“جودت سعيد” علّامة الجولان..داعية اللاعنف .. ترموميتر متأرجح بين مطرقتين

0

محمد فتحي المقداد

كاتب سوري، مقيم في الأردن

مجلة أوراق- العدد 17-18

أوراق الدراسات

“جودت سعيد” رحمه الله وأحسن إليه، أسلم روحه لبارئها(30/1/2022) كانت مجالس قريته “بير عجم” في محافظة القنيطرة (الجولان) السوريّة، محجة لطلّابه وأحبابه والباحثين عن تحصيل العلم، يتتلمذون عليه بما يُملي عليهم من قضايا فكريّة مُهمّة، وتُغازل بقوّة حالة الاحتكاك الشديد من التجارب العمليّة والنظريّة على السّاحة السّوريّة، منذ مرحلة ما بعد الاستقلال 1945، وجلاء آخر جنديّ فرنسيّ عنها.

حمأة الصّراعات المُتأجّجة ما بين التيّارات القومية والدينيّة، ولكلّ تيّار أجنحته المُتعدّدة، ولم يتوقّف السَّعي الحثيث الدؤوب لدى أيّ طرف؛ لإثبات نفسه بقناعات مُؤدلجة بأحقيّته في إدارة دفّة قيادة الدولة والمجتمع، تحت ستار مصلحة الوطن والمواطن، وهو ما تجلّى في البيان الأوّل لكلّ انقلاب من إذاعة دمشق، بعد موسيقا المارش العسكريّ منذ انقلاب “حسني الزعيم“، وهو الأوّل في تاريخ سورية والشرق. مئة وسبعة وثلاثون يومًا كانت فترة حكمه (حسني الزعيم)، رغم قصرها؛ فقد تركت أثر العكسرتاريا ببساطيرهم الثقيلة المقيتة وَسْماً سوريّاً مُميّزاً، وُصولاً إلى الرّئيس “حافظ الأسد” وانقلابه الأشهر على الإطلاق المُسمّى (الحركة التصحيحيّة) 1970م.

الفعاليّات الفكريّة الفاعلة والمُنفعلة بتأثيراتها جزء لا يتجزّأ من المعمعة السوريّة. المفكر والباحث الإسلاميّ “جودت سعيد” أحد الذين ألقوا بدلائهم في مياه جارية، حاول جاهداً الإمساك بالحبل بقوّة للمحافظة عليه من التيّار الجارف، فالاتجاه الإسلاميّ هو ابن المجتمع السوريّ، نتاج ولادة طبيعيّة لمجتمع إسلاميّ ذي تقاليد وأعراف قائمة على مستندات إيمانيّة وعقائديّة، تولّد من ذلك خليط من الجماعات الصوفيَّة والسلفيَّة، حتّى المدرسة الفكريّة الإخوان المسلمين كانت الأبرز بمُخرجات ذات أثر عميق بأبعاد ذات خطوط واضحة في مسارها الدعويّ؛ فتبدو أنّها نسيجاً مُتجانساً متناغماً، لكنّ الحقيقة أنّ التيَّارات الفكريَّة السلفيَّة الجهاديَّة والصوفيّة والدعويّة هي مُكوّنات الجماعة، وهو ما انعكس سلباً بالانشقاقات الفكريّة التي كانت الأقرب للمناطقيّة الحلبيّة والحمويّة والدمشقيّة، كما أنّ النزعة المناطقيّة كانت حاضرة عند التيَّار الوطنيّ والقوميّ أيضاً.

كانت أبرز كلمات جودت سعيد: “لا توجد قوَّة على وجه الأرض تستطيع تغيير قناعات وأفكار أحد باستخدام الضغط والقوّة، وأنّ القرآن يوصينا بعدم استخدام الإكراه في الإقناع.. الضغط يولّد ردود فعل قويّة“.

مؤلّفاته وآثاره الفكريّة أبرزها: “حتى يُغيَّروا ما بأنفسهم“، و”فقدان التوازن الاجتماعي” وكتاب “مذهب ابن آدم الأول” الذي نُشر أواخر ستّينيّات القرن الماضي، والذي ذاع صيته وقتها، حيث كان “جودت سعيد” يردّ على توجّه بعض التيّارات الإسلاميّة نحو العُنف السياسيّ.

