مجلة أوراق- العدد9
ترجمة: حسام الدين محمد
كل الأديان، وتقريبا كل الفلسفات، وحتى بعض العلوم تشهد على المحاولة البطولية، التي لا تكل على إنكار البشرية اليائس لكونها أمرا طارئا.
جاك مونو
مقاطع من كتاب “كلاب القش: أفكار حول الإنسان وحيوانات أخرى” للكاتب البريطاني جون غراي.
العلم ضد الانسانوية
أغلب الناس يعتقدون حالياً انهم ينتمون الى جنس يمكن أن يكون سيد مصيره. هذا إيمان ديني، وليس علماً. لا نعرف وقتاً كانت فيه الحيتان أو الغوريلات ستكون أسياد مصيرها. لماذا يقول البشر ذلك إذن؟
لا نحتاج إلى داروين لإثبات أننا ننتمي إلى عالم الحيوانات نفسه. الملاحظة البسيطة لحيواتنا تقودنا بسرعة الى الاستنتاج نفسه. مع ذلك، فحيث أن للعلم الآن سلطة لا يمكن للتجربة العامة أن تخاصمها، دعونا نلاحظ تعليمنا من قبل داروين أن الأجناس كلها ليست إلا منظومات جينية، تتفاعل مع بعضها بشكل عشوائي ومع بيئاتها المتحركة. الأجناس الحيّة لا تستطيع تقرير مصيرها. الأجناس الحيوانية لم تقرر وجودها وهذا ينطبق على البشر. ينسى البشر، مع ذلك، عندما يتحدثون عن “تقدم النوع البشري”. لقد وضع البشر ايمانهم في تجريد لا أحد يستطيع ان يأخذه على محمل الجد لولا أنه تشكل من مهملات آمال المسيحية.
لو أن اكتشاف داروين حصل في ثقافات التاو أو الشينتو، الهندوسية أو الوثنية فإنه كان سيغدو أحد الطرق العديدة في ميثولوجياتها المتشابكة. البشر في هذه الأديان والحيوانات هم أقرباء. بالمقارنة، فإن ظهورها بين المسيحيين الذين يعتبرون البشر أعلى من كل الكائنات الحية الأخرى، أشعل جدالا مريرا ما زال ملتهبا حتى اليوم. خلال المرحلة الفيكتورية أدى هذا الجدل إلى نزاع بين المسيحيين والملحدين. الحرب حاليا دائرة بين الانسانويين والقلة التي تفهم أن البشر لن يكونوا سادة مصيرهم أكثر من قدرة أي حيوان آخر.
الانسانوية يمكن أن تعني أشياء كثيرة، لكن بالنسبة لنا تعني الإيمان بالتقدم. الايمان بالتقدم هو الاعتقاد بأنه، من خلال استخدام الطاقات التي تقدمها المعرفة العلمية المتعاظمة، فإن البشر يمكنهم أن يحرروا أنفسهم من الحدود التي تؤطر حياة الحيوانات الأخرى. هذا هو الأمل لكل شخص تقريباً هذه الأيام، لكن لا قاعدة يتأسس عليها هذا الاعتقاد. رغم ان المعرفة البشرية على الأغلب ستزداد نموا ومعها القدرة البشرية، فإن الحيوان البشري سيبقى كما هو: جنس حيّ كبير القدرة على الاختراع ولكنه أيضا واحد من أكثر الأجناس الحية تدميراً وافتراسا.
رغم أن داروين أظهر أن البشر مثلهم مثل الحيوانات الأخرى، فإن الانسانويين يزعمون أنهم ليسوا كذلك. يصر الإنسانويون على أننا باستخدام معارفنا نستطيع السيطرة على البيئة وأن جنسنا سيزدهر كما لم يحصل من قبل. بتأكيد ذلك، فإنهم يجددون إحدى أكثر وعود المسيحية إثارة للشك – أن الخلاص مفتوح للجميع. الإيمان الانسانوي بالتقدم هو تفريع علماني للإيمان المسيحي.
