ترجمة:سارة حبيب
أيهما تفضل: أن تنال نجاحًا يتراوح بين مستوى منخفض إلى متوسط طوال مسيرتك الكتابية، أو صعودًا مفاجئًا إلى شهرة عالمية، متبوعًا بانحدارٍ شديد بذات القدر، يليه هبوط إلى الحضيض لبقية مسيرتك؟ يفضّل معظم الكتّاب الحصول على الخيار الأول، أما كولن ويلسون فقد اختبر الثاني.
كان ويلسون ينتمي إلى الطبقة العاملة، تسرّب من المدرسة الثانوية، وهرب من سلسلة من الأعمال المملة في ليستر ليصبح نوعًا ما عضوًا بريطانيًا في ثقافة البِت، مسافرًا في أنحاء البلاد مع حقيبة ظهر مليئة بالكتب ـ نيتشه، أفلاطون، الكتاب الهندوسي المقدس “باغافاد غيتا” ـ وإحساس متّقد بعبقريته.
انتقل ويلسون إلى لندن في عمر الرابعة والعشرين، ثم كتب “اللامنتمي”، وهو كتاب عن الاغتراب وانعدام المعنى في المجتمع الحديث، كتاب يحتفي بالفرد المتفوق النادر الذي يبحث عن حل. وفيه جمع ويلسون اقتباسات وحكايات عن الفنانين، الروائيين، والمفكرين المفضلين لديه: فان غوخ، نجينسكي، هسّه، سارتر، غوردجييف، راماكريشنا.
كان “اللامنتمي” ردة فعل على ما شعر ويلسون أنه غياب منافذ البطولة في المجتمع البريطاني الحديث؛ لقد فوّت جيله الحرب، ولم تعد هنالك إمبراطورية للمغامرات، أو كنيسة يصبح المرء فيها قديسًا. كما أن البنية الطبقية الصارمة في بريطانيا خنقت فرص الأشخاص اللامعين من خارج الطبقات المتوسطة- العليا في أوكسبريدج (أوكسفورد وكامبريدج). لقد قدّم ويلسون لقرائه مهربًا: دورة تدريبية ذاتية (من نوع “افعلها بنفسك”) في الروحانية الفكرية، دورة يمكن لأي شخص أن يتّبعها، إذا كان يمتلك الذكاء والإيمان بالنفس.
اختِير كتاب “اللامنتمي” من قبل الناشر اليساري فيكتور غولانتز، ونُشِر عام 1956، وحقق نجاحًا كبيرًا على الفور. وصفه فيليب توينبي بأنه “ذكي على نحو ساطع”؛ وقال عنه كينيث ووكر: “الكتاب الأكثر إثارة للإعجاب الذي يمكن لمراجع أن يبدي رأيًا في حقه”. وكتب دانيال فارسون في صحيفة “ديلي ميل”: “لقد قابلتُ للتو عبقريّي الأول. اسمه كولن ويلسون”، وأعلنت الصحيفة أن “اللامنتمي” حظي بـِـ”استقبالٍ أكثر حماسًا من أي كتاب آخر منذ الحرب”.
لماذا حقق “اللامنتمي” نجاحًا كبيرًا نقديًا؟
في أواخر الخمسينيات، كانت الأنتلجنسيا في بريطانيا قلقة من الانحدار الثقافي، والافتقار إلى حركات ما بعد الحرب اللازمة لمنافسة الحداثة، أو إلى أفكار محلية لمنافسة الوجودية الفرنسية. وها هو عصامي من الطبقة العاملة عمره أربعة وعشرون عامًا يجلب أخبارًا عن “الشيء الجديد”. ثم تبيّن أن الشيء الجديد هو… حداثة معادٌ تدويرها. وكان هذا مطمئنًا لكبار الموظفين الحداثيّين المسؤولين عن مراجعات الكتب. كذلك، ساعد في شهرة ويلسون أنه شكّل مجموعة مع كتّاب محليين آخرين من الطبقة العاملة، مثل كينجسلي إيمس، وجون أوزبورن، وكانوا يُلقبون بـ”الشباب الغاضبين”. وكما في حالة الوجودية وحركة البَنْك، فوجود مجموعة من البشر يقومون بالشيء ذاته تقريبًا سهّل عليه الكتابة عنها. لقد كان ويلسون، رغم أنه فريد من نوعه، جزءًا من حركة زايتجايست (روح العصر).
