جمال سعيد: تلك الليلة

0

كانت ريح تلك الليلة مثل ميادة.

وميادة ـ لمن يحب جمع الشهادات عنها ـ هي التي فرضت عليّ هذا التشبيه. أنوثة ميادة تطغى على الأشياء التي تمر قربها. وإن شئتم فإن أي شيء يختفي عندما تمر ميادة قربه!

تستطيع أنوثة ميادة أن ترتدي أي جزء من جسدها وتمارس طغيانها. أنوثتها تبدو صارخة أكثر مما أستطيع أن أحتمل لأحافظ على رصانتي كذكر موقر. أنوثتها تبقى متألقة سواء عندما تمشي و يهتز نهداها، أو عندما يتوقفان عن الاهتزاز حين تتوقف. ميادة تمارس أنوثتها وجمالها في مشيتها، في التفاتتها المفاجئة عندما (تنتر) رأسها لترد خصلة شعر إلى الوراء، في ابتسامتها، وفي هدوئها. ما يحيرني هو هل تفعل ميادة ذلك بعفوية وتصبح عفويتها جزءاً من جمالها المقلق ذاك، أم أنها تفعل ذلك عامدة لمعرفتها بأنها جميلة وتصبح حركات جسدها امتداداً لصراخ أنوثتها.

يروق لي الحديث عن ميادة كثيراً. ولكن ميادة ليست القصة (أظن أن القارئ سيتفهم استطرادي وخروجي عن القصة لو عرف هذه الميادة).

لم تكن ريح تلك الليلة مثل ميادة تماماً. كانت ريحاً باردة تحمل على صدرها ثلجاً وصفيراً وعتمة. وميادة لا تشبه البرد والصفير والعتمة في شيء! طغيان تلك الريح وصوتها يختلفان كثيراً عن طغيان ميادة الحلو إلى حد ان القلب يصاب بالصرع ويرفرف تائهاً ومتعباً مثل العصفور الذي كان يطير في تلك الليلة.

العصفور الذي عذبته تلك الليلة كان عصفور دوري صغيراً وعادياً من ذلك النوع الذي نشاهده أمام بيوتنا، على أشجار قرانا، فوق أسطحة مدننا، نراه أينما ذهبنا.

في تلك الليلة كان يطير ليسبق الريح ويتخلص منها فيجدها أمامه، وإذا عاد يجدها وراءه. ريح تفيض ريحاً مثلما تفيض ميادة ميادةً. ريح في كل الجهات. ريح كيفما طار، ريح تحمل ثلجاً وتذروه في كل الجهات، والثلج يبلل الأجنحة. في كل الجهات برد، والبرد يخز العظام. وفي كل الجهات (عتم) و(العتم) يخبئ صفير الريح. والريح تصفر كثيراً، والعصفور الصغير يطير، وكيفما طار: برد وعتم وريح وثلج.

كان يقول بقهر: “كلكم ضدي” ويتابع طيرانه باحثاً عن أحد ما غير أولئك الذين يخاطبهم بـ”كلكم” هذه.

قالت نثرات الثلج التي نزلت عن جناحه: “لم أكن أظن أن الأرض صغيرة هكذا، ولم أكن أعرف أنها سترتعش وتنفضني عن ظهرها، لقد كتب عليّ أن أبقى سابحة في فضاء لا ينتهي” ثم همهمت شيئاً عن ريح مجنونة صحبة الذئاب أفضل من صحبتها. أعطت تلك الليلة جسدها للريح التي ابتلعت كل الهمس والهمهمات. اختلط ما تقوله الكائنات وذاب على سفح الريح التي ضفرت روحها أبواقاً للصفير اللاهي العابث البارد.

لقد عرفتم عصفور الدوري بالتأكيد. لقد شاهدتموه في الربيع الماضي ينتقي مكاناً بارزاً؛ سلك الهاتف بالضبط، لينطّ على زوجته غير عابئ بكم، وليكرر ذلك أكثر من مرة غير مهتم بما تظنونه – إن كنتم تظنونه -عيباً وتلصقون أعينكم به لكي تروه أكثر! ثم يطير عن سرير زواجه الضيق طيراناً متقطعاً حذراً. ولكن لا علاقة لهذا كله بتلك الليلة التي جمحت ريحها. ففي تلك الليلة لاذ العصفور الوحيد المحاصر بالريح بكوة بيت قديم، وعندما عبر الكوة وجد نفسه في سماء ضيق. ولكنه على ضيقه أكثر اتساعاً من سماء تفيض ريحه ريحاً وعتمته عتمةً، مثلما يفيض دفء سماء البيت الضيق دفئاً وضوءه ضوءاً.

