نقاشات أدبية
جرت عام 1947 أول انتخابات للمجلس النيابي السوري، بعد جلاء الفرنسيين، وفاز فيها إقطاعيون، وتجار، ورجال دين، وعلمانيون، وقادة صاعدون، وآخرون هابطون، ورؤساء عشائر، وقادة طوائف، وشباب مثقف، وطاعنون في السن كانوا أعضاء في مجلس المبعوثان العثماني.
كانت انتخابات نزيهة إلى حد كبير، مرّت بالحد الأدنى من تدخل السلطة. فعكست تنوع المجتمع وحساسياته إلى درجة كبيرة، لذلك كانت النقاشات التي تجري تحت قبة البرلمان، تعكس المشاكل والهموم والتحديات التي تواجه الجمهورية الوليدة.
من زاوية أخرى اجتمع في ذلك البرلمان ثلاثة من جهابذة الأدب، أولهم رئيس المجلس فارس الخوري، الذي كان أديباً إضافة إلى صفاته ومواهبه الأخرى، الحقوقية والسياسية. أما الثاني فهو الشاعر بدوي الجبل، الغني عن التعريف، وكان الثالث الأديب والبرلماني الشاب الطبيب عبد السلام العجيلي. دارت بين الثلاثة نقاشات طريفة على هامش الجلسات. يقول العجيلي إنه كتب قصيدة عن فلسطين ضمنها البيت التالي، الذي ينتقد موقف الحكام العرب من قضية العرب فلسطين. يقول العجيلي على لسان الحاكم الذي يتنصل من فلسطين:
وما والدي في مسجد الأقصى موسد وليس لأجدادي بغزة أقبر
أرسل النائب العجيلي، الذي يجلس بين النواب، قصاصة ورقية مع أحد سعاة المجلس إلى فارس الخوري، الذي يجلس على سدة الرئاسة. كان ضمن القصاصة سؤال «هل يُجمع قبر على أقبر؟ هز فارس الخوري هامته الضخمة وقال لي فوراً كيف لا؟ ألا تحفظ بيت أبي العلاء حين يقول:
أرواحنا معنا وليس لنا بها علم، فكيف إذا حوتها الأقبر؟
فأثبت الكلمة في مكانها مع أن لسان العرب وقواميس أخرى لم تذكرها كجمع لقبر. ففارس الخوري حجة والمعري حجة، والعرب جمعوا نهراً على أنهر، وعصرا على أعصر وسهماً على أسهم ونجماً على أنجم.
يتابع العجيلي القول، حتى حين لا أكون معه على سدة الرئاسة، كان يحدث أن يطّلع على بعض مطارحاتي ودعاباتي الأدبية. ويذكر العجيلي قصة المراسلات بينه وبين أمين سر المجلس بدوي الجبل، بعد حضورهما اجتماع حلقة أدبية في دمشق كان اسمها «حلقة الزهراء». بعد الحاح من العجيلي رضي بدوي الجبل الذهاب إلى تلك الحلقة، لكن بعد أن شاهد الحسناوات ومنهن «صبية فاتنة الحسن رقيقة التهذيب تفيض ظرفاً وحيوية، هي الآنسة سلمى ع… وبدا لي أن صديقي الشاعر لم يندم على نزوله عند اقتراحي، بل إن جو الندوة راق له، إلى درجة نسي فيها جلسة البرلمان التي حان انعقادها. وكما فعلت حين استصحبته إلى هذ الندوة، كان عليّ أن ألح عليه، وأن أُذكّره بمقعده الذي ينتظره إلى جانب رئيسنا وأستاذنا فارس بيك». يقول العجيلي: أثناء الجلسة جاءني أحد السعاة يحمل إليّ ورقة مطوية من أمين السر الذي كان في مقعده إلى جانب الرئيس، فضضت الورقة فإذ فيها بيت شعر واحد، هو التالي:
لا تبالي والخير في أن تبالي
ألهجر تصد أم لدلال
وبعد قليل عاد الساعي برد من العجيلي إلى بدوي الجبل
لو تراها أومضت مقلتاها
تسكب الشوق في ثنايا السؤال
أين لا أين شاعر «بدوي»
ملهم الروح عبقري الخصال
قلت أودى بلبه يا سليمى
خافق هام في فنون الجمال
كلنا في هواك صب عميد
مثل بدو السهول بدو الجبال
وبعد أن قرأ البدوي الورقة مال بها نحو رئيس المجلس يتلوها عليه. ثم عاد الساعي برد جديد:
ما لسلمى بعد المشيب
بدعة الحب صبوتي واكتهالي
إن حب الجمال أصبح عندي
بعد شيبي عبادة للجمال
كلما لاح بارق من سناه
جن قلبي وضل أي ضلال
كل هذه المراسلات وسط فضول الصحافيين الذين يحضرون جلسة البرلمان لتغطية أحداثها ونقاشاتها، يريدون معرفة فحوى النقاشات التي تدور بين النائب العجلي والرئيس الخوري ونائبه بدوي الجبل عبر القصاصات الورقية التي يحملها سعاة المجلس.
تعديل الدستور
دون الدخول بتفاصيل كثيرة فإن الرئيس شكري القوتلي انتُخب عام 1943 رئيساً للجمهورية لمدة خمس سنوات تنتهي عام 1948، وكان الدستور السوري ينص على عدم إمكانية ترشح الرئيس لدورة ثانية، إلا بعد خمس سنوات يشغلها رئيس آخر. لكن الرئيس يريد التجديد لولاية ثانية بينما الدستور لا يسمح بذلك، إذن لا بد من تعديل الدستور لتغيير المادة الثامنة والستين، وكان ذلك، وهذا ما أثار استياء بعض النواب، ومنهم الدكتور العجيلي.