بالإضافة إلى ذلك، كان مغريًا للصحافة الشعبية. وقد أخبر صحيفة ذات مرة أنه كتب “اللامنتمي” في أثناء نوم مشرد في متنزه هامبستيد هيث، وأعاد إحياء المشهد لمصوّرهم الفوتوغرافي برحابة صدر. لقد ساعد ويلسون في صناعة نموذج البوهيميّ الشاب، بياقته العالية، ونظارته ذات الإطار السميك.
بعد ذلك، وعلى نحو مفاجئ بالقدر ذاته، قررت أنتلجنسيا لندن أن على اللامنتمي المحلي أن يبقى خارجًا، أن شهرته كانت مجرد فقاعة، أنه كان شخصية سخيفة، بل وخطيرة. ولم تساعده إعلاناته المستمرة لعبقريته؛ إنه “الكاتب الأكثر أهمية في القرن العشرين”، قال، “نقطة تحول في الثقافة”. ولم يساعد أيضًا استصغاره لكتاب معروفين أكثر منه. على سبيل المثال، قال إن شكسبير “عقل من الدرجة الثانية بكل معنى الكلمة”.
ما ساعد حقًا بالنسبة إلى ويلسون هو أنه مع صديقين آخرين له من مجموعة الشباب الغاضبين ـ الكاتبان بيل هوبكنز، وستيوارت هولرويد ـ حظوا بسمعة كونهم “تيدي بويز” شبه فاشيين (تبعًا لثقافة التيدي بوي البريطانية). ودعاهم كينيث تَينان “فوهرريي الروح الشباب” (نسبة إلى لقب فوهرر الذي أُطلِق على هتلر)؛ كما دعاه الكاتب اليهودي وولف مانكوفيتز “زرادشت لَسْترشير الصغير”. وكتب كينيث أُلسوب عن ويلسون وجماعته:
إنها عبادةٌ فاشية نشأت بين جيل كانوا أطفالًا عندما كانت غرف الغاز في أوروبا تعمل بأقصى طاقتها، مجموعة من الرومانسيين المحرومين في شبكة المقهى… يحظون بالمتعة في ثقافة مسترخية ذات تفكير واهم بالتعذيب، الألم والقتل.
الحقيقة أن ويلسون كان من أشد المعجبين بفريدريك نيتشه. لقد اعتقد أن البشر يمكن أن يصعدوا السلم التطوري ويصبحوا بشرًا متفوقين (فكرة السوبرمان) من خلال الإرادة المحضة. عمليًا، يمكن لأقلية صغيرة وحسب فعل ذلك ـ الـ”5% المهيمنة” ـ ومن هؤلاء، 0.05% فقط سيفعلون ذلك فعلًا. ومثل نيتشه، كان لديه القليل من الوقت للبقية. إن البشر، كتب في يومياته، “حشرات تافهة للغاية… لا عجب أن معظمهم مديوكر” (وهو التعبير الذي يستخدم لوصف العاديين متوسطي المقدرات والقيمة).
مع نشأته محاطًا بالـ”حمقى”، شعر ويلسون باختلافه وتفوقه: “كنتُ أجلس في الحافلة مع باغافاد غيتا في حجري، وأنظر إلى الآخرين، وأفكر: حياتي مختلفة تمامًا عن حياتكم… أعرف أن الإنسان يمكن أن يصبح إنسانًا متفوقًا أو إلهًا إذا بذل جهدًا كافيًا”. وفي عمر الثامنة عشرة، كتب قصة قصيرة يقرر المسيح فيها أن “هؤلاء البلهاء البائسين لا يستحقون الموت لأجلهم، وأنه كان من الخطأ أن يشفق عليهم في حين أن ما يحتاجونه هو ركلات قوية”. ومثل نيتشه، اعتقد ويلسون أنه سيكون من الرحمة فعلًا لو لم يوجد بعض أولئك البشر الأدنى شأنًا. في عام 1961، كتب في يومياته:
لقد غرق “البشر الضئيلون” عميقًا في الدناءة لدرجة أنه سيكون من المؤلم لهم أن يعالجوا أنفسهم؛ إنهم يجثمون حول النار مثل معاقين، العالم الخارجي يجعلهم ينكمشون خوفًا. ومن دون أن يعرفوا ذلك، يريدون أن يموتوا.
