جلست إليها متأملاً، وسيل من وجع الذاكرة المكتظ بأنين رحى الزمن، يلقى بي في فراغ الرؤية والشرود. فكم عز اللقاء!
أحضرت عود ثقاب… ترددت بإشعاله… فحضر الصمت والشرود…
على حواف جدار الصمت المعرش بين الحنين وشغفه، ترددت أسفاري ومالت بي سفن النجاة. أين المفر؟ وأنا الآن في حضرة وجودها الممتلئ دفئاً يرتقب فاتحة الذكريات، وأشواق تبدد الفجوة بين اضطجاع الزمن وامتداد المكان، وحمل من القهر يكحت جلدي..
نظرتُ إليها بعشق يرنو إلى إيقاظ نشوة الحب والرغبة، مداعباً بعزف صامتٍ إيقاعات داخلها الساكنة، مذ افترقنا على الدرب ذات لحظةٍ.
لم يكن خياراً، لم يكن جسراً ذلك العبور! تيهٌ في صحراء تمزق جلدها على ضفاف الموت والخطيئة، وما كان التاريخ إلا سرداباً مظلماً سيدتي….
تخيرتُ مداعبة جلوسها المترقب والمتحفز أمامي بلمسةٍ حنون، طِفتُ بيدي على بوابات جدرانها المعلقة في عناوين تفضي إلى زمن عشقنا المحموم وعهد عناقنا الطويل.
فجاءة عاودتني صور أطفالي… أحضرتها، تحسست خدودهم، ضحكاتهم لحظة الضم والعناق…
عناقٌ وكأنه لقاء بين فرعين لمنبعي نهر النيل الممتد في صحراء الزمن الغائر، مخترقاً كل أعراف القحط والبؤس ولعنة الفراعنة. كأنه الحلم…ويفيض نهر الشوق من حوافه…
عاودتها، مسّست أذيال أهدابها بهدوء، مقترباً منها رويدا ً رويدا، مخففا ً انكسارات أمواج العشق على صخرة فراقنا المؤقت، حتى تنساب صلات عشقنا الدفين في حنان كسابق عهدنا، علَّ اللقاء يعود وإن كان حزين.
أذهلني وقع النظرة فيها وتغلغل أصابعي بين خصلات شعرها المجدولة على الحلم، فاندفعتْ إيقاعات شوقها وحنينها بصخب محطمة جليد الذاكرة المجردة في سياق التاريخ المتقدم فينا.
أغصان كرومها مافتئت تتدلى عشقاً على أرصفة الطرقات، داعية المارة لتنوع الطعم ولغات المذاق..
منه من تفيض له غدد اللعاب شهوة ومتعة، ومنه حلوٌ تستمتع به كل الأنام، ونبيذها شفاية روح، ربما هو عقل وفكر ونظر وفيض لغة، يا لي هذا الجفاف….
أشتاقكم يا منبع الروح والحياة، أين أنتم؟؟؟
وكم أشتاقها، وأشتاق مدي وجزري فيها، أشتاق عناقنا الطويل وضمنا المفتوح على كل الحكايات. وحاراتها المسروجة لفرس المَدَنية، وعمر اللغة المُعرّش في الكون على أجرام السّماوات حكمةً.
لم تكن زانية وهذا ليس ببغاء، إنما تاريخ من عذوبة اللحن وإن كان عنوانه الشقاء.
حنوتُ عليها برفق مباعداً بين أوراق كرومها وعناقيدها، باحثاً بين أركانها المترامية عن شيء ما أقصده فيها!
أويتُ بين ضلوعها، تقربتُ من أسفارها اللامتناهية في الغزل وحرقة الامتناع، إلى أن توقفت ُمعلقاً أبصاري على ذلك العِقد الفريد من أسئلة الوجود:
من أنا؟ وماذا أريد؟ أين أنا. أين كنت؟ أين أطفالي وأهلي وناسي….؟
هممت لعود الثقاب مرة أخرى.. وفجأة ذهلت… ثمة صوت طفولي ينبعث منها:
- انتظر… فهذا الزمن مشتعلٌ في ذاته، فلا تزيديني احتراقاً..
حينها، هبط علي ملاك الصمت ثقيلاً، وتداعت في ذاكرتي أوتار الزمن الممتدة في التاريخ والمحفورة بوقع دروب الزمن الوعر من عمر الشقاء المحفور في الذاكرة.
مرت الفصول عابرة روحي بربيعها اليانع وشتائها الممطر، بصيفها اللاذع وخريفها الحنون في عجالة وألم.
قرأتُ في ذبول عينيها إدراكها مغزى مرادي، فتلك الأجوبة مافتئت تئن بين طياتها المطوية على الإفصاح والبيان.
” أنا….
أنا الإنسان القادم من أروقة السطور المحفورة في بابل وجلق وأسوار قرطاج، من تلك الكلمات التي تخط جدران مساجد المدينة المنورة وحواف السطوح الصقيلة في قباب الأزهر ومآذن الأقصى الشريف. من تلك اللوحات المتحررة في مربع الجمال في غرناطة والممتدة عمقاً في دهاليز وعتمات دروب الشنّفرى وعمرو بن الورد ويتم الوأد، وحوارية الخلود عند عشتار وأوروبيا.
أنا…
أنا من تصلبه لحظة الحقيقة والألم على ألواح التأمل في المضاجع، وحكايات ألف ليلة وليلة تقص على مسامعي رحلة المراكب في النيل العظيم. النيل وقد آل إلى مستنقع غارق في العبث، فاجتمع أهل الكنانة على حثّ فيضانه بانتقاء أجمل صبياها عروساً لإلهه الملتهب نزوة في القاع والهدر المجون.