قضية فلسطين والرقابة
سيطرت على جلسات البرلمان السوري قضية فلسطين المصيرية منذ صدور قرار التقسيم عن الأمم المتحدة عام 1947. فعُقدت جلسات استثنائية وعادية لمناقشة هذه القضية من عدة جوانب. طلبت الحكومة أمرين هما المال والسلطة المطلقة. من ناحية المال أجابها النواب إلى ما تريد، ففرضوا ضرائب خاصة بالجهد الحربي، وخصصوا ميزانية إضافية للجيش ليحارب في فلسطين، وأطلقوا يد الحكومة للتصرف بالأموال الاحتياطية كما تريد. لكن من جهة طلبها الآخر: فرض الرقابة على الصحف كان للسادة النواب رأي آخر.
يقول النائب أحمد قنبر، «تقول الحكومة إنها إنما تفرض الرقابة من أجل أخبار فلسطين وأخبار الجيش وحركاته، وقد سمعت على لسان المسؤولين تفسيراً عجيباً لهذه الرقابة يوجب علينا أن نوجس خيفة منها ومما يختبئ وراءها، فسألت الراوي هل يجب على إدارة الجريدة أن ترسل أخبار فلسطين والجيش فقط إلى دائرة المراقبة أم ترسل الصحيفة كلها؟ وهل إذا جمعت هذه الأخبار في صفحة واحدة من صفحات الجريدة الأربع يُكتفى بإرسال هذه الصفحة فقط ؟ فأجاب لا بل يجب إرسال جميع الصفحات للمراقبة. ثم عدت فسألت هل تقتصر الرقابة على أخبار الحركات والأعمال العسكرية، التي تنشر في الصحف أو تذاع من المحطات الأجنبية وهل تُحصر ضمن هذا النطاق؟ أم أنها ستشمل كل تعليق وكل كتابة وكل مقال يتعلق بالقضية الفلسطينية؟ يقولون إن الرقابة تفرض لصيانة الأعمال الحربية والخطط العسكرية وأنباء فلسطين، أفلا يوجد في بلادنا قانون يحقق هذه الغاية؟ يُكمل النائب حبيب كحالة (صاحب المضحك المبكي) النقاش فيقول: عبّر السيد أحمد قنبر في ما قاله لا عن رأي الصحافيين فحسب، بل عن رأي كل من يقول بالحرية الفكرية وحرية الصحافة» أيها الإخوان، قد تقضي ظروف الحرب بأن تفرض الحكومة رقابة على ما ينشر عن حركات الجيش وما إلى ذلك، وهذا أمر معقول لكن بشرط أن تقتصر الرقابة على الأمور العسكرية فقط، وأن لا يرسل الصحافي إلى المراقبة سوى الأخبار العسكرية، أما أن تشمل الرقابة الأخبار السياسية والحوادث الإدارية فإنها تخرج عند ذاك عن الغاية التي وجدت من أجلها، وتصبح عبارة عن ستار تتستر به الحكومة للدفاع عن سياستها وعن تصرفاتها. حدث في العهد العثماني أن أقدم أحد الصحافيين على انتقاد الفوانيس التي وضعتها البلدية في الشوارع، فعُطلت جريدته ونفي إلى مجاهل بعيدة بحجة أن انتقاد الفوانيس هو انتقاد للبلدية، وانتقاد البلدية إنما هو انتقاد لوزارة الداخلية، وانتقاد الداخلية هو انتقاد للصدر الأعظم. وهذا معناه انتقاد السلطان الأكبر الذي لا يجوز أن ينتقد. وغداً أيها الإخوان لا يبعد إذا انتقد صحافي سائق سيارة وزير الداخلية أن تُغلق الجريدة، وأن يحذف هذا الخبر بحجة أن وزير الداخلية يعمل لأجل قضية فلسطين، وأن هذا الخبر أوجد العراقيل في هذا السبيل!
«السوق» إلى الجيش
جرى نقاش مطول حول قانون خدمة العلم (التجنيد الإجباري) تناوله من مختلف جوانبه، لكن نقاشا تفصيليا صغيرا حول كلمة «سوق» التي وردت في هذا القانون استغرق وقتاً طويلا. فقد ورد في النص أن خدمة المكلف تبدأ من تاريخ سوقه إلى خدمة العلم. قال أكرم الحوراني «أنا أقترح استبدالها بعبارة (تبدأ الخدمة من يوم التجنيد الفعلي في الجيش)». أما السيد عبد الوهاب حومد فقال، إن كلمة «سوق» غير مستساغة في السمع، وقد سبق للمجلس النيابي الفرنسي أن اعترض على كلمة « impet « التي تفيد معنى الفريضة، وبدّلها بكلمة أخرى تفيد المعنى نفسه، ولذلك أطلب إبدال كلمة «سوق» التي تستخدم لغير العاقل بكلمة أخرى أنسب منها ككلمة «أخذ» مثلاً.
ـ وزير الداخلية محسن البرازي: إذا سمح لي الزملاء فإنني أقترح كلمة ربما تفيد المعنى المطلوب هي كلمة «نفرة» لأن عبارة «نفرة الجند» تعني أنهم باشروا العمل فعلاً وقد وردت في تاريخ العرب.
ـ النائب سامي كبارة: هذه الكلمة وإن كانت ثقيلة على النفوس والآذان إلا أن اللجنة تمسكت بها خشية من سوء الاستعمال، ومن عدم استعمالها لما نريده، إذ قد يبقى الجنود في العنابر أشهرا دون سوق.
ـ النائب عبد الله فتال: اقترح إبدال كلمة سوق بكلمة «دخول».
(القدس العربي)