جمال الشوفي: جنازة كونية للسلام

0

لم يكن ذهولاً، ربما شيء يشبه الهذيان! لم يكن حزناً، لكنه يشبه الوجع المزمن لا تنفعه المسكنات!

لم يكن دهراً، بل ثواني فقط تلك التي تعلقت بها صورة طفلين على شاشة تلفاز تجول المحطات معلنة بوضوح شديد نعيٌ عمومي للفكر البشري وحقوق الإنسان وزيف اللغة والعدالة…

كانت جنازة كونية للسلام…

عقدَ الصمت يديه على صدري، انتفخت حنجرتي على نوع ٍ من البكاء لا صوت له.

عصفت الرياح في رأسي عويلاً، وشلت حبات البرد المتساقطة على الكرسيّ يداي ورجلي معاً.

تعلقتْ صورة الطفلين في عينيّ قنديلاً أبيضاً يكفّن الألوان ويغطيها سواداً.

خيل لي أنهما حملا صليب المسيح بكل آلامه وتعويذة أحزان الأمهات الثكلى وخلاص الأوجاع الإنسانية الضاربة في عمق التاريخ تكفيراً عن ذنوبنا المتوارثة عقوداً…

لكني تيقنت أنهما اخترقا قرارات مجلس الأمن المنحازة للدم وفرقا اجتماعات الدول العشرين المتآمرة على ثقب الأوزون.

ارتقيا فوق المادية الغربية الناكصة عن الحقوق والمدقعة في وحشية الجمع والالتقاط دون ألحان الروح الإنسانية، دون الحب والحنان.

مزقا صحف السلام وخرائط الطريق المنحوتة بلون الفرقة والقابعة تحت جذر العزلة والمرفوعة لقوة الموت، قانعة بقسمة الأرض على اثنين متفانين في ثنائية الوجود أو العدم الدموية.

حلقا فوق الخصاء والعقم الشرقي الدنيء فاقداً جذوة الحياة، والمنتشي بسطوة السلطة بمهماز الأمر والنهي والمكتفي بشرف الجاه وأناقة جلود الأرائك والكراسي.

اخترقا الفضاء كسهمين يمضيان فوق السحب ويتجهان لكون بلا حروب، بلا دماء.

وكان ما يشبه الهذيان عنواناً لحلم لم يكتمل وقصة طفولة تحاول الحياة….

…………………………

كانت قد اختبأتْ خلف جذع شجرة توت عالية ونادته بمرح ٍ: أين أنا؟

أجابها بعلو صوته: أنت في كل مكان أنظر إليه…

قالت له بمرح وقد وضعت إصبعها الصغير على فمها: جدني إذا…

نظر في كل الاتجاهات وتوجه بقلبه ناحية أجمل الأشجار وأكثرها ظلالاً، تسلل خلفها مفاجئاً إياها فانتفضت من الفرح واندفعت أمامه تركض وصدى كلمات فيروز تعبق في المكان ويفرد أجنحة ندرة البراءة في زمن التردي هذا، في أرجائه المُسيجة بعطر الطفولة:

((أنا وصغيري كان في صبي…. كان اسمه شادي…..))

طفلان يلعبان ويلهوان معاً صباح مساء، يتجاوزان أبعاد المكان الضيقة وظلال الأشجار الصغيرة العطشى، وباحة داريهما المرمية على النسيان في قطاع صغير. طعامهما كان الأمل وقليل من الخبز والماء، وكساؤهما كان انعكاس اخضرار الأرض تزينه أزهار الأقحوان، لكن أحلامهما كانت أكبر من سفر قطار عبر النجوم.

جرتْ أمامه تضحك مغردة ً، تركض خلف كرة صغيرة تدحرجت بعيداً في البستان، وهذا البستان صغير.

ملئا أطياف الزمن، المتوجس ريبة ً، رشقات متعالية من ألوان ضحكاتهما المطلة على الحياة فناً وتكويناً، وشغبهما كان نسيماً وريحاً شتى، وهذا الزمن فريد!

تقاذفا الكرة بين أطراف المكان الدائري القانع ببضع زهرات وقليلٍ من الأشجار وكثيرٍ من الأحلام، وهذا المكان على صغره فسيح.   

عَلت أصواتهما في السماء متحدية قسوة الوقت المرير تحملها السحب إلى كل أرجاء الكون مطراً يبعث على الفرح، وهذا المطر بات قليلا ً!

أشجار اللوز في البستان لازالت صغيرة كعمريهما الغض، تستمتع بمراقبة شجرة التوت المعمرة برغبة على النمو والارتقاء، وأشعة الشمس تلفح أوراق دوالي العنب العاقدة على الحمل القريب، وكان المطر وشيك…

حلما أن يكبرا معاً، أن يذهبا للمدرسة معاً، أن يبنيا في عالم الإنسانية المريض بسقم المادية والعصبية ولعنة الموت في الحروب، حلما بأن يبنيا قصراً للفرح ومعبراً للسلام..

لم تستقمْ رجلاهما بعد على الجري العنيف، ولم تقوَ سواعدهما على التعلق بأغصان الأشجار بعد، لكنهما قفزا بالسماء للمرة الأخيرة في الأرض، وكانت رحلتهما الأولى في الأبدية!!!

أحلام الطفلين الصغيرين الكبيرة هذه، فزع لها جنرالات ونياشين، خافوا من أن ترمي المحيط حولهم بلغة التآلف والحب والإخاء فتقوض زهوة انتصاراتهم على الأشجار ومحيط الاخضرار في النفوس، فقرروا أن يسحقوها بقنابل تفوق وزنها وزن حلم يرتقي للغة الحب والطفولة والإيمان.

