جدول التفقّد

0

حسان العوض

طبيب وكاتب سوري مقيم في السعودية، صدرت لي مجموعتان قصصيتان: “أشجار بحاجة إلى قطع” 2013، “مرات أولى” 2018.

مجلة أوراق- العدد 17-18

أوراق القصة

الغياب:

1- أبو ريحة:

بسبب رائحة فمه الكريهة، خاصة في الحصة الصباحية، كان أحمد يجلس في المقعد الأخير، على الرغم من أنه ليس طويلاً.. أحمد أول طالب في الصف يستعمل فرشاة ومعجون الأسنان، على حد علمي، ولكن من دون جدوى.. عندما كان يتحدث معي، كنت أتنفس من فمي متجنباً دخول الهواء أنفي…

لم يعد أحمد يستعمل فرشاة الأسنان، ليس لأنه عالج رائحة فمه الكريهة، ولكن لأن الهواء فسدت رائحته في الصف والمدرسة والقرية كلها.

2- شترو:

يسكن أبو شترو وحيداً في غرفته الوحيدة التي يتكون منها بيته الواقع على طريقنا المؤدي إلى المدرسة، حيث نجده كل صباح جالساً على الشرفة، يشرب المتّة، ويستمع إلى المسجلة التي تبث بصوت عال شريطاً من أغاني المطربة الشعبية فريحة العبدالله.. عندما نقترب من بيته، نبتعد إلى الطرف الثاني من الطريق.. خالد ابن جيراننا في الحارة، وزميلي في الصف، يبتعد حتى يكاد يلتصق بالجدران، وهو يسترق النظر إلى عكاز أبو شترو، وطرفه السفلي الأيسر الذي فقده من تحت الركبة، في حرب تشرين “التحريرية” حسبما سمعنا من أهالينا.

تزوج أبو شترو وطلّق من دون أن ينجب ولداً ليسميّه شترو. ولكن خالد ابن الجيران نال هذا اللقب بجدارة، ففي إحدى المرات التي كان يمشي فيها الحيط الحيط، سقطت قذيفة على الحائط فأوقعته على رجلي خالد فهشّمهما إلى درجة أرغمت الأطباء في المشفى الميداني على بترهما من فوق الركبة.

3- عمر الأعمى:

عمر اسمه، والأعمى كنيته الحقيقية التي تعود إلى جده الذي فقد بصره بسبب انفجار إصبع ديناميت في وجهه عندما كان يعمل في مقلع حجري.. أما لقب عمر فهو الأحول، إذ كان يضع على عينيه نظارة طبية سميكة تخفّف من حوله وتقوي نظره الضعيف أيضاً.. وحده عمر مَن يرتدي نظارة مِن بين طلاب الصف، وكان عندما يغضب منّا، يخلع نظارته ليخيفنا بعينيه اللتين تنظر كل واحدة منهما باتجاه…

كان عمر يراقب أباه الخبير بصناعة المتفجرات عندما انفجرت قنبلة يدوية مزقت أصابع الأب، وأخذت من عينيّ الابن ما كان متبقياً فيهما من بصر وحركة، بالإضافة إلى النظارة الطبية التي استبدلها عمر بنظارة شمسية…

عمر اسمه، والأعمى كنيته الحقيقة، ولقبه الجديد أيضاً.

4- الأستاذ عبد السلام:

كان الأستاذ عبد السلام مدمناً على تدخين السجائر، فلم يكن يكتفي بالتدخين في الفرص، بل كان يدخن أيضاً في الحصص أثناء إعطائه دروس اللغة العربية.. لم يكن يدخن، بل كان يشرب الدخان ويلتهمه…

كان الجميع يتوقع أن يصاب بسرطان الرئة الذي تحذر منه وزارة الصحة على علب التبغ، ولكن الأستاذ عبد السلام أصيب بسرطان المثانة.. بعد أن بدأ العلاج الكيماوي صار شعر رأسه يتساقط، ويتغيب عن دوامه في المدرسة، إلى أن فصل نهائياً من عمله، ليس بسبب غيابه المتكرر، وإنما بسبب قصيدة نشرها في إحدى المجلات، وقد أهداها لي، مما تسبب بملاحقته من قبل فرع أمني داهم عناصره المدرسة أكثر من مرة…

لم يعد الأستاذ عبد السلام يغادر القرية بسبب الحواجز الموجودة على مخارجها، وبالتالي لم يعد يستطيع الاستمرار في العلاج الذي كان يتلقاه في مشفى المدينة، ومع ذلك، لم تسؤ صحته، بل تحسنت، وعاد الشَعر يظهر على رأسه، على الرغم من عدم توقفه عن التدخين؛ ربما بسبب الشِعر الذي صار يكتبه كثيراَ.