هذا النوع من النخبوية النيتشوية المتغطرسة هو سمة نموذجية للحداثة، ويمكن العثور على مقاطع مماثلة عند هـ. ج. ويلز، جورج برنارد شو، و. ب. ييتس، أو دي إتش لورنس. الفارق هو أن ويلسون قد جاء بها بعد الحرب العالمية الثانية، في بريطانيا الخمسينيات، حين كانت الروحانية قد صارت قديمة الطراز، وعبادة السوبرمان النيتشوي أكثر قدمًا.
علاوة على ذلك، أكد هوبكنز، صديق ويلسون الذي عاش معه في نوتينغ هيل غيت في أواخر الخمسينيات، مخاوف النقاد من أن عصبة ويلسون قد جسّدت ما دعاه أُلسوب “استبدادية جديدة ملغزة لليمين المتطرف”. تتحدث رواية هوبكنز الأولى “الإلهي والانحلال” (1957) عن قائد فاشي يقتل خصمًا له. وكان واضحًا أن هوبكنز قد أُعجب ببطله. وفي عام 1958، أسس هوبكنز حركة سياسية يمينية متطرفة خاصة به دعاها حركة “سبارتاكان”. ووفقًا لهولرويد، لم يجتمعوا في تلك الحركة سوى لمرة واحدة ألقى خلالها ويلسون خطابًا يشدّد فيه على أن “القوة السياسية الفاعلة يجب أن تكون في أيدي الأقلية التي نسبتها 5%، والتي هي مهيأة لاستخدامها”.
لجعل الأمور أسوأ، تودد الفاشي البريطاني والمدافع عن النازية أوزوالد موزلي، ساعيًا لرد الاعتبار لسمعته بعد الحرب، إلى مجموعة ويلسون، وكتب مراجعة متحمسة من خمس عشرة صفحة عن “اللامنتمي” في مجلته “ذي يوروبيان”. وجرّاء شعوره بالإطراء، دعاه ويلسون: “أذكى سياسي قابلتُه قطّ” (كان السياسي الوحيد الذي قابله). وعندما حضر موزلي ليلة افتتاح مسرحية هولرويد الأولى في مسرح رويال كورت، خرج النقاد اليساريون غاضبين، واشتبك ويلسون معهم في مشاجرة في الحانة المجاورة.
وبعدها، في ضربة قاضية أخيرة، ظهر والد صديقته الحميمة في منزله مع سوط. كان الأب قد وقع على يوميات ويلسون، وشعر بالذعر؛ كانت اليوميات مليئة بتفاصيل دموية لجريمة من رواية عن قاتل متسلسل كان ويلسون يكتبها. ولكي يثبت براءته، سلّم ويلسون اليوميات لصحيفة “ديلي ميل”. وكانت تلك فكرة سيئة. فقد نشرت الصحيفة حماقات الشباب تلك بابتهاج على أنها: “الموت لأنصاف المميزين. إن الشهية التطورية فيّ تطالب بجديّة هي في الواقع بعيدة عن هذه الحضارة الغبية”.
لاحقًا، غادر ويلسون لندن متبعًا نصيحة غولانتز، ولم يعد قطّ. استقر في كورنوول، حيث عاش هو وزوجته جوي للخمسين سنة التالية. وظل على نحو مزمن قديم الطراز بالنسبة إلى الأدباء. كان الصحافيون والنقاد يزورونه من حين إلى آخر، يبقون عنده ويشربون نبيذه، لكن ليس إلا ليسخروا من المعلِن لنفسه عبقريًا بعد عودتهم إلى لندن. كان ثمة شعور يسري بين ويلسون ومعجبيه بأنه قد عومل بإجحاف، حتى أن كاتب سيرته الذاتية غاري لاكمان تحدى أحد الصحافيين إلى مبارزة بعد موت ويلسون عام 2013، بسبب كتابته نعيًا مهينًا.
بعد “اللامنتمي”، أصبح ويلسون المتحدث البريطاني الوحيد باسم حركة الإمكانات البشرية الكاليفورنية. وأعلن (حد الإعياء) أن البشر عادة يعملون وفق نظام تحكم آلي، مثل روبوتات، وبالكاد يستخدمون مخزوننا من الطاقة والوعي. لكن، في وسعنا التحكم بعقولنا، تغيير مواقفنا، وإيجاد المتعة.