ليس هناك في العالم الذي كشفه لنا داروين شيء يدعى تقدما. لأي شخص تربى على الآمال الانسانوية فإن هذا أمر غير ممكن الاحتمال. نتيجة لذلك، فإن ما علمنا اياه داروين تم قلبه رأسا على عقب، وخطأ المسيحية العظيم – ان البشر مختلفون عن بقية الحيوانات – تم اعطاؤه عقدا جديدا للحياة.
2
سراب ثورة الوعي
البشر هم أكثر المخلوقات عرضية – انهم نتيجة لموجة تطور أعمى. مع ذلك فبتقدم الهندسة الجينية، لم نعد بحاجة لأن تتحكم بنا الصدفة. الجنس البشري – هكذا يقال لنا – يمكنه أن يحدد المستقبل.
بحسب إي. أو. ويلسون، فإن التحكم الواعي بالتطور البشري ليس فقط ممكنا بل هو محتوم.
… الارتقاء الجيني يقترب من أن يصبح واعيا واختياريا، وسوف يفتح مرحلة جديدة في تاريخ الحياة… أفق هذا “الارتقاء الاختياري” – نوع مخلوق يقرر ما سيفعله في مورثاته الخاصة – سيوفر أكثر خيارات ذكية وأخلاقية واجهتها البشرية عمقاً… ستتموضع الانسانية مثل الإله للسيطرة على قدرها النهائي. باستطاعتها، لو اختارت، لا تغيير التشريح والوعي لنوعها فحسب ولكن أيضا العواطف والحافز الابداعي اللذين يؤلفان النواة الصلبة للطبيعة البشرية.
مؤلف هذه الفقرة هو أعظم الداروينيين المعاصرين. لقد هوجم من قبل علماء الأحياء والاجتماع الذين يؤمنون أن الجنس البشري غير محكوم بالقوانين نفسها التي تحكم الحيوانات. نيلسون في هذه الحرب هو من دون شك الى جانب الحقيقة. غير أن منظوره للارتقاء البشري الواعي الذي يبشر به هو مجرد سراب. فكرة أن تأخذ البشرية مسؤولية مصيرها ستكون معقولة اذا ربطنا الوعي والهدف بالجنس البشري، لكن اكتشاف داروين كان ان الكائنات ليست الا تيارات في حركة الجينات. فكرة ان البشرية تستطيع صوغ مصيرها تفترض أنها معفاة من هذه الحقيقة.
يبدو مثمرا ان الطبيعة البشرية في القرن المقبل سيتم تعديلها علميا. اذا كان الأمر كذلك، فإن ذلك سيحصل بشكل عشوائي، كتفصيل في الصراعات في المملكة المظلمة لكبار الشركات، مؤسسات الجريمة المنظمة، والأجهزة الخفية من الحكومات الساعية للسيطرة. اذا تمت هندسة الجنس البشري فلن يكون ذلك لأن البشرية امتلكت قدرة الهية للسيطرة على مصيرها. سيكون ذلك التواء جديدا في مصير البشرية.
3
نشر تفوق (الجنس البشري)
كتب جيمس لوفلوك:
البشر على الأرض يتصرفون في بعض الأحيان مثل متعضية مرضية، او مثل خلايا ورم أو بلازما. لقد ازداد عدد البشر وفي ازعاجهم لـ”الغايا” (كلمة يونانية تعني الأرض ونظرية تقترح إن الكائنات الحية تتفاعل مع محيطها غير العضوي وتتكيف لتؤلف وحدة متعاضدة. ح. م) بتعريف وتغيير شروطها الى حد صار وجودنا مزعجا بشكل ملموس… لقد أصبح عدد البشر ضخما لدرجة أنه أسس لمرض جدي لكوكب الأرض. الوحدة العضوية للأرض تعاني من انتشار الجنس البشري المتفوق، من طاعون من البشر.