5- الأستاذ ياسر:

يدرس الأستاذ ياسر مواد الاجتماعيات بعشق ينتقل عفوياً إلى الطلاب. ففي “تاريخ الدولة العباسية” عندما يتحدث عن أحد الخلفاء، نشعر أننا نشاهد مسلسلاً تاريخياً. وفي “جغرافيا القطر العربي السوري” عندما يتحدث عن إحدى المحافظات، نشعر أننا نقوم برحلة سياحية إليها، شبيهة بتلك الرحلات التي تقوم بها المدرسة مرة أو اثنتين في العام. إلا أنه في مادة “التربية الوطنية” يصاب بانقباض، عندما تحين حصتها الأسبوعية، والطلاسم الواردة في كتابها تزداد غموضاً بشرحه.. لكن، وبعد أن تغيرت رائحة الهواء، زال هذا الانقباض، إذ أنه لم يعد يدرّس ما هو وراد في منهاجها، وإنما جعل “التربية الوطنية” خليطاً من “جغرافيا القطر العربي السوري” و “تاريخه”…

في الدرس الوحيد الذي حضرته، تحدّث الأستاذ ياسر عن محافظة إدلب التي قدّمت الأديبين حسيب كيالي وتاج الدين الموسى. وذكر العديد من مدنها مثل: سرمين التي تنتسب إليها إحدى عائلات القرية، وسراقب التي تنتسب إليها عائلة من القرية المجاورة، وسلقين التي تنتسب إليها عائلة من المدينة عريقة بصناعة الحلويات، ومعرة النعمان مدينة أبي العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، وخان شيخون وبنش وكفرنبل.

6- الآنسة أم أنبوبة:

نناديها بالآنسة على الرغم من أنها متزوجة منذ سنوات؛ إذ يتوجب علينا أن نناديها بالسيدة، حسبما فهمت من مادة اللغة الانكليزية.. لم نلقبها بأم أنبوبة لأنها تدرسنا العلوم، خاصة أن أنابيب الاختبار لم نرها إلا مرسومة في الكتاب، ولكن لأنها ذهبت إلى العاصمة منذ عدة أشهر، للعلاج عند طبيب اختصاصي بالعقم، وصلت شهرته إلى قريتنا النائية. ثم عادت حاملة بتقنية أطفال الأنابيب الغامضة.. قبيل انقطاعها لإجازة الأمومة، علمنا أنها حامل ببنت اضطرت إلى ولادتها باكراَ في القرية بسبب الحصار المفروض عليها. لكن البنت كانت هشّة، لم تتحمل الهواء البارد القاسي والفاسد؛ فانكسرت كأنبوب من الزجاج.

7- أبو زكّور:

في الأسبوع الأول من الفصل الأول توفي أبو محمود، أقدم مستخدمي المدرسة، بسبب جلطة قلبية.. في الأسبوع الثاني توفي المستخدم أبو نجيب بنفس السبب.. في الأسبوع الثالث أُدخل المستخدم الثالث أبو زكّور مشفى المدينة بسبب آلام مبرحة في صدره، أثبتت الفحوصات التي أجريت له أن القلب سليم وبريء من هذه الآلام التي ظلت تعاوده مراراً وتكراراً حتى وصف له أحد الأطباء النفسيين حبوباً مهدئة…

بعد أن انقطعت الأدوية عن القرية، فيما انقطع عنها من أشياء، رجعت الآلام تنهش أبا زكّور، بضراوة أكبر، وبتنوع مختلف؛ فمرة يفيق على ألم شديد في يده، ومرات يفاجئه ألم في رجله يجعله عاجزاً عن المشي.. حيناً يمغصه بطنه بألم طاعن كسكين، وأحياناً تؤلمه عينه حتى يتمنى اقتلاعها…

صدره فقط، ما عاد يتسبب له بأية آلام.

8- عبّود الأحدب:

……………………………………..

9- نيلز:

…………………………

10- السيدة ملعقة:

11- ………

12- ……

……

.

الحضور:

……

6- ………

5- الشيخ المودرن:

4- عزّو الدرويش والدرويش عزّو:

………………………………….

