تنوّع الخطاب الروائي لدى أدباء الرقة

0

أحمد المحمد العُجيلي، كاتب سوري – ألمانيا

أوراق 19- 20

نقد

شهدت منطقة وادي الفرات ومدينة الرقة تحديداً منذ منتصف القرن المنصرم إقبالاً ملحوظاً على خوض غمار الكتابة الروائية؛ حيث أصبحت الرواية تتصدر المشهد الأدبي في العالم العربي، وراحت رويداً رويداً تحتل مكان الصدارة بين مختلف الأجناس الأدبية في الأدب العربي الحديث.

برز اسم الأديب الراحل د. عبد السلام العجيلي في تلك المرحلة من خلال كتاباته القصصية والروائية على حدّ سواء. وقد تُرجمت كثير من أعماله إلى لغات أجنبية عديدة، وحظيت باهتمام النقاد على مر العقود الماضية.

إلا أنّ كثيراً من الأقلام الإبداعية في مدينة الرقة ظهرت في تلك الفترة إلى جانب أدب العجيلي ورواياته، وأبدع كتّابها في إنتاج أعمال روائية ذات قيمة فنية تستحق الوقوف عندها، وتسليط الضوء على جوانب الإبداع الروائي فيها.

تطوّر النشاط الأدبي في الرقة منذ سبعينيات القرن الفائت مع ظهور أسماء مثل: إبراهيم الخليل وخليل جاسم الحميدي ود. عبد الله أبو هيف ود. إبراهيم الجرادي وماجد رشيد العويّد وإبراهيم العلوش وغيرهم الكثير ممن خاضوا غمار الكتابة القصصية أو الروائية أو حتى الشعر بنوعيه الفصيح والشعبي؛ كان لهذا الزخم أن يترك أثره في الحركة الأدبية في مدينة الرقة، إذ بدأت تلك الطاقات الإبداعية بعرض منتوجها الأدبي خارج النطاق المحلي من خلال المهرجانات واللقاءات الأدبية التي شهدتها مدينة الرقة مطلع الألفية الجديدة، سواء في مهرجان “الدكتور عبد السلام العجيلي للرواية العربية” أو “مهرجان مصطفى الحسون للشعر العربي” أو غيره من اللقاءات والمنتديات الأدبية.

يلحظ المتتبع للمنتج الروائي الرقي التصاق أدباء الرقة بقضايا متنوعة تتمركز حول الإطار المحلي المتصل بمدينة الرقة تحديداً، ومن ثمّ الانطلاق إلى قضايا أكثر تنوعاً تشمل مختلف نواحي الحياة التي تهمّ الإنسان العربي مثل قضايا الحرية، والحياة، والموت، وغيرها.

غير أننا نقف هنا عند ملامح الخطاب الروائي تحديداً لدى الكتاب الرّقيين بوصفه سمةً تكاد تكون مشتركة لدى العديد منهم.

لعلّ أبرز ما يميز الخطاب الروائي الرقي هو توظيف الموروث الشعبي في الرواية، ليغدو هذا الموروث حاملاً أساسياً تُبنى عليه الرواية، وتنتج عنه الشخصيات وتدور في فلكه؛ وهذا ما يبرز في معظم روايات أدباء الرقة ومنهم: (إبراهيم الخليل) في معظم أعماله، مثل: “الهدس”، “حارة البدو”، “حارس الماعز” وغيرها.

في رواية “الهدس” يحضر الموروث الشعبي بقوة ابتداءً من العنوان وما يمثّله لدى أبناء الرقة، وما تحمله هذه الكلمة من مدلولات، ولا يقف توظيف (الخليل) للموروث الشعبي عند عنوان رواياته، وما تحمله الكلمة من مدلولات لفظية تجعلها أكثر التصاقاً بالبيئة الفراتية، بل إننا نجد الموروث الشعبي حاضراً بقوة داخل الرواية من خلال المشاركة في صياغة أحداثها وبناء شخصياتها، ورصد تحولاتهم داخل مجتمع الرواية.