قبل 65 مليون عام من الآن انقرضت الديناصورات وثلاثة ارباع الكائنات. السبب ليس مؤكدا، لكن العديدين من العلماء يعتقدون ان الانقراض الجماعي كان نتيجة اصطدام مذنب بكوكب الأرض. الكائنات الحية تنقرض حاليا بنسبة ستتفوق على ذلك الانقراض الجماعي. السبب ليس كارثة فضائية. كما يقول لافلوك، السبب هو طاعون البشر.
“رمية النرد الداروينية كانت سيئة للأرض”، يشير ويلسون. رمية الحظ جلبت للجنس البشري قدراته التي عنت خرابا لعدد لا يحصى من اشكال الحياة الأخرى. حين وصل البشر الى العالم الجديد قبل حوالى اثني عشر الف سنة كانت القارة مليئة بالماموث، الماستودونس، الجمال، حيوانات الكسلان العملاقة وعشرات من الكائنات الأخرى. معظم هذه الكائنات تمت مطاردتها لدرجة الانقراض. فقدت امريكا الجنوبية اكثر من 70 بالمئة وفقد شمال امريكا 80 بالمئة من الثدييات الكبرى، بحسب دياموند.
تدمير العالم الطبيعي ليس سببه الرأسمالية العالمية، التصنيع، “الحضارة الغربية” أو أي عطل في المؤسسات البشرية. إنه نتيجة لنجاح التطور النوعي الاستثنائي لأحد الكائنات العليا الجشعة.
عبر كل التاريخ وما قبل التاريخ، ترافق التقدم البشري مع تدمير ايكولوجي.
بتوازن مع الارض لفترات طويلة عبرت شعوب الانويت والبوشمن نحو نماذج حياة كانت بصماتهم فيها خفيفة. لا نستطيع ان نمشي على الارض بشكل خفيف. اصبح عدد نوع “الانسان الحكيم” ضخما جدا.
ليست دراسة عدد البشر علما دقيقا جدا. لم يتوقع احد الهبوط في عدد السكان الحاصل في روسيا الاوروبية الشيوعية سابقا، او حجم هبوط الخصوبة المستمر في عموم العالم. هامش الخطأ في حسابات الخصوبة ومعدل الحياة كبير. رغم ذلك، فإن زيادة كبيرة في عدد البشر امر محتوم. كما يلاحظ موريسون، “حتى لو افترضنا ان تراجعا في معدل ولادة بسبب عوامل اجتماعية ومعدل وفاة مرتفع بسبب المجاعات والأمراض والابادات، فإن عدد سكان العالم الذي هو اكثر من ستة مليارات سيزيد مليارا ومئتي مليون على الاقل مع حلول العام 2050”.
يمكن الحفاظ على عدد سكان يصل لثمانية مليارات بهجرة الارض فقط. اذا تم التخلص من الحياة البرية لصالح الزراعة والحضارة البشرية، اذا تم تحويل الغابة المطرية الى صحارى خضراء، اذا سمحت الهندسة الجينية بانتاج محصولات متزايدة من التربة الرقيقة – عندها سيكون البشر قد صنعوا حقبة جيولوجية جديدة، الايروموزويك، حقبة العزلة، التي سيبقى فيها القليل من الكائنات الأخرى على الأرض باستثنائهم والبيئة المصطنعة التي تبقيهم أحياء.
انها رؤية بشعة ولكنها كابوس فقط. اما ان تتمكن آليات اعادة الضبط من جعل الكوكب اقل سكانا او ان العوارض الجانبية لفعالياتهم ستجعلهم أقل على الكوكب وسوف توقف النمو الحالي في ارقامهم.
يقترح لوفلوك اربعة نتائج لانتشار الجنس البشري: “دمار كائنات المرض الذي يجتاح العالم، التهابا مزمنا، دمار المضيف، او التكافل – بقيام علاقة قادرة على الاستمرار بين المضيف والمحتل”.