في الستينيات، تبادل ويلسون رسائل عديدة مع أبراهام ماسلو، الذي كان في ذلك الحين عالم النفس الأكثر شهرة في الولايات المتحدة، وساعد في تطوير نظرية ماسلو عن تجارب الذروة. فهم ويلسون، كما لم يفعل ماسلو إلا متأخرًا، أن تجارب الذروة ليست دائمًا حميدة. وأنها غالبًا تأتي من أزمة ومعاناة. كانت المشكلة أن الحضارة مريحة وآمنة أكثر مما يجب، ولم تفسح مجالًا للصراع والبطولة. لذلك كان على اللامنتمي أن يتخذ إجراءات يائسة، مثل لعب غراهام غرين للروليت الروسي لا لشيء إلا ليشعر أنه على قيد الحياة.
وسيأخذ نيتشه هذه المناقشة إلى استنتاجها المنطقي: نحتاج إلى العنف والحرب لنستمر بالتطور كجنس بشري. وقد وافق ويلسون على هذا، لكنه اقترح أن ثمة طرقًا بديلة: يمكن أن نتطور من خلال التدريب الروحي. واعتقد أنه هو نفسه قد تطور إلى مستوى تطوري أعلى، وأن قلة من الآخرين سيتبعونه، متحولين إلى كائنات متفوقة خالدة تقريبًا. لقد ظن أنه هو نفسه سيعيش حتى عمر 300 سنة من خلال قوة الإرادة وحدها.
لم يعش ويلسون حياة إنسان متفوق كثيرة الوضوح. كان يستيقظ عند الخامسة صباحًا كل يوم، يقرأ في السرير، يكتب حتى الثالثة ظهرًا، ثم يذهب ليتمشى عند الشاطئ قبل أن يتجه إلى الحانة ويتناول العشاء. وكان يشرب على الأقل زجاجة من النبيذ يوميًا، حتى ظهر له كرش. ولم يكن يقرأ أو يكتب الكمية اللائقة بإنسان متفوق: كتب ثلاث مسرحيات، 33 رواية، 101 عمل غير أدبي. تحول إلى مواضيع أكثر باطنية، وكتب عن كل شيء، من أطلانتطس إلى الاستنباء.
اليوم، بينما نقترب من الذكرى السنوية العاشرة لموته (توفي في كانون الأول/ ديسمبر 2013 ـ المترجمة)، نتساءل: هل تستحق أعماله الكاملة الهائلة إعادة تقييم نقدية؟ يمكن القول، دفاعًا عنه، إن “اللامنتمي” أثبت أنه لم يكن صيحة في واد. قد لا يكون عملًا عبقريًا، لكنه يحظى بشعبية مستمرة بين القراء؛ من بين المعجبين به: جون لينون، ديفيد بوي، جيري رافيرتي، ومعمر القذافي.
لقد ألهم “اللامنتمي” كثيرًا من المراهقين، ودفعهم ليغوصوا في تاريخ الأفكار. بالنسبة إليّ، عشقتُ الكتاب عندما قرأته أول مرة وأنا في عمر السادسة عشرة. وكان جزء من إغوائه يعود إلى أن ويلسون كان يكتب عند ولادة طبقة جديدة ـ “أنتليجنسيا الجماهير” ـ أي عندما أضفيت على الأفكار المحصورة عادة بنخبة أوكسبريدج صبغة ديمقراطية قُدِّمت للجماهير. منح ويلسون لكثيرين إحساسهم الأول بـِـ”أزمة المعنى” في الثقافة الغربية، والأملَ بوجود مخرج منها. كان نبي الكتب ذات الأغلفة الورقية، مثلما أن غوردن بِيتَرْسن هو اليوم نبي اليوتيوب. كذلك، تشاركتُ مع ويلسون رفضه للعلمانية الصارمة للثقافة البريطانية بعد الحرب، تلك التي تفتقر إلى نزعة المغامرة الروحية التي تتمتع بها ثقافة البِت والهبيّة الأميركيتين.
