«الكاتب الشبح» هو كاتب يتم استئجاره لكتابة نصوص مختلفة (مذكرات أو سير ذاتية، أو كتب لنجوم المجتمع، أو مقالات وتقارير أكاديمية، أو بحوث علمية أو روايات، وما إلى ذلك) لتنسب إلى الشخص الذي استأجره، لقاء مبلغ من المال يتفق عليه الطرفان.
ظاهرة « الكاتب الشبح « شائعة في عالم النشر في العالم، خاصة في الدول الغربية، لكننا سنقصر حديثنا على أشباح الكتابة في الأدب الروسي المعاصر .
المستهلك الرئيسي لهذا النوع الأدبي الخفيف، هو القارئ غير المثقف، الذي ليس لديه الاستعداد لبذل بعض الجهد لفهم الأدب الجاد، فهو يقرأ هذا النوع المريح من الروايات، لتسلية النفس، ونسيان متاعب الحياة، ولو لمدة قصيرة، حيث لم يعد الكتاب غذاءً ثقافيا وروحيا، لأغلب القرّاء من الجيل الجديد في روسيا .
دور النشر الخاصة التي تأسست في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، هي في الحقيقة شركات نشر وإشهار تجارية، تسعى إلى تحقيق أقصى الأرباح عن طريق استرضاء الجمهور، والجري وراء أهوائه، دون مراعاة أبسط المعايير الأدبية، أو القيم الأخلاقية، ولدى هذه الدور ما يسمى (المشاريع) ويتم تنفيذ كل مشروع على النحو التالي: يطرح الكاتب الرائج ـ الذي أصبح اسمه علامة تجارية كأي سلعة في السوق – الفكرة الرئيسية للرواية على دار النشر، ووظيفة دار النشر هي العثور على المؤلف الشبح، الأكثر موثوقية لتنفيذ الطلب، حسب المواصفات المطلوبة.. وكتابة رواية مسلية ذات حبكة معينة. وكقاعدة عامة، من أجل إنجاز العمل ونشر الرواية بأسرع ما يمكن، يقسم العمل أحيانا بين عدة مؤلفين أشباح، أو يقوم الكاتب الرائج بتكليف كاتب شبحي واحد أو أكثر، لكتابة روايته التالية. وأحيانا تطلب دار النشر من كاتب شبحي كتابة رواية في موضوع رائج باسم كاتب وهمي، لا وجود له في الواقع . وفي حالة نجاح التجربة، وإقبال القرّاء على الرواية، تقوم الدار بإصدار روايات أخرى باسم الكاتب الوهمي ذاته، بفاصل زمني قصيرة، بين رواية وأخرى قد لا يتجاوز بضعة أسابيع .
وثمة كتّاب أشباح يعملون في دار النشر بصفة محررين لمراجعة النصوص التي تنشرها الدار، لكن عملهم الحقيقي هو كتابة الروايات الخفيفة باسم هذا الكاتب أو ذاك، أو باسم كاتب وهمي مفبرك من قبل دار النشر. ولعل من أشهر الأسماء الوهمية في الأدب الروسي اليوم مارينا سيروفا. وهذا الاسم قناع أدبي لمجموعة من الكتّاب الأشباح المتخصصين في كتابة الرواية البوليسية. وقد لقيت أعمالها رواجا هائلاً، حيث بلغت مبيعات بعض رواياتها: «المبدأ الرئيسي للعرافة» «كابوس مرح» «إلى الأمام ومع أغنية» مليون نسخة. كما بلغ إجمالي مبيعات رواياتها حوالي 12 مليون نسخة.
وفي العادة تظل أسماء المؤلفين الأشباح سرية. ومن المدهش، أن الموقف من الكاتب الشبح قد تغير في السنوات الأخيرة، ويتم التعامل معه حالياً باحترام أكثر. فقد لجأت بعض دور النشر الروسية إلى إدراج اسمه، ليس على الغلاف، بل بحروف صغيرة في الصفحة الداخلية الأخيرة كمراجع لنص الرواية. وأحيانا نجد على غلاف أحد الكتب اسم مؤلفين اثنين، أحدهما معروف والآخر مجهول. وهذا الأخير هو المؤلف الحقيقي للكتاب.
كم من الوقت تستغرق كتابة رواية جادة؟
يمكن لأي كاتب موهوب يتقن تقنيات الكتابة الإبداعية أن يكتب رواية واحدة في السنة، تتسم بالغنى النفسي والقيمة الجمالية، كما يمكنه كتابة روايتين من هذا النوع، في حالة واحدة فقط، وهي الانكباب على العمل بكل جد، والتفرغ تماما للكتابة، وتجاهل مشاهدة التلفزيون وتصفّح المواقع الإلكترونية، وعدم الانشغال بأمور أخرى في الحياة اليومية .