من النتائج الأربعة فإن الرابع هو الأقل احتمالا. لن تبدأ البشرية أبدا مرحلة التكامل مع الارض. حتى لو فعلت، فانها لن تدمر مضيفها الارضي، احتمال لوفلوك الرابع. المحيط الحيوي اقدم واقوى من قدرتهم مهما بلغت. كما يكتب مارغوليز، “لا ثقافة انسانية، رغم ابداعيتها، يمكن ان تقتل الحياة على هذا الكوكب، او حتى ان تحاول”.
لا يمكن ايضا للبشر تدمير بيئتهم بشكل مزمن. صحيح ان فعاليات البشر غيرت التوازن الأرضي: غير انتاج غازات المحيط الأخضر النظام الايكولوجي العالمي بشكل لا يمكن الرجوع عنه. مع التصنيع العالمي، فإن ليس إمكانية للتغييرات إلا أن تتزايد. في السيناريو الأسوأ الذي يقتنع به بعض العلماء جديا، فإن التغير المناخي سيمحو بلدانا مأهولة ساحلية مثل بنغلادش ويؤدي الى فشل زراعي في بلدان اخرى من العالم، ناشرا الكوارث لمليارات البشر، قبل نهاية القرن الحالي.
حجم التغيير لا يمكن معرفته بشكل مؤكد. في نظام مليء بالفوضى حتى المستقبل القريب لا يمكن توقعه بشكل صحيح. رغم ذلك يبدو محتملا أن شروط الحياة تتجه نحو ولادة مزيد من البشر، مع مواجهة اعداد كبيرة منهم بيئات أقل ترحيبا. كما اقترح لوفلوك، قد يكون التغير المناخي آلية يمكن فيها للكوكب ان يتخفف بها من عبئه البشري.
كعارض جانبي للتغير المناخي، هناك نماذج جديدة من الأمراض يمكن أن تقلل من عدد البشر. اجسادنا هي مجتمعات للبكتيريا، مرتبطة بشكل لا يمكن حله مع محيط حيوي بكتيري بشكل كبير. علم الأمراض وعلم الاحياء الدقيقة هي أدلة افضل لمستقبلنا اكثر من أي آمال او خطط.
الحرب يمكن أن تترك تأثيرا كبيرا. كاتبا في منعطف القرن التاسع عشر، اعتبر توماس مالتوس الحرب كاحدى الطرق – هي والمجاعات المتناوبة – لحفظ التوازن بين عدد السكان ومصادر الغذاء. فرضية مالتوس تمت السخرية منها في القرن العشرين من قبل ليونارد ج. لوين:
الانسان، مثل باقي الحيوانات، هو عرضة للعملية المستمرة للتناسب مع حدود بيئته. لكن الآلية المبدئية التي قام باستخدامها من اجل هذا الهدف فريدة ضمن الكائنات الحية. لتعديل الإحباط في الدورات التاريخية الناتج من نقص امدادات الغذاء، تخلص الانسان في العصر ما قبل العصر الحجري الحديث من فائض جنسه البشري عبر الحرب المنظمة.
السخرية ليست في مكانها الصحيح. الحرب نادرا ما ادت الى نقص طويل الأمد لسكان البشرية. مع ذلك فإن تأثيرها اليوم يمكن أن يكون كبيرا. ليس ان أسلحة الدمار الشامل – خصوصا البيولوجية و(قريبا) الأسلحة الجينية – هي اكثر ارعابا من قبل. الأكثر من ذلك هو أن تأثير هذه الاسلحة على انظمة دعم الحياة للمجتمعات البشرية ستكون اكبر على الأغلب. عالم معولم هو بناء رقيق. لهذا السبب يعتمد عدد اكبر من السكان على امداد الشبكات البعيدة، واي حرب بحجم النزاعات الاضخم للقرن العشرين يمكن ان تعطي تاثيرا في انقاص عدد البشرية بالطريقة التي تحدث عنها مالتوس.
عام 1600 كان عدد سكان العالم حوالى نصف مليار. في تسعينيات القرن العشرين زاد بالعدد نفسه. الناس الذين هم الآن بعمر اربعين عاشوا فترة مضاعفة الجنس البشري لعدد سكانه. طبيعي بالنسبة لهم ان يظنوا ان هذه الارقام سيتم المحافظة عليها. شيء طبيعي، لكن هذا – الا اذا كان البشر هم حقا مختلفون عن باقي الحيوانات – خطأ.
