ثورة أم حرب أهلية؟ سجال “الليفياثان” في نسخته السورية

0

رداً على مقالة عامر درويش

أنور بدر

رئيس تحرير مجلة أوراق

مجلة أوراق العدد 12

الملف

بداية أحب التأكيد أنّ “رابطة الكتاب السوريين” منظمة مدنية تنتمي لثورة السوريين ضد نظام الفساد والاستبداد الذي حكم سوريا لعقود خلت، وبالتالي المنظمة ومجلة “أوراق” هي مساحة ومنبر لكل الكتاب والمثقفين السوريين الذين يؤمنون بسوريّتهم وحقهم بدولة المواطنة والحرية والكرامة، ولا ينتمون لنظام الطاغية المستبد، ولا يدافعون عن فساده وجرائمه بحق سوريا والسوريين، فهذه الشريحة التي نعرف أنها موجودة لها منابرها وتنظيماتها التي غادرناها منذ بدأت الثورة.

واليوم بمناسبة مرور عشر سنوات على ذكرى انطلاقة الثورة السورية فتحت مجلة “أوراق” ملفها لسؤال الثورة بعد عشر سنوات، وقد جاء هذا الملف غنيا بمشاركاتٍ لطيف واسع من الكتاب والمثقفين السوريين، عبروا من خلاله عن موقفهم من هذه الثورة ومن انكساراتها وخيبات الأمل التي مرت بها، كما وردتنا مشاركة وحيدة من الكاتب والشاعر عامر درويش، يرى أن ما حصل في سوريا هو حرب أهلية وليس ثورة.

هذه الموضوعة تردد صداها في السنوات السابقة بصيغ استفهامية تارة، وبمقاربات تنعي الثورة التي انطلقت للمطالبة بالحرية والمواطنة المتساوية حين سرقت الثورة، قضيّ عليها، أو انتهت أو انتقلت إلى خانة الحرب الأهلية، وهذه مقاربات تفتح مساحة للسجال معها، لأننا نعرف أن الذين نزلوا إلى شوارع سوريا مطالبين بالكرامة والحرية سلمياً، لم يكونوا إرهابيين، ولم يكونوا مسلحين، قبل أن تبدأ أجهزة الأمن وميليشيات النظام بقتل المتظاهرين الشجعان، واغتيال أصواتهم الحرة، لتأكيد مقولة وجود مؤامرة كونية تستهدف صمود النظام وممانعته كحامي للأقليات، وهو ما سهل الانتقال بعد عام تقريبا وبتسارع باتجاه الأسلمة والعسكرة، فالثوار السلميّين المطالبين بالحرية ليسوا هم الذين سطوا على الشارع بالعنف وحولوا الثورة إلى حرب أهلية خاسرة بكل معايير الوطن والوطنية وتوازن القوى أيضاً، لكنّه النظام أولاً هو الذي سار باتجاه العنف وقتل المتظاهرين، ولاحقاً جاءت التدخلات الإقليمية لتغذي هذا المنحى لأهداف متعددة ومتناقضة أيضاً.

الصديق عامر درويش لم يجد أياً من هذه المقدمات، ولم يرَ في كل ما حصل إلا تعبيراً عن الحرب الأهلية، مؤسسا رأيه على فهم نظري، وجدّنا في هيئة تحرير “أوراق” ضرورة السجال معه، رغم أننا لسنا معنيين، بعد كل الطوفانات التي جَرت تحت الجسر وفوقه، بسجال من يَروّن أنّ بشار أو أياً كان اسمه “هو الأمن والأمان الذي يحتاجه شعب سوريا، وليس مجرد حرية التعبير أو التحلل من القيود”، لاعتقادنا أن الأحرار هم الذين يطالبون بالحرية دائماً، والعبيد فقط من يمكن لبعضهم أن يستكين لقيوده، رافضاً التحلل منها والمطالبة بالحرية.