في حديثه عن القادمين الجدد نحو الحي، وما سيمثله وجودهم من تغيير في قوانين الحياة التي كانت سائدة، يلمح الكاتب إلى ثقافة الجهل داخل مجتمع الرواية، حيث تسيطر الخرافة والتعاويذ على حياة كثير من الناس في المنطقة، والسبب في ذلك هو جهلهم، واستغلال كثير من الانتهازيين لهذه الحالة، بهدف سلبهم أموالهم وابتزازهم، وأكثر فئة كانت تتعرض لذلك هي النساء، حيث يقول:

“جاء الغجر…وقد سُرّ لذلك الباحثون عن المتعة، فأيامهم الرتيبة لم تعد كذلك ولو إلى حين، والباحثات عن تعاويذ المحبة، ووصال العشاق وحرز التفريق، والجمع”.

في الإطار ذاته سعى (إبراهيم الخليل) في روايته “حارة البدو” إلى اعتماد الموروث الشعبي ركيزةً من ركائز خطابه الروائي للتعبير عن رفضه للعادات والتقاليد البالية داخل مجتمعه، من خلال نقده ظاهرة الثأر التي انتشرت فترةً من الزمن، حيث سيطرة فكرة نقد الثأر على مجريات السرد بشكل كبير، وراح الكاتب يوجّه سهام نقده إلى هذه الظاهرة مستخدماً أساليباً متنوعةً، في مقدمتها الموروث الشعبي، حيث يستدعي طقوس المجتمع الرقي في حالات الفرح والحزن، وما يرافقها من مظاهر داخل المجتمع القبلي الخاضع لرؤية شيخ العشيرة:

“ربما يستيقظ الآن كل شيء، الطفولة، والتزاحم في ولائم الأعياد على مناسف الشيخ “جدعان الناصر”، وتهريب قطع اللحم والثريد في الجلابيات القذرة، مجموعة من صبية الفلاحين والعبيد، والرعاة، والأيتام، تختلط بمجموعة من العجزة، وأولئك الذين بترت ألغام الحدود بعض أعضائهم، وطلة الشيخ التي ترهب الجميع، فتقف الأفواه، والعيون، والأيدي”.

أمّا (ماجد رشيد العويّد) فقد بنى أولى أعماله الروائية المعنونة بـ “الغلس” وفق رؤيته السياسية ورغبته في التعبير عن واقع التهميش، وسياسة القمع التي يعاني منها السوريون عامّة. الغلس يمثّل الحد الفاصل بين النور والظلام، وهي نقطة التبئير المركزية في الرواية؛ حيث تتجلى رغبة الكاتب في استحضار النور وانقشاع الظلام، حتى لو كانت تلك اللحظة هي الغلس، بداية النهاية لهذا الظلام الذي تعيش داخله شخصيات الرواية.

تُعدّ “الغلس” من أولى الأعمال التي استشرفت المستقبل، وربما مهدت له؛ والحديث هنا عن الثورة السورية التي انطلقت شرارتها بعد بضعة أشهر من صدور الرواية. مهّد الكاتب لتلك الأحداث في روايته، حيث قام بنقد الواقع الاجتماعي المعيش من جهة، ومن جهة أخرى قام بتعرية الواقع السياسي وفضحه من خلال رسم شخصية دكتاتورية هي “العم حمود” النائم الغائب في سباته العميق، ولكنه يبعث الرعب والخوف في نفوس تابعيه، لتغدو شخصيته تمثيلاً لشخصية الدكتاتور في سورية على وجه الخصوص، والوطن العربي عامّةً.

“استهوته كثيراً القصص التي قرأها عن الحجاج، وكثيراً ما تمثّل شخصيته، وتمثّل بالتحديد جانب القوة والجبروت فيه”.

