قلبي يرتجف، يدق متسارعاً، وصدري يعلو ويهبط مستجيباً لنداءات الهواء فيه، رجلاي تتباعدان وترسمان مساراً مستقيماً يتمدد.
تحار عينايا في مراقبة الوجوه المتلفتة في كل اتجاه، وبضع قطرات من عرق النهار المملح تتدلى أمامهما، تكاد تحجب مساحة الرؤية المتسعة فتطالها يدي بنزقٍ…
– أسرع، ثمة تجمع يتوافد… أقول لصاحبي
– انتظر قليلاً، لا تتسرع هناك أوجه غريبة.. يجاوبني ماضي بتردده المعتاد.
تفحصت وجهه المتردد، وخطوتي تأخذ بالتباعد أكثر وقلبي يترنح في الخفقان أكثر.
تأخذني دائرة الرؤية بعيداً في جوفي المحترق والقابل للانفجار: كم مرة حاولت الصراخ، وكم أويت لفراشي كئيباً تتزاحم في رأسي خيالات اليوم المرير والعمر الشقي؟ وعند الصباح لا أقوى على حمله من ثقل الوجع، وفتحة التنفس المخنوقة تصرّ على الصفير بلا كلمات.
– ننتظر! لماذا؟ جلدي يحترق من لفحة النار المخنوقة، لنمضي نبّردها بهواء يتنفسه عشاق مولدون بغير زماننا. أجيبه بنزقي المعتاد..
– كبرنا على الجري وثمة أطفال ينتظرون.. يرد ماضي.
– لم آت لأجري، بل لتجري الريح في صدري، لتركض الحروف في حنجرتي، أتيت أحك الصدى عن رأسي، لكن قلب يدق بسرعة نعم!.
تتباطأ الثواني وتتطاول مسافة الخطوة وكأن النسبية تتحقق في موكب أرضي يخترق قوانين الكتلة والمادة فأشعر أني بلا وزن أو عطالة تجرني للخلف.
الصورة لا تتبدل أمامي والصوت يَعلقُ في أذني وفضاء أبيض مفتوح على المجهول يقودني خارج أسوار المكان والزمان، أرى نفسي محلقاً في البعيد مغرقاً في زمني المتآكل قهراً.
هناك، بين طيات الزمن السحيق أراها، أرى دموعاً تهطل على صفيح خديها الساخنتين وصوت يتقطع بنشيج الألم. وقع كلماتها يجلدني بسياط الحرقة فتمزق جلدي المهترئ:
بابا …بابا …لماذا؟ لماذا؟ أوجعتني !!! ماذا فعلت لتضربني!!!!
لازالت لليوم تفيض أنهار عينيها بسيل من الدموع الحارقة، تلفحني موطئ الفؤاد، تصيبني بحمى الاختناق، وصوتٌ يأتيني من الناحية الأخرى: لماذا هذه القسوة وهذا العنف؟ أي خذلان تأتينا به نحن الجالسون في انتظار صفير قطارك العائد محملاً بالأحلام والهدايا!!! لا نريدك عائداً مهزوماً فتستقوي على براءتنا الجريحة….
يومها هربت خارجاً أجرى لا ألوى على درب أمضي به، لا أعلم كيف هوت يدي عليها وهي التي ترسم بجدائلها طريق الحياة وعنوان الرسم في حلم لازلت أبحث عنه.
“لا نريدك” كلمة تتردد في قلبي، تجلدني في قلبي، والطريق يتمدد أمامي دون انعطاف.
– يومها هربت يا صديقي، هربت من نفسي، خرجت من جلدي، ولا زال صوتها الباكي يلاحقني. متى أعود لحملها بين ذراعي؟ متى أعتذر منها؟ لماذا على أن احمل صليبي على ظهري أين مضيت يا ماضي؟
– عمّا تتكلم….؟
تأخذني تلافيف الشوارع، تقودني في دهاليز عتمة يوم طويل: سفر بعيد، وصول مهدد بالانقصاف، انتظار على باب مسؤول ذو حاجب، تعارف ثقيل الوطأة، حديث لا طعم فيه، وقرار يجرك إلى سجن بلا قضبان، إلى موت بلا تابوت، هزيمة تتكرر بلا معركة بلا جند سوى ملك يأمر!!!
“أنت منقول، هكذا تريد التقارير الصادرة فيك”. يومها نهضت متاهباً، هممت بالصراخ، لكن يد الحاجب وشخص آخر كانت أسرع تسحبني خارج الأسوار وصوت يلاحقني:
“أرموه في الشارع حتى يتعلم الانصياع، حتى يتعلم ألّا الرفض، لا تدخلوه عليّ ثانية، دلوه على بوابة صحراء المنفى وأوصوا به جرذان الحقول بالقرض… واعلم أني من يحييك ومن يميتك، وأنك ستعود إليّ تجر أذيال الرضوخ، أخرجوه فلا علمك ولا فصاحة لغتك ستشفع لك” ….