لكن ما يلفت انتباه القارئ أن كاتب المادة بنى كل تحليلاته على كتاب “الليفياثان” لكاتبه توماس هوبز، الذي نُشر عام 1651، مع انتهاء سلسة الحروب الأهلية التي حصلت في إنكلترا، والتي أفضت بالمحصلة إلى انتصار البرلمان على الملك الذي اُحتفِظَ له بدور رمزي، دون أن نتجاهل الجذر الديني لهذه الحروب والتي انحاز هوبز فيها لسلطة الحاكم أو الدولة كبديل عن سلطة الدين أو اللاهوت.

يبدو أن هاجس البحث عن صيغة قانونية وسياسية انطلاقا من الحقوق الشرعية للعلاقة بين الحاكم والمحكوم شغلت توماس “هوبز” في تلك الحقبة، واستمر هذا الاهتمام لاحقا مع “جون لوك” و”جان جاك روسو” حيث نشر هذا الأخير كتابه “العقد الاجتماعي” عام 1762، وبقيّت هذه الموضوعة مسار اجتهادات لاحقة مع تطور علوم السياسة وفلسفة القانون لاحقاً، وصولاً إلى اعتماد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، بدءاً من حق الحياة وليس انتهاءً بحق التعبير.

لذلك يمكننا التساؤل: لماذا توقف عامر درويش مع هوبز فقط؟ ولماذا يسقط الحالة السورية اسقاطاً تعسّفياً على استنتاجات نُشرت قبل 370 عاما مع صدور كتاب “الليفياثان”، بعيداً عن سياقات الزمان والمكان التي تحرك في فضائها هوبز؟!

يُشير السيد عامر اعتماداً على فهم هوبز إلى خطورة جمع كلمتي “الحرية والاستقلالية” بحيث يُصبح “السعي وراء الحرية … في أفعال تشمل إزهاق أرواح الآخرين، وكما رأينا على مدار السنوات العشر الماضية في سوريا. فالحرية تشمل السماح للإنسان بإيذاء الآخرين”!

أليس طريفاً هذا الفهم للحرية باعتبارها الطريق إلى إيذاء الآخرين؟ وحتى لو قبلنا بهذا الفهم، يبقى السؤال: من الذي يزهق الأرواح في سوريا؟ ومن قتل أكثر من نصف مليون سوري وفق الإحصائيات الرسمية؟، من ضرب البراميل وقصف بالصواريخ ومن استخدم الكيماوي في قتل شعبه؟ هل هم الناس؟ أم الشعب؟ أم المواطنون؟ أم النظام؟

يذهب بنا الكاتب من تعريف الحرية زمن هوبز المأخوذ من وثيقة “الماجنا كارتا” وليس من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، بأن “تعريف الحرية شائع في سوريا ومرتبط بحرية الكلام والتعبير، والحقوق السياسية، وبالتأكيد التحرر من الاعتقال التعسفي”، ومما يثير الاستغراب حقاً، هذه القدرة على استخدام تعابير وجمل عامة مثل “تعريف الحرية شائع في سوريا”، لتأكيد مسائل قانونية وسياسية هي في حيّز الراهن والملموس، وكان بإمكان الصديق عامر الاستشهاد ببعض بنود الدستور السوري التي تكفل هذه الحريات، وهي مواد موجودة في نص الدستور، وحينها ستبدو مقنعة أكثر لقارئه، لكنه لو كتب بهذه الطريقة المباشرة والدقيقة في الاستدلال، سيجد لزاما عليه القول أن النظام السوري أخضع البلد والمجتمع خلال العقود الخمسة السابقة لقانون الطوارئ الذي أوقف العمل بالدستور، وبالتالي سينسف الأساس القانوي لمزاعمه.