“كان يرى أن القوّة أساس الملك، حتى وإن جاءت القوة بالظلم، فإنها تبقى أساس الملك”.

لا ينسى الكاتب غزارة الموروث الشعبي في المنطقة، فيعتمد عليه في تكوين شخصية البطل “هلال” الذي يخضع لتغيرات كثيرة تطرأ على شخصيته؛ إذ ينتقل هلال من شخصية الساذج العابث الذي يعيش عالمه الخاص به، إلى شخصية السجين السياسي الذي يتعرض إلى شتى صنوف القهر والعذاب؛ ومن ثمّ إلى الشخصية الواعية التي تدرك بعد تجربتها القاسية داخل السجن، أنّ عمّه “حمود” ما هو إلا دكتاتوراً ظالماً يجب الخلاص منه، وأنّ جميع الأحاديث عن كرامته وقوته ليست سوى محاولاتٍ لتخدير الشعوب؛ وبالتالي يجب الخلاص منه بهدف الوصول إلى النور من هذه الظلمة.

ينطلق الكاتب من شخصية هلال الساذج ليجعلها مكافئاً موضوعياً لمجتمع الرواية، وشخصياتها الخاضعين لسلطة الدكتاتور النائم أو المسبوت، حيث يحدّد مدينته الرقة فضاءً مكانياً لروايته؛ ومن جهة ثانية يتسع الفضاء المكاني لتصبح صورة المجتمع في الرقة انعكاساً لواقع الشعوب العربية التي تسمع أخبار الحرب العالمية، ولا قدرة لها على تغيير مصيرها، على الرغم من وقوع معارك كبرى من هذه الحرب على أرضها:

كانت تلك الحكايات، إلى جانب حكايات أخرى تنشرها أفواه الجدات حول المدافئ شتاء وفي الأحواش صيفاً، الزاد الوحيد والتسلية اليتيمة لأناس قبعوا في “قضائهم” مستسلمين لما يصلُ إلى مسامعهم من أخبار الحرب التي حلّت في العالم”.

“أما الصبر فهو الطبع الغالب على أناس تعودوا الدخول في نومهم باكراً من كل يوم، صبرٌ يمتدّ مثل موال ساعة الأصيل. وعلى رنين كؤوس الشاي يتلاشى الأنين وتختفي الشكوى، وينتشر فرحٌ غامض غير محسوس بحكايات الرشيد وألف ليلة وليلة، وحكاية حي بن يقظان الذي أرضعته ظبية، صارت أمّاً له. وما إن يعبر أحد شوارع “القضاء” حتى يسمع اللحن، ولا يدري من أين انبجس، فيقول الذي انتابه ذعرٌ: إنّه الجن، وإنها الأشباح الطائرة”.

 تترصد رواية “الغلس” ملامح المتغيرات السياسية والاجتماعية من خلال استخدام وتوظيف الموروث الشعبي الذي اعتمده الكاتب أداةً لتعرية هذا الواقع، حيث يسأل الناس هلال عن جنيته التي يعاشرها، في إشارة واضحة إلى انتشار الخرافات والإيمان بها في مجتمع تلك المنطقة؛ وهي من الأمور الكثيرة التي كانت سبباً في عذاباتهم وانصياعهم للدكتاتور المسبوت:

“قل لي يا هلال هل صاحبتك الجنية ما تزال تأتيك؟”. ” وهل هي من الجن الرحماني يا هلال؟”.

“بدأ ينتابهم الإحساسٌ بأنّ هلال رجلٌ مباركٌ، وأنّ طائفةً من الجن تحيط به وتحميه، وتحمل له بعض علم الغيب، وأنّ حديثه عن طفله الذي سيولد ويرث الأرض من بعد موته، طفله المخلوق من طبيعتين، من الطين والنار، حديثٌ جادٌ وصحيحٌ ولا غبار عليه”.

