جاسم عاصي: إشكالية العلاقة بين المثقف والواقع

0

تبدو أن الإشكالية بين المثقف والواقع متواصلة الاستمرار، لأنها أساساً تستند إلى المفهوم، وما يرافقه من اعتبارات يخلقها الزمن أيضاً. كما يلعب القلق الذاتي دوراً في تقوية هذه الظاهرة، وتتويج غلبتها وفعاليتها. غير أننا إذا ما نظرنا إلى البعيد من التاريخ لا نستغرب، لأن العيّنات متوفرة في الزمان والمكان ذاتيهما. ولعل العنف واحد من الأسس التي ارتكزت عليها الجماعات والأفراد في تصفية خصومهم، ليس الفكريين، وإنما خصومهم السياسيون، بمعنى التمركز على حيازة السلطة، كما فعل بنو العباس، بل تفننوا في تصفية خصومهم. ولنا في أحداث التاريخ درساً مهماً يُعطينا فرصة التروي، وهو الحاصل عند المثقف، الذي يعي أسس الظواهر. ومنطقها. من هذا نقف عند (المفهوم) عند كلا الطرفين. في ما نسميه الإشكالية التي تقود إلى التطرف، فلو أخذنا المثقف مثلاً، وهو الأقرب لنا، لوجدنا تبايناً بيّناً في معظم تشكلاته، فمجموع المثقفين تتباين لديهم الرؤى، بسبب مصادر وعيهم، وانحداراتهم الطبقية والاجتماعية والأسرية، كذلك مصادرهم المعرفية، إن كانت منظمة أو خاضعة للفوضى، وعدم الاكتراث للتسلسل المنطقي في تلقي المعرفة، حيث تكون تلك المعرفة وبالاً على المثقف، أي تعمي بصيرته إزاء ما يرى ويعيش. وفي الحقبة التي تلت ثورة يوليو/ تموز 1958، شاعت مصادر معرفية مفاجئة للوسط، رافقتها تغيرات سلبية في مسار الثورة، فكانت الوجودية والسيريالية وغيرها من توجهات، خلقتها ظروف غير ظروفنا، بمثابة وجبة صعبة الهضم، فسببت بذلك أنواعا من التطرف المعرفي، الذي أدى إلى سلوك غير مرغوب أو مألوف. ثم أعقبتها حرب يونيو/حزيران كنموذج أيضاً له علاقة بالتبدلات وحيازة المثقف معارف جديدة. فقد انفتحت أمامه جملة مصادر عن أنواع الحروب الوطنية وسمات النضال من أجل الانعتاق والتحرر، وهي في جملتها أسست لنوع من الثقافة، أساسها التمرد على المستعمر، كما حدث في أمريكا اللاتينية وفيتنام وافريقيا، ولم يرافقها عندنا نوع من التنظيم الذي يعمل على الإحاطة بهذا التوجه، باستثناء الانشقاق الذي حصل في الحزب الشيوعي العراقي بقيادة عزيز الحاج، وشيوع نواة حرب العصابات في أهوار الغموكَة جنوب العراق. وهي توجهات كانت لها أسس فردية تمثلت في تمردات (الحاج)، ثم بتأثيرات ونتائج نفق سجن الحلة، حيث وجد بعض الهاربين، بدون تخطيط الأهوار مأواهم، فكان الطريق مسدوداً أمامهم سوى اللجوء إلى الأهوار، باستثناءات قليلة خضعت لعمل منظّم.
هذه الظاهرة الثورية لم تسلم من تأثيرات ثقافة معينة، لاسيّما ثورة كوبا وفصائلها النادرة، كذلك مغامرات تشي جيفارا في أحراش بوليفيا، أو نموذج ريجيس دوبريه. ثم تأثير طروحات ستوكلي كارامايكل في (القوة السوداء) وغيرها. ولعل المصادر المؤثرة كثيرة، لكننا هنا بصدد شيوع الظواهر فقط، وخلق الإشكالية عند المثقف، سواء كان هذا واضحاً في الثقافة العامة، أو الثقافة المتخصصة، التي هي نتاج مرحلة، ونقصد بها الناتج الفكري والجمالي المنحصر في الأدب والفن، وإلى غير هذا من صنوف نتائج تأثيرات الأزمنة، ورهان المصادر الثقافية والمعرفية.

