع الخاص إلى تحمل مسؤولياته تجاه المجتمع، والمشاركة في تأمين الدعم المالي. وهنا، للأسف، لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الثقافة ما زالت غائبة عن القطاع الخاص، ربما باستثناء الإسهام في دعم الجمعيات الخيرية ومنظمات الإغاثة، ونادرًا ما يسهم في دعم منظمات الرأي وحقوق الإنسان والهيئات الثقافية والتعليمية والنقابية، وغيرها.
على العموم، إن القضية الأهم من التمويل هي دور ووظيفة منظمات المجتمع المدني، خصوصًا مع الاختزال السائد لمفهوم المجتمع المدني بالمنظمات والجمعيات غير الحكومية؛ فالتحديدات المتداولة في الوعي العام للمجتمع المدني هي تحديدات إجرائية، تتناول مظاهر وتجليات وتعبيرات المجتمع المدني، إذ يجري التركيز على تشكيل منظمات تعمل في ميادين متنوعة لتحقيق أهداف متعددة، مثل الجمعيات الحقوقية، النقابات، الاتحادات المهنية، الهيئات الثقافية، الحركات الاجتماعية، الجمعيات التعليمية والصحية والبيئية… إلخ، من دون إيلاء الدور السياسي الوطني العام للمجتمع المدني الأهمية التي يستحق.
هذه التعاريف الإجرائية للمجتمع المدني لا تستنفد معاني ومدلولات وتعيينات المجتمع المدني؛ فعلى الرغم من أهمية المنظمات غير الحكومية هذه، وكونها تعبيرًا عن فاعلية المجتمع المدني، لكن من المهم الانتباه إلى أن المجتمع المدني، في دلالاته التاريخية والسياسية وارتباطه بمفهوم الدولة الوطنية، أوسع من أن يختزل بها، لأن عملية بناء مجتمع مدني سوري وعملية بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة هما عمليتان تسيران معًا أو تضمران معًا، أو في الأحرى، هما عملية واحدة بوجهين؛ تحقيق الانتقال الديمقراطي.
من المهم الاستمرار في تشكيل منظمات وجمعيات مدنية، ودعم وتقوية ما هو موجود منها، مع الانتباه إلى عوامل الخطورة آنفة الذكر. والأهم، في اعتقادي، الانتباه إلى أهمية صرف كثير من الجهد في بناء قوى سياسية جديدة؛ بعضهم يضعها في خانة منظمات المجتمع المدني، وبعضهم يضعها في خانة المجتمع السياسي، لكن في الحالين إذا كان هدفنا الرئيس تحقيق التغيير الديمقراطي، فلا بدّ من وجود قوى سياسية حقيقية تأخذ مشروعيتها من الوطنية السورية، فالديمقراطية لا تعيش في الفراغ، وتحتاج إلى قوى فعلية تمارسها وتلعب لعبتها.
*المدن