أمّا (د. شهلا العجيلي) فقد اعتمدت بشكل واضح على الموروث الشعبي في معظم أعمالها الروائية، مثل:

“عين الهرّ”، “صيف مع العدو”، “سماء قريبة من بيتنا” وغيرها….

ففي روايتها “سماء قريبة من بيتنا” تقارب العجيلي واقع مدينة الرقة إبّان الثورة السورية، وما تلاها من أحداث أدّت بشكل مباشر إلى تشظي المجتمع، ناهيك عن تشظي المدينة ذاتها وتدميرها بشكل شبه كامل؛ فتلجأ في تلك الرواية إلى استلهام الحزن المخيم على مدينة الرقة من خلال استحضار المواويل والمقامات الحزينة التي تسبغ على السرد مسحة حزنٍ جماعي على ما حلّ بالمدينة،  فتعنون الفصل الأول من روايتها بـ “ليالي الأنس”، ليغدو عنوان الفصل أيضاً مدخلاً لما هو قادم داخل الفصل من مشاهد الحنين، واسترجاع الماضي، والأمل بمستقبل ربما أفضل؛ ثم لا تتوقف عند ذلك، بل تكثر من الموشحات الحلبية، والقدود والمقامات:

يا لا لا لا لا لا يا ليل

بأهداب العيون

يا لا لا لا لا يا لا لا يا لا لا لي

 العيون، العيون السود

بعيداً عن الحزن واللعب على مشاعر المتلقي من خلال مقاطع الأغنيات العربية لعبد الحليم حافظ أو فريد الأطرش، نجد أنّ الكاتبة لا تغفل عن ذكر الأمثال والمقولات الدارجة، في عملية توظيفها المتكرر للموروث الشعبي داخل روايتها، فنجد كثيراً من الأمثلة على ذلك:

“الأنف الكبير دلالة العنفوان”

“قلبي على ولدي انفطر، وقلب ولدي على الحجر”

“بدران سرسري”

إلى جانب ذلك تلمّح من خلال السرد إلى العادات والخرافات التي كان يؤمن بها أهل المنطقة، لتعكس الواقع الاجتماعي والثقافي الذي كان سائداً بين أهالي الرقة:

“جوجو، لا تجلسي على العتبة، فالجان يتناكحون على العتبة، وأنت تزعجينهم”.

وبالطبع لا يخلو الأمر من ذكر العادات والتقاليد في الافراح أو الأعراس أو المآتم، وبعض نواحي التربية التي يتلقاها الجيل الجديد من الكبار، لتصنع شخصياتهم بما يتناسب مع المجتمع المحيط:

“احمدي الله أ ليس لك أولاد، الأولاد يكسرون الظهر!

“شدي ظهرك، عدلي جلستك، افردي كتفيك، ضمي رجليك، ضعي ساقا على ساق، نزلي تنورتك، ابتعدي عن الشمس”.

“آخ يا (نانا)، ما فائدة المشدات، والكعب العالي، وكريم إيديال، إذا كانت كلها ستنتهي إلى ما انتهيت إليه!

وهو ما يتكرر أيضاً في روايتها “صيف مع العدو”، حيث تزخر الرواية بالذكريات المرتبطة بمدينة الرقة، في حوار داخلي (مونولوج) يعبر عن حالة الحنين والفقد من جهة، ومن جهة أخرى يؤكد التصاق الكاتبة ببيئتها، والاعتماد على التراث الشعبي بمختلف تكويناته داخل السرد:

  • لماذا تضعين القشرة على رأسك يا عمّة؟
  • كي لا تدمع عيناي. من تدمع عيناها يعني أنها تخاف من أهل زوجها‍!