لم يكن البيت القديم مهتماً بما تفعله الريح، ولم يكن صمته القاسي يشي بأحلامه أو همومه. كان وجهه وجه مقامر محترف لا يشي بشيء (لا يزال وجهه كذلك) عاش البيت القديم سني حياته مثل جيب مقامر محترف يمتلئ أحياناً ويخلو في أحيان أخرى. حتى تلك الليلة مرّ على رأسه الكثير، ولكنه بقي في مكانه صامتاً منتظراً (هذه هي حال البيوت. تبقى في أمكنتها صامتة منتظرة ولا أحد يعرف ما الذي تنتظره في قلب صمتها الطويل).

قبل أن يدخل العصفور، كان يستلقي قرب الموقد عجوزان: رجل وامرأة، أعينهما مغمضة يسمعان ما تقوله الريح مرة أخرى. ومرة أخرى لا يصغيان إلى آلاف الأرواح التي تنوح وتشاكس على صدر العاصفة. لقد عرفا أكثر من ريح كهذه، ولم يفهما شيئاً من جلبة الأرواح تلك. كانا يستمتعان بما تهمسه النار بصوت دافئ لم يكن يخطر لهما أن الريح مجنونة تريد دائماً أن تقول بآلاف الألسنة: “أنا مثل ميادة أطغى على الأشياء”. ولكنها لا تستطيع أن تكون مثل ميادة.

(يبدو مهماً أن أتخلص من ميادة لكي أعرف كيف أتحدث عن تلك الليلة. لاحظوا مثلاً أني أرغب في أن أستطرد مرة أخرى لأقول ساخراً من نفسي: هل يمكن أن تفسد ميادة حديثك عن تلك الليلة؟ وهل لقصتك كل هذه الأهمية؟ إرم قصتك أيها الغبي، وتأمل ميادة. ميادة ليست اللعنة بل الكتابة أو القول أو أي شيء يلهي عنها هو اللعنة! أتقبل مبتسماً ما قاله الرجل الذي يجلدني من داخلي بسخرياته الفظة أحياناً. ولكن مهما يكن رأيه سأتابع حديثي عن تلك الليلة معتذراً. أو لا داعي للاعتذار، فأنا شخصيّة استطرادية خصوصاً عندما يتعلق الأمر بميــ…. لقد طال استطرادي كثيراً.)

عندما دخل العصفور البيت أيقظ صوت أجنحته العجوزين من استغراقهما (الأجنحة كما تعرفون تقول كلاماً سريعاً مضطرباً لا يمكن فهمه، أحرفه موصولة ببعضها وتشبه بعضها كثيراً).

كان العجوزان يجتران هادئين صوراً لأناس وأمكنة وأحداث. يعلكان تاريخهما البسيط الخالي من الفتوحات والأمجاد والمغامرات المعقدة والكبيرة. كانا يغمضان أعينهما على تاريخهما ـ كما هو ـ وعندما دخل العصفور من الكوة فتحا أعينهما معاً، نهضا على مرفقيهما معاً، نظراً إلى العصفور معاً، ومعاً اتضح لهما أنهما لم يموتا بعد!

لم يكونا ينتظران الموت، ولم يكونا ينتظران تحقيق فتح ما في ميدان ما، كانا ينتظران عودة خالد (وخالد هو ابنهما الأصغر الذي اعتقل في ليلة غير الليلة التي أكتب عنها) لم يعرفا لماذا اعتقل، وبعد أن عرفا من أخوته الكبار أنه يقرأ من تلك النشرات التي… (لم يعرفا التي ماذا؟) حاولا ولم يستطيعا رؤيته، لم يقتنعا أنه بقي طوال هذه الفترة بعيداً. خالد كان لا يزال بعيداً حتى تلك الليلة، (وحتى هذه اللحظة) وخالد خطب ميادة، وميادة فسخت خطوبتها بعد سنتين من غيابه لأنه” “من يدري! قد لا يعود! ولا أحد يعرف كم سيبقى في السجن!” سمعت أمه العجوز كلمات ميادة وكانت مفهومة أكثر من الكلمات التي تقولها ريح تلك الليلة، وقاسية أكثر بكثير. ورغم أن ميادة تبدو قوية، قالت لي إنها لا تستطيع أن تنظر في وجه تلك المرأة العجوز، وتتمنى لو أن العجوز تسمح لها،  مثلما كانت تفعل من قبل، أن تساعدها في غسل الثياب وتحضير الطعام وكنس البيت.