مع هذا، بالعودة إلى عمل ويلسون بعد ثلاثين عامًا، أرى جانبًا أكثر ظلمة في رؤيته للعالم لم أكن أراه وأنا مراهق. إن بوسع ويلسون أن يظهر تعصبًا نيتشويًا إزاء الضعف والمديوكرية، وكثيرًا ما عبّر عن فكرة أن “البشر يموتون لأنهم يريدون ذلك… بدافع الكسل، وانعدام الهدف”. السرطان يقتل البشر لأنهم يفتقرون إلى الحيوية، اقترح مرة على نحو مهين.
إن إحساس ويلسون بالفوقية، وبحثه عن تجارب عنيفة، قاده أحيانًا إلى التعبير عن تعاطفه مع قاتل متسلسل يسعى للنشوة من خلال القتل. تبادل ويلسون الرسائل مع إيان برادي، قاتل مورس، واعتقد بأن برادي “يشعر بذات الاشمئزاز الوحشي للمجتمع البشري الذي عبّرتُ عنه ذات مرة… البشر ضعيفون للغاية، وأغبياء للغاية، إلى درجة أن هذا النوع من الأشياء ليس شريرًا حقًا… هو ومايرا هيندلي… إلى حد ما، يعيشان حياة شبيهة بحياة الآلهة”. لقد كان لدى ويلسون انجذاب دائم وقذر إلى حد ما إلى مسألة القتلة المتسلسلين.
لم يكن كولن ويلسون فاشيًا، على الأقل ليس بمعنى كونه عضوًا في حزب: لم يكن مهتمًا كثيرًا بالسياسة. لكن يمكن القول إنه كان قريبًا من الفاشية، وكان لديه بالتأكيد أصدقاء فاشيون، مثل هوبكنز، أو الروائي اليميني المتطرف هنري ويليامسون، أو آل موزلي، الذي تبادل معه رسائل عدة من الخمسينيات حتى الثمانينيات. قرأتُ هذه الرسائل في أرشيف ويلسون المذهل في جامعة نوتنغهام، وأدهشتني قوة ومدة العلاقة.
عام 1957، على سبيل المثال، كتب موزلي إلى ويلسون ليواسيه بعد أن تعرض هذا الأخير إلى السخرية على خشبة المسرح من قبل مانكوفيتز. ولإبهاجه، أرسل موزلي قصاصة من مجلته اليمينية المتطرفة تتناول مناوشته هو ذاته مع مانكوفيتز في اتحاد الطلبة. كانت تحمل عنوان “كوميديا يهودية”، واحتوت على السطر التالي: “أحسنت، في كل مرة يصعدون إلى القمة، يصيبهم ذلك بالغرور… إنهم يتجهون نحو الهاوية بطيشهم”.
في آذار/ مارس عام 1958، كتب موزلي إلى ويلسون قائلًا:
في ما يخص التاريخ؛ أنت بالطبع محق في اعتقادك أنه كان من الحماقة، من وجهة نظر بريطانية، الوقوف إلى جانب ستالين ضد هتلر. لو أننا تركنا الألمان وحدهم، لما كان ليبقى كثير من الخطر الشيوعي. وما أراده هتلر لم يكن ثورة عالمية، بل أراد مجالًا حيويًا للألمان في شرق أوروبا.
مع هذا، حثّ موزلي الشابَ الذي كان ينال دعمه وحمايته: “لا تكن بأي شكل من الأشكال ملتزمًا بالسياسة، ليس قبل أن تتحرك الأمور بشكل كبير”. وأرسل إلى ويلسون مخطوط كتاب جديد له يحتوي على أسئلة وأجوبة عن الحركة التي أسسها، بالإضافة إلى نفائس مثل: “لم يكن في الفاشية والاشتراكية الوطنية في الأصل أي شيء مشابه للعنف الكثير أو الوحشية التي في الثورة الفرنسية، ولا يمكن حتى المقارنة بأهوال الثورة الروسية”، أو “معظم أولئك الذين يسببون المتاعب في بريطانيا اليوم ليسوا في الواقع أوروبيين أبدًا، بل أعضاء من جماعة المشرقيين”. يقترح موزلي أيضًا أن الفاشية تدور حول البحث عن “شكل أعلى من الإنسان” في التقليد الذي يعود إلى غوته، نيتشه، و”كتابة كولن ويلسون الجديدة اللافتة”.