لازالت تلك الكلمات تطن في ذاكرتي، وتجلدني الطرقات التي قطعتها زمناً بصبر الجمال واختناق الكلمة….
فجأة تتعالى الأصوات من كل جانب، تتدافع الحناجر تكحت ركام السنون، تتجمع الخطوات وتلتحم، أستيفق من ذاكرتي المريضة، ألمح شاب يعتلى صهوة السماء ويصهل في جموح السيل المندفع…
أسرع ألحق بالركب، اخترقه من قلبه، أحاول الصراخ فتأبى شفتاي عن الاستجابة… تنتفخ رئتاي وأحاول مجدداً…
تأبي حنجرتي عن الاستجابة.. فتعود فيّ الذاكرة لتلك اللحظات… لحظة فتحت الباب وهي تندفع ناحيتي: بابا بابا… هل أحضرت لي قصتي التي طلبتها منك؟
أحيد بنظري عنها، أطلب منها الماء بصمت فلا تفهم نظرتي. أتوجه إلى الحنفية أدفع رأسي تحتها، أشرب وكأني برميل بلا قعر لا يمتلأ…
“بابا…” وتشدني من الخلف، ولا اعلم كيف استدارت يدي إلى خدها! خدها يؤلمني لليوم وبكاؤها يهزمني كل لحظة….
لماذا؟ لماذا؟ سؤال يوجع تاريخ الإنسانية المتراكم في صدري، ووت المسؤول يصفعني ….
أشد على حنجرتي، تكتظ أسناني وموج أصوات الشباب تهزج في المحيط، وحرارة الأجسام تؤجج رغبتي في النداء، أتلفت يميناً وشمالاً فتلوح يداي مع أيدي تتكاثف في قبة السماء….
ينفجر قلبي فجأة بالبكاء. تفيض عيناي بنبع مالح بلا توقف، وفجأة تنفتح حنجرتي وينفلت لساني بالسباب بالشتائم، تعلو حبال صوتي بالتواتر وتعلو شتائمي بين حروف الحرية المترددة في كل اتجاه…
وكأن جبلاً ينزاح عن صدري، تاريخ من الهزائم يزول من ذاكرتي.. وتطل علي ضحكتها، شقاوتها، براءتها، تطل علي بذراعيها الصغيرتين تحيقان رقبتي …” بابا أحملني نحو السماء”…
يرتسم قوس قزح في السماء، وتعلو أصوات الشباب في كل مكان، تتدافع الجموع في اتجاهات عدة، وصوت السياط يلاحقنا، ورصاص يعلو فوق الرؤوس، ويدب صوت الخوف بيننا وتنتشر رائحة الموت والدم…
تتفرق الجموع، ورجلاي لا تقويان على الهرب، تتراكض الخطوات وأنا أمضي هادئاً وقد هدئت جموح الخيل من الجري في صدري.
تنفتح الطرق أمامي، وتعود ضحكاتها الرشيقة ترتسم في خيالاتي..
أمشي هادئاً، متوازناً، أستشعر ثبات الأرض تحت قدماي وكأن جداراً علو السماء قد تحطم تحت وقعهما…
– احذر خلفك؟؟؟ يأتيني صوت ماضي من بعيد.
التفت ناحية الصوت فأراه بعيداً في الأزقة الضيقة… ونظراته لا زالت تكتنفها حيرة التردد، ووقع خطوات مسرعة تتهافت خلفي وأيادي تمتد إلى عنقي. صوت باب ينفتح وأقذف في داخله، وحمى شباب محفوفة بالحرارة والعرق محشوة مثلي في عربة تكتظ بتألق الرغبة والرضا، ويهتف الحشد من مكان آخر: حرية….
بعد ليالٍ طوال من معاشرة القمل والعرق المبلول ببول الحالة، بعد أيام من صفو الذاكرة، من أسواط المحقق والسجان والجلاد، أخرجونا ورمونا في الشارع. توجهنا نحو بائع السجائر مباشرة، نفخنا التبغ سوية، تبادلنا أرقام الهواتف، تواعدنا على الجديد من عمرنا القادم، وبضع كلمات قليلة تواسيني: “لن يمنعك عمرك من المضي في ركبنا”. تتصافح الأيادي، تشد على زنود بعض… مشيت بضع خطوات قبل أن يرن الهاتف:
- حمداً لله على السلامة، قد حطمت ما لم أقوى عليه…
- عساها لك في المرة القادمة…. يا ماضي.
فتحت الباب، فانطلقت اتجاهي، فتحت ذراعي وحملتها عالياً في السماء وانفجرت بالبكاء:
- سامحيني، سامحيني، ها أنا ذا أعود….
- أحب الحياة فيك يا بابا…. هل أحضرت لي القصة التي وعدتني بها؟
وبضع كلمات تتردد من بعيد:
” ها أنت ذا تكتسي جلدك مجدداً…”.
وكأن عالماً جديداً يولد في عمرنا القادم..