أما تأكيده “التحرر من الاعتقال السياسي، أو الاعتقال التعسفي”، فليسمح لنا السيد عامر بعدم تصديق ذلك، لأنّ هذه التعابير لم تفلح بشق طريقها إلى لغة وقواميس النظام، ويمكنه مراجعة سجل سوريا في مجال حقوق الإنسان وحريات التعبير ليكتشف أنه الأسوأ عالميا، وربما لا تصدق يا صديقي وجود سوريين أمضوا في سجون ديكتاتورية الأسد أكثر من سنوات عمرك التي عشتها حتى الآن، ليس لأنهم لجأوا إلى العنف، وليس لأنهم حملوا السلاح، وليس لأنهم إرهابيين، فقط لأنهم عبّروا عن رأيهم، أو كتبوا ذلك، ويسجل لنظام الأسد أنه لم يميّز في سجونه ومعتقلاته بين السوريين العرب والكرد والفلسطينيين  واللبنانيين والعراقيين والأردنيين، وحتى من دول الجوار غير العربية أيضا!

هل تعرف شيئا يا صديقي عن معتقلي الرأي في سوريا، هل تعرف شيئا عن نشطاء المجتمع المدني الذين دخلوا السجن لمجرد أنهم تحدثوا بآرائهم، وهل تعرف أنّ كل هذه الممارسات كانت خارج سلطة القضاء عبر الأجهزة الأمنية، ومن أحيل منها إلى القضاء كان مصيرها عند محكمة الميدان العسكرية أو محكمة أمن الدولة، التي أصبحت لاحقاً “محكمة الإرهاب”، وكلها محاكم استثنائية لا تتمتع بأي شرعية قانونية.

دعني أخبرك أن هذا النظام الذي تدافع عن شرعيته، جاء إلى السلطة عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية، ولم يأتِ بطريق ديموقراطية قط، فهو الذي قتل وصفّى رفاقه في قيادة الحزب والدولة إما عبر الاغتيال المباشر أو في السجون، وهو الذي هجّر الكثير من السوريين عرباً وكرداً كي يستولي على ممتلكاتهم، كما أمم المصانع والشركات، في سبيل بناء عالم اشتراكي وردي بلغة شعرائه، لكنه في المحصلة دمّر الاقتصاد السوري، وأدار البلاد كمزرعة له ولأتباعه وعدّلَ الدستور في مسرحية من فصل واحد لم يستغرق عرضها أكثر من دقائق قليلة، كي يتاح لنجل “الليفياثان” الذي تدافع عنه أن يصبح في لعبة الاستفتاء الديمقراطي رئيسا للأبد في سوريا.

حدث هذا كله منذ عقود مضت، وأعرف أنّ جزءاً كبيراً من هذا التاريخ حصل قبل ميلادك يا صديقي، لكنّه واقع عاشه السوريون بكل انتماءاتهم وتلاوينهم الاجتماعية والجغرافية والسياسية حتى وإن لم تعشه أنت، واقع عشناه قبل انطلاق ثورة الحرية والكرامة في آذار 2011، أما بعد الثورة فهو تاريخ آخر كتبه السوريون بدمائهم وحيواتهم حين قالوا “لا” لاستمرا هذه العائلة الفاسدة، فلم يشأ أن يواجههم “الليفياثان” إلا بالعنف والقتل مهما تعدّدت أدواته ومسمياته.

مع أنك تقدم معادلة صحيحة بأن التخلّي عن العنف لا يعني التخلي عن حقه بالدفاع عن نفسه، دون أن نعرف منك موقف هذا الانسان إذا كان العنف الواقع ضده مصدره السلطة العليا أو “الليفياثان”؟ وكيف إذا كان الأمر لا يتعلق بالعنف ضد إنسان فرد بل ضد الإنسان بحالته المجتمعية كشعب أو مواطنين أو سكان؟

المفارقة أنك تمنح “الليفياثان” كممثل للسيادة العليا حق “الانتقام من الشعب، إذا هاجم الشعب هذه السيادة”، لأنّ هذه السيادة العليا وفق هذا المنطق السفسطائي تصبح ممثلة لكل السوريين، بينما الشعب هم أعداء السوريين! ألا تعتقد أن في هذا الاستنتاج اعتداء سافر على المنطق وعلى السوريين وعلى الشعب؟