تزايد عدد البشرية الذي حصل خلال بضعة مئات من السنين الأخيرة لا يشبه شيئا اكثر من التزايد الذي حصل في عدد الأرانب، فئران المنازل وجرذان الطاعون. مثل هؤلاء، يمكنه فقط ان يستمر لفترة قصيرة. الخصوبة البشرية تهبط في أغلب أنحاء الأرض. كما يلاحظ موريسون، البشر هم مثل الحيوانات الأخرى في تفاعلهم مع الضغط والقلق. انهم يتفاعلون مع الندرة والتزاحم من خلال انقاص لحوافز التناسل: يبدو ان الكثير من الحيوانات لديها رد فعل تنظمه الهرمونات لمواجهة الضغوط البيئية والتي تقوم بتغيير عمليات الأيض الى حالة اكثر اقتصادية كلما قلت الموارد. بشكل محتوم، العمليات النهمة لطاقة التناسل تكون الهدف الأول… البصمة الهرمونية التي تدل على ذلك لهذه العملية تم التعرف عليها لدى قرود الغوريلا المحبوسة في الاراضي المنخفضة، ولدى النساء.
في مسألة الاستجابة للضغوط البيئية بالتوقف عن الولادة، لا يختلف البشر عن الحيوانات.
الارتفاع الحاضر في عدد البشر يمكن ان يصل الى نهاية لعدد من الاسباب – التغير المناخي، وموجات جديدة من الامراض، العوارض الناتجة عن الحروب، هبوط تدريجي في معدلات الولادة، او اجتماع هذه الأسباب وغيرها، من عوامل غير معروفة. أيا كان السبب الذي سيؤدي لهذه النهاية، فهذا انحراف.
… اذا كان الطاعون البشري عادياً كما يبدو عليه، فإن منحنى التداعي يجب ان يعكس منحنى النمو السكاني. هذا يعني ان حجم الانهيار لن يستغرق اكثر من مئة سنة، ومع حلول العام 2150 فسيكون المحيط الحيوي قد عاد بسلام الى عدد مخلوقات ما قبل طاعون الجنس البشري – اي بحدود 500 مليون أو مليار.
البشر هم مثل أي حيوان طاعوني. لا يمكنهم تدمير الأرض، لكنهم يستطيعون تدمير البيئة التي تحافظ على وجودهم. الاكثر احتمالا من سيناريوهات لافلوك هي نسخة من السيناريو الأول، التي يتم الشفاء فيها من هذا العرض الخطير من خلال هبوط عالي المستوى في عدد البشر.
4
لماذا لن تتمكن البشرية ابدا من السيطرة على التكنولوجيا؟
“الانسانية” امر ليس موجودا. هناك بشر، مدفوعون من خلال حاجات متنازعة واوهام، وهي تتأثر بكل شكل بمرضي الارادة والتقدير.
حاليا هناك حوالي مئتي دولة مستقلة في العالم. اغلبها غير مستقر، وتتراوح بين ديمقراطيات ضعيفة او دكتاتوريات ضعيفة، العديد منها صدئ بفعل الفساد، او تسيطر عليه الجريمة المنظمة، منطقة واسعة من العالم – اغلب افريقيا، جنوب اسيا، روسيا، البلقان والقوقاز واجزاء من جنوب امريكا – تحكمها دول متضعضعة او متداعية. في الوقت نفسه، فان أقوى دول العالم – الولايات المتحدة الأمريكية، الصين واليابان – لا تقبل اي حدود لسياداتها. كل دولة منها تغار من حرية الاخرى في الحركة، على الاقل بسبب انها كانت اعداء في الماضي وتعلم انها يمكن ان تصبح كذلك مجددا في المستقبل.