بدوره، شجّع ويلسون موزلي على أن يعود إلى السياسة ويترشح كعضو في البرلمان عن منطقة كنسينغتون نورث عام 1959. لكن ويلسون كان مصدومًا من الحملة الانتخابية، وكتب:
في أثناء انعطافنا إلى طريق تشيبستو، مرت بنا شاحنة صغيرة بمكبر صوت يزعق “أخرجوا الزنوج من إنكلترا. صوتوا لموزلي. فهو سيحرر إنكلترا من الزنوج”. كنا وقتها في طابور في انتظار الحافلة مع بضعة جامايكيين. لم يبدوا غاضبين أو شاعرين بالتهديد؛ إنما محرجين على نحو رهيب، كما لو أن خصوصيتهم قد انتُهِكت على حين غرة. فجأة، شعرت بالخزي جدًا من مواطني بلدي.
واجه ويلسون موزلي في هذا الخصوص، لكن الأخير أكد له أن ذلك كان من فعل مشاغبين خارجيين. هكذا، اختار ويلسون ألا يرى بشاعة حركة صديقه، حقيقة أن اتحاد الفاشيين البريطاني الذي أسسه موزلي قاد حملة معادية للسامية في الثلاثينيات ستُعَطّل فيها الديمقراطية، ويُحرَم اليهود من التصويت؛ أو أن موزلي في الخمسينيات قاد حملة مستمرة لطرد المهاجرين البريطانيين، وتأسيس دولة فاشية على مستوى أوروبا مع إمبراطورية أفريقية.
بعد موت موزلي عام 1980، ظل ويلسون على تواصل مع أرملته، الليدي ديانا موزلي. وناقش الاثنان كيفية رد الاعتبار لـِ”توم”، كما كان موزلي يُعرّف. كتب ويلسون عام 1988:
سيكون رائعًا بالتأكيد لو أننا نتمكن أخيرًا من طباعة بعض أعمال توم لعامة الناس… سأعرض بالتأكيد أن أقوم بكتابة مقدمة، وأفعل أي شيء آخر يساعد في نشر الكتاب.
هل كان ويلسون معاديًا للسامية، أو عنصريًا، هو نفسه؟ ليس في أغلب الأحيان، لكن في بعضها. بعد أن تشاجر مع غولانتز، دعا ناشره “دائنًا يهوديًا” في يومياته. كذلك، في واحد من اليوميات، يروي ويلسون هذه الحادثة من عام 1967:
توقفنا في نُزُل. كان الملّاك يهوديًا، من نوع معين من اليهود أثار فيّ دومًا انطباعًا مزعجًا لأنهم يبدون منشغلين تمامًا بالمادي والتافه. [وذلك بعد أن انزعج المالكون منه لأنه صدم سيارته بجدران النزل]. ذكرني كل ذلك بوضوح شديد بصاحبات أملاك معينات من الأيام السابقة لكتابة “اللامنتمي” أعطينني شعورًا مستمرًا بكوني تحت المراقبة، بأنهن يكرهنني حقًا، ويتمنين لو لم أكن في منزلهن… كنت أشعر بعنف وازدراء غاضب جعلني أحس بأن مثل أولئك البشر يجب أن يبادوا مثل القمل!
مثل تلك الملاحظات نادرة ومحصورة في مذكراته الخاصة، ما عدا في مثال واحد. سعى موزلي لرد الاعتبار للفاشية بعد الحرب من خلال إنكار الهولوكوست كليًا، أو اقتراح أن اليهود جلبوه على أنفسهم. وتابع ويلسون في هذا المسار. في عام 1974، كتب ويلسون مراجعة لصالح مجلة “بوكس آند بوكمين” لسيرة هتلر الذاتية التي كتبها يواخيم فيست، لكنه حاد فيها عن الكتاب ليناقش كرّاسة كان قد قرأها تدعى “هل مات ستة ملايين حقًا؟” (1974)، كتبها ريتشارد هارود. وعلى الرغم من أن ويلسون قال إنه “من الصعب تصديق أن الأمر كله كان اختلاقًا”، فقد عبّر عن تعاطفه مع خاتمة هارود، وكتب:
نعرف أنه [هتلر] كان يمقت اليهود. نعرف أن معاملته لليهود الألمان كانت مروعة، وحشية وغير إنسانية إلى أقصى حد؛ ثمة كثير من الدلائل من ألمانيا ما بعد الحرب لإثبات ذلك. لكن مع هذا، يستحق الأمر طرح السؤال: هل حقًا أباد النازيون “ستة ملايين” يهودي؟
في الثمانينيات، كتب ويلسون لصالح لودستار، وهي صحيفة يمينية متطرفة نشرها صديق موزلي الحميم جيفري هَمْ. سأل ويلسون هَمْ إن كان بوسعه أن يكتب مراجعة لكتاب ديفيد إيرفينغ، المؤرخ اليميني المتطرف المنكر للهولوكوست، والذي كان ويلسون “معجبًا بشدة به”. هكذا، لعب ويلسون دورًا صغيرًا في تشجيع حركة إنكار الهولوكوست الحديثة.