انطلاقاً ممّا تقدّم لا بدّ من التوقّف في محطّة أولى لبناء فكرة تُوضّح الأسُس الذي قام عليه التشكيل الفكريّ لدى “جودت سعيد“، المستندة بأصولها العميقة على مُرتَكز قرآنيٍّ؛ فمن خلاله تكوّنت رُؤاه للعالم من حوله، ولوجوده كفرد واعٍ لمُهمتّه الإنسانيّة المُنطلقة في عوالم الأفكار المفتاحيّة، لتُشكّل ملامح عالمه الفكريّ، الذي دخله من باب التوحيد؛ فهو يرى أنّ: (التوحيد مسألة سياسة اجتماعيّة، وليست مسألة ميتافيزيقيّة إلهيّة)؛ فالتوحيد لله الخالق في عليائه، من المُفترض أن يتساوى به جميع المؤمنين من البشر لإيجاد العامل المُشترك الذي يجتمعون حوله وعليه، وبذلك يتساوون في بشريّتهم المُنضوية بعبوديّتها لهذا الخالق العظيم؛ ليجعل من معطيات الآية الكريمة أساساً للقاء وتواصل إنسانيّ: (ألّا نعبد إلا الله، ولا نُشرك به شيئاً، ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله).

وبعد إرساء القاعدة الأولى، يخطو في انطلاقة فكريَّة واثبة في مجالات عمليّة، وتطبيقيّة في سبيل إقامة حياة سعيدة في ظلّ نواميس الكون الأزليّة؛ بثباتها وفق حكمة إلهيّة في طريقة تسيير الكون وجميع المخلوقات، لتكون الآية القرآنيّة (سنُريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم حتَّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ) مرجعيّة إنسانية عامّة.

وفي تفصيله للمعاني الواضحة والخفيّة التي تحتاج للبحث والتأويل، وهو ميدان “جودت سعيد” التي عرض فيه رُؤاه: (آيات الآفاق والأنفس، أي سُنَن الله في الكون، وتجارب البشر والأحداث والتَّاريخ البشريِّ، كلُّ هذه ستكون الدليل على صحَّة وصدق القرآن. ممَّا يعني أنَّ التاريخ والتجارب هي مرجع القرآن، ودليل صدق ما فيه من قوانين).

البعض من المفكّرين والمُتابعين يطيب لهم الوقوف في الجهة المقابلة للمُحاججة القائمة على اعتباره مُفكّرا مُتأثراً بالمذاهب الماديّة، التي تُفسّر الوجود وفق نظريّاتها المُتناقضة لعالم الرّوح والإيمان بخالق واحد مُدبّر قادر. وربّما ذهبت طائفة أخرى لاعتبار “جودت سعيد” مُبشّراً بالفكر الماديّ، وعند آخرين هو “غاندي العرب” باتبّاعه سياسة اللا عنف.

أحد المُرتكزات الأساسيَّة وفق رؤيته، وفتحت له آفاقًا جديدة، فكرة (الزيادة في الخلق) فالعالم بحسب فهمه للقرآن (لم يُخلَق وانتهى، أي لم يكتمل خلقه، وإنّما لا يزال يُخلَق)، مُستنِدًا للآية القرآنيّة: (يزيد في الخلق ما يشاء)، و(يخلق ما لا تعلمون).

وفق ما تقدّم من إيراد لبعض مُنطلقاته؛ لاستخلاص نُقطة مهمّة، ومحطّة أساسيّة يتوقف في رحابها الموافق والمعارض لما كان يقول “جودت سعيد”، حين اعتبر ذلك على أنّها مرتبة جديدة من مراتب الوُجود، وأطلق عليه مصطلح “الوجود السُنَني“. أي وجود الشيء كقانون، وسُنّة حتّى قبل وجوده بالفعل.

وللإيجاز هذه تمحوُرات وتمظهُرات مجالس “بير عجم” التي اشتُهرت بها، وفيها ألقى المفكر والباحث “جودت سعيد” أفكاره وأماليه على تلامذته القادمين من أماكن بعيدة وقريبة، حيث كان محجّة لهم، وهي كالآتي:

المجلس الأول: تأملات في اللغة – نشأتها – تدوينها – علاقتها بالواقع.

