أصعب شيء في الحياة هو البديهيات. ما يبدو لنا أمرًا بديهيًا قد لا يكون فعليًا كذلك، والحب أحدُها؛ يعتقد كثيرون منا أنهم قادرون على إنتاج الحب، فيما هم ليسوا كذلك. موهبة إنتاج الحب من أصعب المواهب، ولو لم يكن هذا صحيحًا لكان البشر في وئام وراحة بال دائمين.
نحن لا نعرف كيف نُنتج الحب، لكن نعرف جيدًا كيف ننتج الكراهية. الحب بناء والكراهية هدم، والبناء دائمًا أصعب وأعقد كثيرًا من الهدم. على المستوى الفردي، ليست القدرة على إنتاج الحب أمرًا سهلًا أو بديهيًا، إنها تحتاج أولًا إلى معرفة؛ معرفة كيفية إنتاج الحب. أساس الحب هو المعرفة؛ معرفة الذات والآخر، وأساس الكراهية هو الجهل؛ الجهل بالذات والآخر، ولذلك كان إفشاء الحب بين البشر يتطلب إفشاء المعرفة في ما بينهم.
نحن نؤلِّف سلطات وتنظيمات ومؤسسات لا تنتج حبًا. إذا لم يكن إنتاج الحب هدفها الرئيس، فأي فضلٍ في تأليفها؟! إذا لم يكن هدف السلطة، أي سلطة، إنتاج الحب، فأي شرف في أدائها واستمرارها؟!
نحن نُتقن تحويل هزائمنا المعنوية والروحية إلى كراهية، لتأكلنا وتأكل الآخر في المآل. لا يُنتج الكراهية إلا أفراد كارهون لأنفسهم. هناك نوعٌ من البشر روحه أقرب إلى المياه الآسنة لا تنضح إلا بالكراهية والعفن. هؤلاء لا يعرفون أن “الكلمة الطيبة صدقة”. المُحِب يسعى للتأليف بين البشر، وفقير الروح تُسعده رؤية الكراهية متفشية في ما بينهم. عدم القدرة على إنتاج الحب دلالة حقيقة على الأرواح الفقيرة والمتكسِّرة. الثقة بالذات أحد شروط القدرة على إنتاج الحب.
كلُّ فرد يتوق إلى معرفة نفسه، وهذه لا تحصل من دون الآخر، ولذلك كانت الحاجة إلى الآخر هي مفتاح المعرفة والحب في آنٍ معًا. كلٌّ منا من دون الآخر لا شيء. من أعظم حاجات الإنسان وأشدها إلحاحًا الحاجة إلى قهر عزلته، والحاجة إلى الاندماج في آخر. هذه فكرة تنتمي إلى الديمقراطية. المستبد لا يحتاج إلّا إلى نفسه، ولا يرى إلّا صورته. الاستبداد والحب لا يجتمعان.
لا يُختزل معنى الحب بالعلاقة بين روحين وجسدين. الحب موقف واتجاه في الحياة أولًا وقبل كل شيء. اتجاه يحدِّد علاقة كلِّ فردٍ بالعالم والأشياء من حوله، فإذا أحبّ المرء شخصًا آخر، واستغرقه الحب إلى أن أمسى غير مكترث للآخرين، وغير آبهٍ بما حوله، فهذا ليس حبًا. قبل الحب، هناك موقف من المرأة والرجل، من الذكورة والأنوثة؛ موقف قطعي مع المساواة في الإنسانية والكرامة. ليس حبًا ذاك الذي يحدث بين كائنين غير متساويين في القيمة والكرامة. العلاقة بين السيد والعبد لا تندرج مطلقًا في سياق الحب.
جزء من الحب هو محبة أنفسنا في عين الآخر، نحن نحب رؤية الآخر إلينا. أنا أحب فيها رؤيتها إليَّ، وهي تحبُّ فيَّ رؤيتي إليها. ربما لأجل ذلك طلب نيكولاس كيج، في فيلم “مدينة الملائكة”، من حبيبته ميج رايان، أن تصف له طعم الإجاص في فمها. لا بدّ أنها متعة ملائكية أن تعرف طعم الإجاص في فم الآخر أو أن تصف طعمه في فمك للآخر.
ينبغي للعلاقة بين السياسة والحب أن تكون مثل العلاقة بين المترادفات اللغوية؛ كلاهما لهما المعنى نفسه، ويسيران في الطريق ذاتها، ويحرثان الحرث نفسه. هذا بالمناسبة هو جوهر مشروع البشر من الأزل إلى الأبد، وما جاءت الأديان والفلسفات والثقافات إلا لتؤكد على هذه الحقيقة الجوهرية والجوهرانية؛ إنتاج الحب والسعادة. كل المشروعات ينبغي لها أن تشتغل بدلالة الحب.
في المسلسل الرائع “الحب وأشياء أخرى”، للعبقري أسامة أنور عكاشة، كنتُ مع سامح في مواجهة هند، مع الموسيقي المرهف ضدّ الطبيبة الميسورة التي أخذتها الأشياء الأخرى بعيدًا من الحب. الحب أهم من كل الأشياء الأخرى، أو كل الأشياء الأخرى لا تعني شيئًا من دون الحب.
*السفينة