منذ موته عام 2013، أصبح ويلسون معلّمًا روحيًا لليمين البديل. واحتُفي به وبهوبكنز من قبل جونثان باودن، وهو كاتب بريطاني وسياسي يميني متطرف أصبح الشخصية البارزة في العبادة اليمينية الأميركية المتطرفة. يُنَاقش ويلسون اليوم مرارًا من قبل كتّاب “كاونتر ـ كورينتس” (تيارات معاكسة)، وهي صحيفة من اليمين البديل تؤمن بتفوق البيض. إنهم لا يزعمون أن ويلسون هو رفيقهم في الفاشية، لكنهم يرونه بالفعل مرشدًا روحيًا لمهمتهم.
كان نقاد ويلسون محقين، إذًا، عندما اتهموه بأن لديه ميولًا وتعاطفات فاشية. وقد تودد موزلي إليه لأنه فهم أنه إذا كان للفاشية أن تعود يومًا للظهور، فعليها أن تستميل طالبي الروحانية، وتجعلهم جذريين بتحويلهم إلى “فوهرريي الروح الشباب”. كما أن حركة “العصر الجديد” لا تزال أرضية تجنيدٍ لليمين المتطرف اليوم؛ أنظر إلى شعبية نظريات المؤامرة المسماة “كيو آنون” عند المؤثرين الروحانيين.
بالنسبة إليّ، لا أزال أجد عمل ويلسون هامًا، لأنه يكشف خللًا في التقليد الذي ينتمي إليه؛ تقليد الروحانية التطورية الذي يقترح أن البشر يتطورون إلى بشر متفوقين، أو كائنات عليا. المشكلة في رؤية العالم هذه هي أنها غالبًا ما تؤدي إلى افتراض أنك وأصدقاءك نخبة بشر متفوقين متطورين للغاية، وتستحقون أن تسيطروا على الجماهير المترديّة.
نجد هذا الخلل عند أبطال ويلسون على اليمين وعلى اليسار: شو، ويلز، ييتس، آليستر كرولي، رودلف شتاينر، ألدوس وجوليان هكسلي، تيار دي شاردان، وحتى ماسلو، جميعهم اقترحوا أن طليعة البشرية، بمن فيها هم، تتطور إلى بشر متفوقين، ويجب أن تهيمن على الحشود الأقل تطورًا. إن هذه العبادة، عبادة الإنسان المتفوق المضادة للديمقراطية، لا تزال رائجة في كاليفورنيا، حيث تلهم أشخاصًا مثل البليونير المؤمن بحركة ما بعد الإنسانية، بيتر ثيل، الذي قال: “لم أعد أؤمن بأن الحرية والديمقراطية متوافقتان”.
يعود هذا الخلل في الروحانية التطورية، في رأيي، إلى نيتشه، إلى عبادته للكائن الأعلى (ـbermensch)، ورفضه لفضائل الإحسان، التواضع والديمقراطية. في النتيجة، يمكنك أن تؤمن بإمكانية أن البشر يمكن أن يتطوروا يومًا ما إلى شيء أفضل (ألطف، كما نأمل)، من دون أن تضع نفسك في مرتبة عالية، وتهزأ من أولئك الذين تتخيل أنهم أدنى منك.
جولز إيفَنز: كاتب وفيلسوف عملي. زميل أبحاث فخري في مركز تاريخ المشاعر في جامعة الملكة ماري، لندن. له كتاب “الفلسفة لأجل الحياة وحالات خطيرة أخرى” (2012). وهو يساعد في إدارة “نادي لندن للفلسفة”، الذي يعد من أكبر نوادي الفلسفة في العالم.
*ضفة ثالثة