أنا…
أنا مَن يقارب أنفاس العزة للذين عُلّقوا على المشانق في دمشق، في الحاضر، في الماضي في أيام عثمان، وتلك الأنفاس التي ما فتئت ترفض المرض الشرقي في الخصاء والعهر، في المكر والتزلف والأسلحة المتزلمة على شبابيك الفقر والمهانة.
أنا ذياك الداني بوجل ٍ، من ابتهاج الفرق الناجية لضلال الفرق الضالة! من قرارات أصحاب السمو الرفيعة والقلم البليغ في القتل تكفيراً، من انفضاض بكارة الوصاية من عمر الفتوة الراهنة في الضّفة، في البقاع، في الهلال، في الغوطة، في حمص وحلب، في اليمن التعيس ….وفي بلاد تجتاحها آلاف اللعنات.
أنا….
أنا الإنسان، لحظة الألم عندي تاريخ يمتد في خاصرة الزمن، يضاجع مفارق الطرق ويعقد على أزهار اللوز بالأمل.
أنا من تكويه نيران الألم كلما أطل من نافذة للعشق أملاً، داعياً طيور السنونو المُهجرّة أن تعود، أن تغرد في سماء حرّة فوق أشجار الصنوبر في الجبال، ملاحقاً إياها بعينيه فتتضرج يداه وترتجف أضلاعه، حيث الفؤاد، على نحيب الأمهات الثكلى في أصقاع هذا الوطن الممتد من الماء إلى الماء بلا عنبٍ، بلا خمر.
أنا…..أنا تدميني أنّات الرجال… أنا من يحمل وزر ظلمة المعتقلات ولياليه الطوال….
أنا الإنسان أبحث محلقاً في الفضاء عن حرية بلا قيود، عن عشق بلا حدود، عن حقيقة خالدة بلا تحريف أو تزييف. أبحث عن سعادة مطلقة بلا هموم، عن وجودي الإلهي المترفع عن خيوط التاريخ العنكبوتيّة التي تصطاد في كل الزوايا أبطال العصور بلا حروب، وتدون صناع التاريخ العصبي وأسياد قريش والقرون الوسطى والحاضر النازي ورحى الموت الشرقي، الدائرة ليل نهار في بلاد ذنبها أنها عشقت صهوة الحياة حرية، فكان نصيبها الموت والتهجير والدمار.
أفاجئها مدوياً صرختي: ألستِ من قتل الجاحظ وتآمر على ابن رشد وغاليلو؟
سأحرقك…. أين عود الثقاب…
ألست من تحفظين “التاريخ الذي يكتبه أولئك الذين يشنقون الأبطال، أسياداً” بلا خجل أو وجل، بلا حتى مساحة للغفران؟!
سأحرقك يا من تحميلين كل هذا العناء…
ولكني غفوت سواً…
ترددتُ في صحوتي وقد أرختْ خيوط الشمس أهدابها بانبثاقها المتجدد على قعر كوبي الفارغة بأطياف قوس قزح، فأدركتُ أني والليل قد تآمرنا عليها، فأترعناها الضمير المستتر وساقية القلب وبنات الدماغ.
صوت أطفالي يناديني… تعالى… نحن بانتظارك وحنانك…
نظرتُ إلى آلهة العشق أمامي علّني أرقب النعاس يتسلل إلى عينيها فوجدتها تتألق من جديد وقد اغرورقتا بفيض دجلة والفرات على ضفاف منتشرة بازدحام الحنطة العصية على الفناء.
عند انقشاع غشاوة العتمة، تيقنت أن الرحيل هو قصة اليوم المتجددة فينا، وما أنا إلا جزء من هذه الحكاية، وأن رائحة اللحم الأدمي المشوي لازالت تطهو جلدنا ولحمنا… فعذراً درويش، لك رحيلك ولنا رحيل آخر:
((خذني إلى الأرض البعيدة ، أجهشت ريتا : طويل هذا الشتاء
رمت جواربها على الكرسي فانكسر الهديل
ومضت إلى المجهول حافيةً ، وأدركني الرحيل))
كررتُ بصمت، وقد أدركني الرحيل، انها خربشات على جلد ممزق…..
ضممت صور أطفالي في قلبي، أشعلت عود الثقاب ورميته على كل صنوف الكتب أمامي وأدرت ظهري للنار تلتهمها، وسيل من ماء مملح يغرقني…
علت أصوات الطرقات، وأنا بين الهذيان والشرود ورائحة النيران، صدحت الحناجر: سلمية سلمية..
فجاوبته أصوات الرصاص وعم البكاء…..
طويت أقلامي وخرجت إلى رصيف العالم أبحث عن شيء جديد، عن إنسان آخر سواي … فأدركني وجع الحنين ……. واحتراق كتب التاريخ المزيف علامة ودليل…..
“يروى انه حدث في القرن الواحد والعشرون، وعلى منصة الأمم وقيمها الحضارية وبشهادة شرعتها الدولية للإنسانية، حدث أن دمرت المدن وتشرد أهلها، وقتلت الأطفال، واغتصبت النساء، وحدث أنه خرج من سجنه الطويل ولم يجد من أسرته أحداً سوى بضعة من كتب، وكان أن شهد التاريخ مرة أخرى، وعن مكرٍ، أنه أحرق نصوصها، واختار حرية السماء” ولليوم لا أحد يعرف عنه إن كان قد مات حرقاً أو بقي حياً، سوى أن جلداً ممزقاً مليء بالخربشات لا زال مرمي هناك … والقصة لم تنته بعد..
*خاص بالموقع