3- ابراهيموفيتش:

زميلي ابراهيم أمهر طلاب الصف في لعبة كرة القدم، وعندما ننقسم في حصة الرياضة إلى فريقين، فإن الفريق الذي سيفوز عادة هو الذي يلعب معه ابراهيم المبدع في تسجيل الأهداف، خاصة برأسه الذي لا يخطئ المرمى أنّى كان…

ابراهيم، أصل والده من العاصمة، وأصل أمه من المدينة، ولكنهما استقرا في قريتنا منذ زواجهما، لذلك يعتبر ابنهما الكبير ابراهيم حياته شبيهة بحياة اللاعب العالمي ابراهيموفيتش، فهو كما أخبرنا ابراهيم مراراً، بوسني الأب، كرواتي الأم، سويدي الجنسية، احترف كرة القدم بعد حصوله على الصف التاسع، وهو حاليا يلعب مع فريق فرنسي.. ابراهيم سيفعل مثله، فبعد أن يحصل على الشهادة الإعدادية، سيحترف في المدينة مع نادي الكرامة مبدئياً، حتى يتاح له الانتقال للعب مع أحد أندية العاصمة، وسيستقر أخيراً مع برشلونة أو ريال مدريد، لا فرق، المهم أن يكون الفريق إسبانياً، أو أندلسياً كما يحب أن يقول ابراهيم…

ابراهيم الذي وصل مؤخراً، لن يصل إلى الصف التاسع، لأن كرة من حديد ونار نطحت رأسه فأودت به.. عندما وصل، لم يكن حزيناً لأنه لن يصبح مشهوراً مثل ابراهيموفيتش، ولكن لأنه لم ينل قدراً من الشهرة كتلك الفتاة التي نطحتها كرة مماثلة في مدينة أخرى…

هنا.. وبعد أن تعرّف ابراهيم، الذي صار صديقي، على تلك الفتاة.. أعتقد أنه صار يحبها.

2- حمزة:

طالما أخبرني صديقي حمزة عن أبيه الذي كان في مثل عمرينا عندما قرر أن يتكنّى بأبي حمزة بعد أن شاهد فيلم “الرسالة” لذلك كان حمزة يحتفظ بنسخة منه، وفي كل مرة أزوره في بيته، لا بد أن نشاهد الفيلم الذي ينتهي بالنسبة إلينا بمقتل حمزة عم الرسول، على يد حبشيّ، برمح انطلق غدراً، بتحريض من هند…

لم يكن صديقي حمزة يخشى الموت لأنه كان على قناعة بأن الرصاصة سريعة جداً، وما إن تطلقها بندقية حتى يفارق المصاب بها الحياة قبل أن يشعر بأية ألم؛ لكنه فوجئ عندما أدرك أن بعض البنادق مزودة برماح، وما فاجأه أكثر أن حامل البندقية ذات الرمح الذي طعنه أكثر من مرة لم يكن حبشياً…

بعد أن وصل حمزة.. عرّفته على أكثر من حمزة.

1-القاشوش:

كنت صاحب أجمل صوت في الصف بحسب معلمة الموسيقى التي كانت تطلب مني أن أغني لها من أغاني عبدالحليم حافظ. أما بحسب زميلنا “بوظو” الذي يحلم أن يصبح في المستقبل مذيعاً رياضياً يعلّق على مباريات كرة القدم؛ فأنا صاحب الحنجرة الذهبية؛ ولذلك كنت أُحمل على الأكتاف في المسيرات التي كانت تهتف بروح الأب الخالد وابنه القائد.. وقتها لم يصورني أحد إلا مصور الجريدة المحلية التي نشرت صورتي في اليوم التالي.

عندما انقلبت المسيرات إلى مظاهرات تلعن روح الأب وابنه؛ حُملت أيضاً على الأكتاف.. أعتقد أنه ما من جوال في القرية إلا ولي فيه مقطع فيديو أشدو فيه، وقد تسببت أناشيدي هذه باعتقال عدد من شبان القرية الذين ضبطوا على الحواجز وهم يحتفظون بها على جوالاتهم.

لا أعرف كيف خُطفت من القرية.. كل ما أذكره أني تلقيت ضربة على مؤخرة رأسي لم أصحُ بعدها إلا مرة واحدة وأخيرة على ألم طاعن في عنقي.. فتحت عينيّ بصعوبة فرأيت جندياً يقهقه وهو يحمل ما اقتطعه من عنقي.. لم يكن ذهباً يلمع بل لحماً ودماً يسيل.