مع ذلك فليس عدد الدول هو الذي يجعل التكنولوجيا أمرا غير قابل للتحكم به. انه التكنولوجيا نفسها. القدرة على تصميم فيروسات جديدة للاستخدام في أسلحة ابادة جماعية لا يحتاج مبالغ مالية ضخمة، او مواقع او أجهزة. التقنيات الجديدة للتدمير الشامل رخيصة، والمعرفة التي تتضمنها مجانية. من المستحيل منع هذه التكنولوجيات من أن تصبح متوفرة بشكل اكثر سهولة بكثير من قبل.
لهذا السبب، فان بيل جوي، احد رواد تكنولوجيا المعلومات، يكتب:
تكنولوجيات القرن الواحد والعشرين – الجينات، النانوتكنولوجي، الروبوتات – قوية لدرجة انها ستطلق طبقات جديدة من الحوادث واساءة الاستخدام. الأكثر خطورة أنه، للمرة الأولى، أن هذه الحوادث واساءة استخدامها ممكن، بشكل كبير، للأفراد والجماعات الصغيرة الحصول عليها. لن يحتاج هؤلاء تسهيلات كبيرة او مواد خام نادرة. المعلومات وحدها كافية لانجازها. وهكذا لن يكون لدينا احتمال الحصول على اسلحة دمار شامل بل سنكون على معرفة قادرة على انتاج اسلحة دمار شامل، وهذه القدرة التدميرية يتم تضخيمها بشكل كبير بقوة الاعادة.
جزئيا، فإن الحكومات هي التي خلقت هذه الوضعية. من خلال اعطاء سيطرة كبيرة للسوق على هذه التقنيات فقد ساهمت في الوصول الى هذه الحالة من انعدام السيطرة. رغم ذلك، فان تكاثر الاسلحة الجديدة للدمار الشامل ليس في النهاية نتيجة للاخطاء في السياسات. انه نتيجة لتعريف المعرفة.
التحكم بالتقنيات لا يمكن وضعه بالقوة. التعديل الجيني للمحصولات، الحيوانات او البشر يمكن ان يكون ممنوعا في بعض الدول، لكنه سيجري في بعض الدول الأخرى. القوى الدولية يمكن ان تتعهد ان الهندسة الجينية سيكون لها استخدامات حميدة محدودة لكنها ستكون مسألة وقت قبل ان يتم استخدامها لأغراض حربية. يمكن ان تمنع بعض الدول شديدة الاضطراب من الحصول على اسلحة نووية لكن كيف يمكن منع الاسلحة البيولوجية من الوصول الى القوى التي لا تسيطر عليها الحكومات؟
اذا كان هناك شيء مؤكد بالنسبة للقرن الحالي فهو ان القوة الممتلكة الممنوحة لـ”الانسانية” من خلال التكنولوجيات الحديثة سوف تستخدم لارتكاب جرائم مهولة ضدها. اذا اصبح ممكنا نسخ البشر، فان جنودا سيتم توليدهم بعواطف بشرية ناقصة او ملغية. الهندسة الاجتماعية قد تسمح بعلاج امراض الشيخوخة وفي الوقت نفسه فانها ستكون التكنولوجيا التي ستستخدم في الابادة الجماعية.
اولئك الذين يتجاهلون الامكانية التدميرية للتكنولوجيات الحديثة فذلك ببساطة لأنهم يتجاهلون التاريخ. حملات التطهير ضد اليهود قديمة بقدم المسيحية نفسها ولكن من دون السكك الحديدية، التلغراف والغازات السامة لم يكن ممكنا ان يحصل الهولوكوست. لقد كان هناك سلطات طغيان دائما ولكن من دون الوسائل الحديثة لوسائل النقل والاتصالات، ما كان لستالين وماو أن يبنيا مخيمات الغولاغ. أكبر جرائم الانسانية صارت ممكنة بسبب التكنولوجيا الحديثة.
هناك سبب عميق لعدم امكانية سيطرة “الانسانية” على التكنولوجيا. التكنولوجيا ليست شيئا تستطيع الانسانية ان تسيطر عليه. انه حدث حل على العالم.