أمر الجنرالات طائراتهم المجنحة أن تتوجه لذلك البستان الصغير حيث رصدت أجهزة الدقة العالية لديهم حركة الأحلام الكبيرة ترسم على خارطة العالم زمناً للتحول الإنساني.

حملت الطائرات أطنانا من المتفجرات وسددوا بدقة متناهية نحو تلك الأحلام المتقافزة بين شجيرات اللوز والعنب وقامة التوت المعمرة والمترامية فوق أزهار الأقحوان الأبيض وكأنها دعوة للسلام والحياة.

حين لم تقوَ أرجل الطفلين على الجري بعيداً وقد سمعا صوت هدير الطائرات فوق رأسيهما، حاولا القفز في الفضاء فلاقتهما القنابل في منتصف الطريق للسماء لتمزق أحلامهم التي تملأ المكان قبل أجسادهم الصغيرة، فيمطر العالم لغة تقطر دماً وقد خالطه سكر العنب ونكهة التوت الشامي في موقعة عهر لم تنتهي، وتهطل في أصقاع الكون حبات من البرد متلونة خمرةً لدم طفلين كانا يلعبان ويحلمان بسلام.

غطت مروج الأقحوان البيضاء دماء الطفلين وتناثرت في البستان أشلاؤهما وتعلقت على الأشجار أحلامهما.

دوت في كل أنحاء المكان صرخة أم ثكلى قد فقدت للتو آخر أبنائها وفق رحلة منتظمة للموت والبكاء، وانتحبت الأخرى على كبرى بناتها المنتظرة انفراجة قدر ليل نهار بتراتبٍ حزين.

انحنت قامة الأشجار بجلال مريع، وطوت الجبال سفوحها عن الشمس وخرت ساجدة لهذا العويل، بكت العصافير معلنة الحداد بين كل الطيور المهاجرة بين القطبين، فقد قضى اليوم إلى الفضاء الواسع طفلان تركا ذكرى أشلاء تُزرع في الأرض تحت أزهار الأقحوان فتنمو بشموخ للأعلى رغم غضاضة جسدها أمام أشكال الريح العاتية.

وبات الليل طويل ……

…………………

صقيع وجهي المتيبس غزته قطرات ماء مملح تحتار في أي الاتجاهات تهطل! فتحركت يدي لتخترق نافذة سجني الزجاجية المطلة من شرفة غريبة لا تفتأ تقتات أفكاري وأحلامي.

تطاير الزجاج حولي وكست كسيراته المكان المُتسع على الفراغ، وقد خالطته قطرات الدماء…

عدتُ لكرسي وأخذت أشعل أعواد الثقاب عوداً تلو الآخر، وبكل مرة أرى بها ذات الصورة التي تعلقت بعيني لطفلين شاردين في السماء، يبحثان عن جنة الفردوس ليحلا بها ضيوفاَ.

ابتلعت مع كل لون من ألوان أعواد الثقاب المشتعلة لعابي المجبول بطعم التبغ لا أكثر، ومرت اللحظات صقيعاً قارصاً. مضت الساعات ذهولاً حائراً إلى أن نظرت للأرض ففوجئت ببقعة دم تسبح بها قطع الزجاج وتعكس كل ألوان الرماد والسواد وقليل من البياض.

خُيل إلى للوهلة الأولى أني أرى دماء الطفلين تملأ الأرض حولي، حتى تنبهت لكمّ الجروح التي تنزف من يدي، فأدركني الوعي وصحوت من ذهولي مرتجفاَ.

أدركت لحظتها معنى العجز والشلل والتقاعس الذي بتنا نعيشه، وأننا أمة آلت بكل جلال قدرها إلى مشكاة للألم وردود الفعل الانفعالية دون القدرة على أي فعل لمن يقضي في بلاد للموت أو الحصار.

غالبني الهذيان، فسرت متكئاً على جروحي، غسلت يدي بوهن ٍ دون أن أضمد جراحها، وتكيت برأسي المثقل بالصور فغفوت دهراً وكأني أرافق أهل الكهف في أسطورة سباتهم الطويل.

على وجع رأيت أحلامهما المعلقة على الأشجار تبدأ بالإزهار، ووقع خطاهما على حواف ساقية تجري بين بضع شجيرات تئنّ من شدة الحصار.

رأيتهما يطيران في السماء زوجي حمام يعلو هديلهما فوق البحار وأعالي الجبال بمرح وحيوية وقد فرت من أمامهما كل الطائرات والحوامات فزعاً من شدة هديلهما الذي يغطي الكون ويبعث المعنى في الحياة، مجددةً معنى الحب والتآلف والسلام في كل الآذان.

بقيت على تواتر أحلامي وهذياني هذه إلى أن أدركني الصباح فصحوت لأجد المكان كما تركته، وصوت القنوات الفضائية تنعب بتقارير الاستنكار والشجب وكل أشكال العار العصي عن الغسل بكل الثقافات.

غسلتُ وجهي على عجلٍ عابراً حدود الفزع وفتنة الاتكاء على المبررات وعقد الذّمّ والتقريع.

توجهت بسرعة إلى تبغي وقهوتي وهممت إلى تلك الصفحة البيضاء المنتظرة عنوناً:

حين يجفّ المطر، تستحيل كل الأوراق الخضراء إلى أشواك أبرية….

إنه زمن موت براءة الأحلام…. وسواد نياشين السلاطين وجنرالات الحرب…

ليته كان نصراً عسكرياً على أمة غازية، بل كان نصراً على طفولة تبحث عن بضعة أمتار للعلب والحياة…. إنه جنازة كونية للسلام….

وقعت بإمضائي ووضعت الصمت نقطة……

*خاص بالموقع