المجلس الثاني: سياسة الإسلام – الصدق – بناء الثقة – نبذ العنف – الرشد.

المجلس الثالث: الرشدُ شريعة الله والغيُّ شريعة الطاغوت.

المجلس الرابع: القانون – تأسيسه – حمايته – الالتزام به.

المجلس الخامس: الإسلام ومفهوم التغيير.

ومن هذا انبثقت الكتب النتيجة الطبيعيّة للتدارس والنقاش المُعمّق المُقنع للمريدين، والمنتقد من المناوئين والمعارضين له، وصار عُرضة لتجاذبات محلّ اجتماع واختلاف.

ومادام النهج لـ”جودت سعيد” إسلاميّ الفكرة والطريق؛ فهو يتناقض بطبيعة تكوينه مع مشروع نظام حكم عسكريّ علمانيّ مُؤدلَج، تحت ملاءة قوميّة أتيحت لها بروباغندا إعلاميّة ديماغوجيّة ساعية لتعميق أثرها مُجتمعيّاً، وكنتيجة حتميّة؛ تتأجّج الصراعات بين أصالة إسلاميّة، ومُحدَثَة قوميّة وعلمانيَّة بأحزابها الكثيرة. ومن الطبيعيّ تصنيف “جودت سعيد” مُعارضاً إسلاميّاً صبر عليه النظام طويلاً، لخصوصيّته ذات الخلفيّة الشركسيّة أولًا، ثمّ لأنّه لم يكن محسوباً على الإخوانيّة العنيدة بمعارضتها للنظام ونهجه.

ومع حلول العام 2011، انفجرت الاحتجاجات ضدّ الرئيس “بشار الأسد” على خلفية شرارة أطفال درعا، واتّساع نطاقات الهتاف ضدّ النّظام؛ طالب “جودت سعيد” المتظاهرين: على التمسّك بسلميّة التظاهرات الغاضبة المُطالبة بالحريّة والكرامة، وشدَّد على ضرورة نبذ العنف.

ردّة الفعل المُضاد بعنفه العنيف غير المسبوق، ممّا جعل إصرار “جودت سعيد” ليؤكّد مرّة تِلْو المرّة على الالتزام بالنِّضال السلميّ، أخيراً وأمام النهج الأعمى الاستئصالي للنظام ممَّا اضطره إلى النُّزوح إلى تركيا.

إصراره على سلميّة الثورة السوريّة كان موقفاً لا لبْسَ فيه، مُؤكّداً على ذلك في لقاءاته ومشاركاته الاحتجاجيّة، ومقابلاته الصحفيَّة المقروءة والمسموعة؛ ففي لقاء مُتلفَز له قال: (إذا نجحت الثورة السورية بالسلاح، سنظلُّ محكومين بالسلاح… وكل من أُخذ بالسَّيف بالسَّيف يهلك، والديمقراطيَّة لا تحلُّ في بلد إلَّا إذا قال: جميع الفرقاء لن نلجأ إلى العنف).

يضيق المقام من خلال مقال تقييم تجربة فكرية قائمة على تأسيس من مشروع فكريٍّ إسلاميّ على مستوى جماعات وأحزاب وأفراد مُستِّقلين مهما كان حجم تأثيرهم. ويبقى مفهوم التغيير في مجمله، فكرة انطلقت من رحاب المساجد وحلقاتها الدَرْسيّة والوعظيَّة، من خلال التواصل بين الشيخ ومُريديه وأحبابه، بتلقّى أفكاره وحفظها وتدوينها، ومن بعد محاولة التبشير الإصلاحيّ للمجتمع، لتعميم فكرة التواصل البناء بين أفراد المجتمع، وبناء علاقتهم المتينة بالخالق، واستعادة الدّوْر البنّاء للمسجد في الحياة، والحفاظ على الخصوصيَّة الدينيَّة في وجه رياح التأثير الغريبة. وهو الدُّور الذي قام به المُفكّر “جودت سعيد“، كما أقرانه ومُجايليه من علماء الدِّين السوريّين، بترشيد الفكر والسُّلوك بما يُكرّس تجذير ثوابت المجتمع؛ مقابل نهج الاغتراب والتغريب الممنهج بأساليبه الكثيرة.