في تلك الليلة قالت لي ميادة إنها تتمنى لو تموت! ضحكت مخبئاً وراء ضحكتي حزناً استوطنني. في تلك الليلة قلت لها إنها ما تزال تفكر بأسلوب مراهق! نظرت إليّ لائمة وانصرفت بعد أن بدأت تبكي ظانة أنني لست إلا رقماً في مجموعة البشر الكبيرة التي لا تفهمها! رأيت وجه خالد في سماء غرفتي يقول هادئاً: “ارحموها! ” ووجدت أنا الآخر لبرهة أن أحداً لا يفهمني، حتى الأشباح التي تخرج من رأسي، وتستوطن سماء غرفتي لا تفهمني. ثم حدقت في ذلك كله، وراق لي أن أقول دونما قناعة: “لا أحد يفهم أحداً”.

هذه المرة أعتذر عن استطرادي حقيقة. ما يهم هنا هو العجوزان في تلك الليلة. فبعد أن أيقظهما العصفور الصغير من استسلامهما لأحلام يقظة، ورؤى متكررة، دار في سماء البيت الضيقة، وعندما أتعبه الطيران حط على طرف السرير العجوز الذي يقف في إحدى زوايا البيت القديم، والذي اسمرّت بياضاته رغم أن أحداً لم ينم فوقه بعد أن قُتلت القطة بطلق ناري من بندقية محارب لم يجد من يطلق عليه النار، فأطلق على القطة.

عندما حط العصفور، نظر في الاتجاهات كلها، فلقد ورث الحذر عن آبائه (هذا الميراث أفضل، على أية حال من أن لا يرث شيئاً كعصفور أبي الحناء الذي توقعه براءته في الشرك دائماً) رغم حذره، استطاعت المرأة العجوز أن تقترب منه برشاقة بعد أن راقبت مع زوجها بصمت كيف وقف على طرف السرير وكيف نفض ريشه وكيف هدأ بعد ذلك.

كان الرجل العجوز يراقب زوجته. نسيا كل شيء ونظرا إلى العصفور. لم يعد صوت الريح مسموعاً. لم يعد في الغرفة همس نار. محا العصفور كل الأصوات، ومحا البشر والأمكنة والأحداث التي تملأ رأسي العجوزين منذ قليل. والآن أصبحت العجوز تحت العصفور وصار الرجل يراقب المباراة المقبلة. أثاره منظرها وهي تحاول أن تصير في المكان المناسب. لفتت انتباهه رشاقتها وهي تتأهب للإمساك بالطائر. لقد استطاعت أن تتحرك حركة مناسبة فعلاً. المنظر أشدّ إثارة وهي تتهيأ لمدّ يدها. من سينتصر؟ هل ستمسك به أم أنه سيطير؟ أداؤها مثير بحد ذاته، بغض النظر عن النتيجة. كل ذلك جعل الرجل يفتح عينيه قدر ما يستطيع دون أن يدري.

استطاعت العجوز أن تمسك الدوري الصغير بمهارة هرة. عندها ضحك الرجل، كان ينقصه بعض الحماس أيضاً لكي يصفق ويصرخ مثل مدمني مباريات كرة القدم عندما يسجل الفريق الذي يناصرونه هدفاً. ولكنه خبأ حماسه لانتصارها وعلّق مشاكساً عجوزه: “ما شاء الله رشيقة مثل ابنة الرابعة عشرة ومثل ابنة الرابعة عشرة قليلة عقل.” قالت وهي تمسح على ظهر العصفور الخائف الذي لم يهرب من العاصفة ليصبح رهينة في يد تمنع الأجنحة حتى من إعلان خوفها: “لا تخف.. اهدأ!” ثم نظرت إلى زوجها وقالت: “تظنني عجوز مثلك؟” أشار الزوج بيده إشارة ماجنة وقال: الليلة سنرى!” ابتسمت المرأة وقالت: “شاطر بهالشغلة” ثم جلست في مكانها تداعب الدوري الصغير وتسأله لماذا خرج من بيته في يوم كهذا. تسمع برؤوس أصابعها خفق قلبه الصغير الذي يشي بالخوف، وتقول له: “لا تخف يا بني!”.