يبدوا أن استنتاجك هذا اعتداء أو تناقض مع مرشدك الوحيد “هوبز” ذاته، إذ يؤكد أن السكان/ المواطنين ليسوا ملزمين بالخضوع إلى الحكومة عندما تكون أضعف من أن تتصرف بحزم لتمنع التحزب والاضطراب المدني، ويذهب “روسو” أبعد من ذلك في حال فشل الحكومة في تأمين الحقوق الاجتماعية، أو عجزها عن تلبية اهتمامات المجتمع الأساسية، فيصبح المواطنون في حلٍّ من طاعة الحكومة، بل يذهب للحديث عن وسائل تغيير الحكومة أو السلطة بدءاً بالانتخابات وانتهاءً بالعنف إن لزم الأمر.

وقد خلص “جان جاك روسو” إلى أنّ “الديمقراطية” هي الطريق الأمثل للحكم، وربما لذلك لم ترغب بالبحث زمنيا أبعد من صديقك “هوبز” الذي أكادُ أجّزمُ أنك ظلمته بطريق اسقاط مقولاته على الحالة السورية، مع الإشارة إلى تجاوز كل الفلسفات اللاحقة: الليبرالية والهيغلية والماركسية لمفهوم العقد الاجتماعي، الذي نُصر نحن السوريون الديمقراطيون عليه الآن، إنما بصيغته التي تتجاوز استبداد القرون الوسطى، باتجاه مزيد من الربط بين الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية.

بعد أن اعتبرتَ الحرية طريقاً لممارسة الأذى للآخرين، تعود لتبشرنا أنها “الحرية التي تتجاوز المعنى المادي لأي عائق. إنه السماح للإنسانية بالازدهار حيث أن الأمان يولد المعرفة، ومن ثم يحول العلم إلى نجاح اقتصادي”، فهل أنت جاد في هذه الفقرة؟ وعن أي معرفة وعلم تتحدث في سوريا التي دمّر النظام أكثر من 70% من مؤسساتها التعليمية، وعن أي ازدهار اقتصادي تتحدث في مجتمع لا يجد فيه المواطن رغيف الخبز؟!

من المحزن أن يؤمن بعض المثقفين بديماغوجيا النظام “أن البشر بشكل عام ليسوا ناضجين بما يكفي لدخول عالم السياسة…. كما هو الحال حاليا في سوريا”، وتضيف بكل أسف بإن “هذا الملك المطلق بمثابة قانون إلهي غير قابل للكسر للحفاظ على سلامة الجميع” أي “الوعد بطاعة الليفياثان الذي سينقذ حياتهم من الحالة الطبيعة القاسية في سوريا”.

أي حياة سينقذها هذا “الليفياثان” يا صديقي، وهو لم يكتفِ بقتل الناس، بل قتل البشر والشجر، ودمر كل أسباب الحياة في سوريا، انتقاماً وتشفياً من الخصوم، والخصوم هنا هم السوريون أخوتك وأبناء بلدك وزملاؤك في الدراسة أو مئات الآلاف ممن لم تتوفر لهم إمكانية الدراسة أو اكتشاف القلم.

أعتقد يا صديقي ببساطة أنك لم تعش في سوريا أو لم تقرأ قصص السوريين، ولم تعرف معاناتهم عبر العقود الخمسة الأخيرة من طغيان سلالة “الليفياثان”، فقراءة الكتب شيء، وقراءة الواقع والتاريخ شيء آخر يا صديقي.

مع أنني لا أفترض سوء النيّة فيما كتبتَ، لكنه يُذكّرني بمواقف أغلب فقهاء المسلمين، اللذين حَرّموا الخروج على طاعة الحاكم، كما نُقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية في إجماع التابعين على طاعة السلطان المسلم مهما بلغ من ظلم الرعية وأخذ أموالهم.