كتب ليو تولستوي رواية «الحاج مراد» على مدى ثماني سنوات. أما فيودر دوستويفسكي فقد كان يكتب بسرعة شديدة، ومع ذلك لم يكن ينتج سوى رواية واحدة كل سنة أو سنتين. أما الكتّاب الرائجون اليوم في روسيا، فقد أصبحوا مصانع لإنتاج الروايات الاستهلاكية، وطرح روايات عديدة في السنة الواحدة. وهي روايات سطحية محشوة بالتوابل الجنسية، وكل ما هو غريب وشاذ. فعلى سبيل المثال لا الحصر بلغ عدد الروايات التي أصدرها الكاتب أندريف فورونين خلال فترة لا تتجاوز خمسة عشر عاما (250) رواية.. وخلال الفترة نفسها نشرت الكاتبة داريا دونتسوفا (230) رواية والكاتبة تتيانا بوليكوفا (90) رواية. أما الكاتبة الوهمية مارينا سيروفا فقد سجلت رقما قياسيا، حيث أصدرت لحد الآن 576 رواية .
هذه الخصوبة المذهلة تثير الشكوك في نفوس من لهم دراية ولو بسيطة بصعوبة الكتابة الأدبية الإبداعية. من يختبئ حقا وراء هؤلاء الكتّاب؟ الاعتقاد السائد هو أن «الكتّاب الأشباح» هم الذين يؤلفون تلك الروايات. وثمة طلب عليهم في سوق الكتب، أكثر من أي وقت مضى. وبطبيعة الحال فإن الكتّاب الرائجين يحاولون نفي وجود مثل هؤلاء الأشباح .هذه الحالة تقوض الثقة بالكتّاب الرائجين، الذين تختلف أساليبهم في كل مرة من رواية إلى أخرى. وأصبح الآن من الممكن معرفة إن كانت النصوص تعود فعلا إلى الأسماء المذكورة على الأغلفة، من خلال تحليل النص لغويا وأسلوبيا، ومقارنته بكتابات سابقة للمؤلف باستخدام برامج كمبيوتر خاصة، ومع ذلك فإن الكاتب الشبح يمكنه تقليد أسلوب المؤلف. ونظرا لصعوبة إثبات الخداع، فإن الكتاب الرائجين يواصلون نشر روايات لم يكتبوها بأنفسهم .
المؤلفون الأشباح هم في العادة شباب من خريجي معهد غوركي الأدبي، أو أقسام فقه اللغة والأدب في الجامعات، أو قسم السيناريو في معهد السينما، أو روائيون مبتدئون، رفضت دور النشر نتاجاتهم لأسباب تجارية بحتة، لا علاقة لها بالإبداع، وليس لديهم المال اللازم لنشرها على نفقتهم الخاصة، فاضطروا للعمل لصالح دور النشر، من أجل الحصول على المال، وفق شروط جيدة، لكن ذلك ليس بالأمر السهل، فثمة مواصفات مطلوبة في الكاتب الشبح، أهمها المهارة الأدبية والأسلوب السلس الجميل، الذي يجذب القارئ. ومن الواضح أنه لا يمكن للناشرين الإعلان عن حاجتهم إلى الأشباح بشكل علني في الإنترنت، لكن يمكن لهؤلاء الشباب العثور على إعلانات مموهة، في المواقع الإلكترونية، تبدو كالآتي: «كاتب مقتدر، مطلوب للعمل في الدار الفلانية».
ترتبط بكل دار نشر روسية كبيرة مجموعة من النقّاد. والمهمة الرئيسية لهؤلاء هي الترويح للروايات الصادرة عن الدار، بكتابة مقالات أو مراجعات أو تحليلات مزعومة، تهدف إلى كيل المديح لتلك الأعمال في وسائل الإعلام المختلفة، خصوصا في مواقع التواصل الاجتماعي. وهم يتحكمون بالجوائز الأدبية لصالح دور النشر التي يرتبطون بها. وكم من جائزة أدبية رفيعة ذهبت إلى روايات تافهة لا تستحق القراءة.
تشكل الرواية الاستهلاكية حوالي ثلثي إجمالي عدد الروايات، التي تنشرها دور النشر الروسية، وهي هزيلة القيمة الأدبية، وساذجة في بنيتها الفنية، تتناول موضوعات الجنس والعنف والدم، أبطالها من المافيا، وتجار المخدرات، والقتلة المأجورين، والسكارى، والمثليين، واللقطاء، ونساء باحثات عن مغامرات مثيرة، وتتصف بحبكات بسيطة تنطوي على توابل التشويق، بلغة سوقية نابية، وتزخر بكلمات بذيئة، ومثيرة للاشمئزاز.
الأدب الجماهيري في روسيا يعاني فقر الدم؛ فهو خامل وممل ولزج، وعلى الرغم من أنه يطلق على نفسة مصطلح ما بعد الحداثة، فإنه أدب هستيري مفعم بالكآبة والانقباض يعاني فيه القارئ الذكي من الصعوبة والملل .
روسيا زاخرة كالعادة بأصحاب المواهب الأدبية المتميزة، يكتبون روايات تطرح رؤى عميقة للواقع الروسي في بنى فنية متميزة، لكن دور النشر ترفض نشر رواياتهم بذريعة عدم رواج الأدب الجاد، وفي حالة نشرها تطبع منها بضعة آلاف نسخة فقط، لا غير.
*القدس العربي