كان الرجل ينظر إلى العصفور في يد المرأة ويراقب عينه المدورة الصافية وحركات رأسه القلقة، قال: “إنه ذكر!” وافقت المرأة وهي تنظر إلى البقعة الداكنة على عنق الطائر. بدا للرجل ملمس الريش الناعم مغرياً، فقال للمرأة: أعطني هذا (الأزعر) مدت المرأة يدها التي تحمل العصفور باتجاه الرجل وقالت: “انتبه!”. عندما أفلتت العصفور لم تكن يد الرجل قد وصلت تماماً. طار العصفور ودار في سماء الغرفة مستعجلاً مرة أخرى. وقفت المرأة وخاطبته وهي ترى طيرانه الغاضب: “اهدأ يا مجنون!” ولكنه لم يهدأ. ظلّ يطير طيراناً غاضباً حتى خرج من الكوّة، عندها بدا لها صوت العاصفة شديد الوضوح. اتجهت إلى الكوة وقالت: “عد يا بني، من يخرج في ليلة كهذه؟!”

ضحك الزوج: “هل تظنين أنه سيفهم عليك؟!”

نظرت إلى زوجها غاضبة وقالت: “ألم أقل لك انتبه؟”

رد الزوج: “لقد أفلتِّه قبل أن تصل يدي…”

قالت بغضب: “أنت دائماً هكذا لا تستطيع أن تفعل شيئاً في وقته…”

بدأت المحاججات بينهما. وكادت الزوجة تنبش تاريخاً طويلاً لولا أنه أعادها إلى العصفور الذي طار عندما قال ساخراً: “هل تخافين عليه أن يصاب بالرشح؟” عندها بدأت المرأة بالبكاء. حاول الرجل العجوز أن يطيّب خاطرها، فقال بابتسامة متوددة: “هل جننت؟! عصفور حط وطار!” ولكنها تابعت بكاءها. قالت وهي تبكي: “ماذا حدث له؟ سيكون البرد قد أكل عظامه! تدمر باردة ولا يعطونهم أغطية ولا يوقدوا لهم ناراً.” حاول الرجل طمأنتها قدر ما يستطيع مثلما يفعل دائماً عندما تتذكر خالد: “أنا أعرف السجون.. أعرفها جيداً.. في السجون مدافئ وبطانيات وأسرّة وثياب.. خبرني أحدهم، لقد دخل السجن منذ زمن بعيد.. منذ أيام فرنسا.. إنه يعرف كل شيء.. وقد قال لي.. لا تخافي على خالد.. لا تخافي عليه.. إنه نمر!”

كرر ذلك، وقال أشياء أخرى وكررها إلى أن توقفت عن البكاء. استطاع أن يطلب منها أن تمد الفراش قرب الموقد. وعندما استلقى بجانبها على الفراش، جاهد كثيراً لكي لا يُشعِر المرأة العجوز بأنه رجل له قلب، وله عيون، جاهد لكي يجعلها لا تحس بأن عيونه تدمع، وليس لديه من يكذب عليه أو يطمئنه.

في تلك الليلة تأخر العجوزان عن موعد نومهما المعتاد، بقيا صامتين، أغلقا أجفانهما على كوابيس يبدو فيها خالد مرتجفاً مستغيثاً. كانت الريح تمر من فوق البيت القديم وتدور حوله حاملة الثلج على صدرها تصفر وتفور وتمضي غير عابئة بسواد عتم تلك الليلة. وكان (العتم) متكتماً صامتاً غير عابئ بالريح، والعصفور مربكاً يقول: “كلهم ضدي”. كانت نافذة ميادة معتمة. لقد أطفأت ميادة الضوء ونامت. كان النوم سعيداً باحتضان ميادة، يستحم بخلاياها المغلقة عليه. البيت القديم كان صامتاً ينظر إلى البرد والعتم والريح والثلج والعصفور ويقول: “إنهم لا يفهمون شيئاً” ثم يتابع احتضانه للعجوزين اللذين يعرفهما منذ زمن طويل.. طويل..

كانت ريح تلك الليلة مثل ميادة…بل لم تكن مثل ميادة تماماً.

تدمر- مهجع المستوصف  – 1985

*خاص بالموقع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here