في الجانب الآخر، أي السياسي، فهو لا يختلف عن قرينه الثقافي، فهما ترعرعا ضمن حاضنة قريبة من بعضها. وما تتقاسمه طبيعة البيئة في حياة السياسي، نجدها فاعلة في حياة المثقف، وهذا ما رافق الإنسان السياسي وهو يتصدر دفة الوجود ضمن تشكيلة البلد السياسية، ونقصد بها (الدولة/ السلطة) فالانحدار الفئوي والطبقي والبيئي لعب دوراً في بناء وتشكيل شخصية السياسي.
ولا يمكن محو التأثير هذا، كما أكد علماء النفس والأنثروبولوجيا. فهم في تحليل الشخصية نفسياً واجتماعياً، يرتكزون على الانحدار مهما كانت صفته وخصائصه. كما فعل علي الوردي وعلماء النفس كفرويد مثلاً. الأمر الذي خلق ــ حسب وجهة نظرهم التحليلية ــ نوعاً من ازدواجية الأداء السياسي، الذي تلبس تارة لباس الذات المتعنتة والخاضعة لبنية الشخصية، وتارة أخرى إلى أسس منظومته البيئية والتربوية، ولا نقول الطبقية والفئوية (ازدواج الشخصية) لأنها قد تسبب إشكالاً في تسمية الظاهرة بنتائجها.
إن الإشكال الذي يقع فيه السياسي، يرافقه أيضاً إشكال يقع فيه الثقافي (المثقف). وهذا ينسحب بطبيعة الحال إلى العلاقة المكشوفة والمستترة بين المثقف والسياسي، لأنهما يستندان إلى المفهوم المطلق والذاتي. فالمثقف يستند إلى مراجعه الثقافية، لأنها حاملة لعيّنات كانت بالنسبة له درساً في صياغة وجهة النظر، ثم صياغة شخصيته الفاعلة في المجتمع. والسياسي يرى بحسه التربوي إن أقرب الوجوه إليه من يسنده في الوجود، وهم أفراد أسرته ومجتمعه (بيئته) ومنها عشيرته. ولنا في هذا أمثلة كثيرة ظهرت وتظهر الآن لدى من يتخذ له منصباً ما في الدولة، فهو لا يقرّب سوى حاشيته، سواء في الوظائف التي تخص موقعه الوظيفي، أو حماياته (وهي ظاهرة استندت إلى ظروف الإرهاب) لكنها استمرت وستستمر، طالما كان الحس الفئوي والبيئي هو المتسلط على كيان الشخصية. من هذا فقد انبثقت أنواع من (الهيبة) بين المثقف والسياسي، أساسها مركز السلطة. فكأن السياسي يرى في الثقافي وسيلة لسلب السلطة منه. والحقيقة غير هذا. فالسياسي يرى ضمن حسه الثقافي أيضاً، لأنه أساساً يمارس ثقافة معينة، هي ثقافة السلطة والحكم. فطبيعي أن تفرز المراكز هذه نوعاً من وهم (عقدة) سحب السلطة، وهو إحساس ناتج عن غلبة الحس غير الثقافي لدى السياسي، والاعتماد في هذا على الحس البيئي، ولا نقول الفئوي أو الطبقي أيضاً. إن الإشكالية مبنية على تفاوت الثقافة، فإذا كان المثقف يعتمد في بناء وعيه على الإرث الإنساني والوجداني، فإن السياسي تراوده مصداته البيئية. وهذا لا يُعمم على الجميع، فاستثناءات كثيرة، ممن لهم اختصاصاتهم وتحصيلهم العلمي، ما أهّلهم لهذه الوظيفة أو تلك.
ما نعنيه هنا بالسياسي، ذلك الذي تسلق وارتمى على المنصب الوظيفي بثقل فئته وطبقته، ونفوذ مراجعه الأنثروبولوجية، وليس محصلته الدراسية والتاريخية. نعتقد أن هذه الاشكالية ستكون قائمة، مازالت الوظيفة تمتلك مغريات باهرة، وتُتيح فرصاً نادرة، سواء أثناء الوظيفة أو ما بعدها، خاصة الحصول على راتب التقاعد خارج منطق القانون. وهو نوع من العبث بالقوانين القارّة، هدفه التخريب وليس غير هذا. وطالما أيضاً يبقى النائب بحماية السلطة، خلال بقاء الحراسة على بيته وممتلكاته.

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here