أمّا الأم داخل الرواية، فهي تعكس بمقولاتها واقع الثقافة الشعبية السائدة في المدينة، من خلال ذكر الأقوال المأثورة التي هي منتج شعبي جماعي وليس فردي، من شأنه الاستمرار على مرّ أجيالٍ متعددةٍ تتناقله ليغدو قانوناً يسيّر حياتهم داخل المجتمع:

“لا ولد بنذر، ولا زوج بسحر”

“لعن الله عيشة المداراة”

أعرف أن الناس كلهم يبيتون عند مرضاهم في مستشفى المدينة الوحيد، فكيف تركته؟ الأهالي هناك يجلسون على الرصيف، بشايهم وقهوتهم وطعامهم، وثمة عائلات كاملة مع الجيران تبقى حتى الصباح بانتظار مود الزيارة”.

من جانب آخر يبرز اسم (د. موسى رحوم عباس) في روايته “بيلان” حيث يؤسس لخطاب جديد في روايات أدباء الرقة؛ إذ يغاير سابقيه من خلال قدرته على الغوص داخل شخصيات روايته، والحفر عميقاً في دواخلها، معتمداً على خلفيته الثقافية وتخصصه في مجال علم النفس. تعود الرقة أيضاً في رواية “بيلان” إلى مركزية الحدث، ولكن الكاتب هنا يختار قرية “كسرة مريبط” مسقط رأسه، والحقيقة الوحيدة في هذه الرواية كما أعلنها هو في مقدمة الكتاب.

يقوم الخطاب الروائي هنا على التوازي بين مجتمعين يقسم بينهما درب بيلان. هذا الدرب هو الحد الذي يفصل مجتمع الرواية إلى مجتمعين، لكلٍّ منهما خصوصيته وخلفيته الثقافية، على الرغم من التقارب العشائري السائد في تلك القرية. إلا أنّ الكاتب أراد جعل بيلان رمزاً لحالة أو حدث اجتماعي مهم، في إشارة إلى الثورة السورية، وما أحدثته من انقسام داخل المجتمع السوري، والرّقي على وجه الخصوص.

يسعى الكاتب أيضاً إلى استلهام التراث الشعبي، وتوظيفه تقنياً للتعبير عن الحالة الثقافية السائدة في تلك المنطقة من جهة، ومن جهة الرغبة للتأكيد على الهوية والتمسك بها في ظل تشظي السوريين وتشردهم في جهات الأرض الأربع.  تبرز شخصية “أم الواجعات” وهي المرأة التي تداوي العيون التي علقت بها ذرة غبار أو شيء دخيل، وذلك من خلال لسانها الذي تلحس به العين المصابة، وهي عادة منتشرة في الرقة ولها أسماء شخصيات خالدة في ذاكرة أهل الرقة، مثل: سارة “أم الواجعات” التي يعرفها جميع أهالي الرقة. ناهيك عن أنّ الخرافة والجهل يسيطران بشكل كبير على مجتمع الرواية:

  • الوضع يا بني ليس علاقة بالطب، هذا الأمر لا يقدر عليه إلا الشيوخ_ دستور من خاطرهم_
  • هذا مقام سيدي الشيخ عرودة، صاحب الكرامات التي هزمت الإنكشارية، وحبست جنودهم وجعلتهم كالأرانب.

وإلى جانب توظيف الموروث الشعبي داخل السرد، يقارب الخطاب الروائي مشكلات مجتمع الرقة السياسية والاجتماعية والثقافية، حيث تعكس الرواية واقع المنطقة إبّان استلام حزب البعث السلطة في سورية، وبناء سد الفرات في تلك المنطقة، وما نتج عنه من آثار ومشكلات اجتماعية أخرى كان د. عبد السلام العجيلي قد سلّط الضوء عليها سابقاً في روايته “المغمورون”.

إلا أنّ الكاتب آثر تعرية الواقع الاجتماعي ونقده، من خلال رمزية بيلان وما يمثّله من خط فاصل بين قسمي المجتمع السوري، وما تلا ذلك من أحداث أفرزتها الثورة السورية ساهمت في زيادة الانقسام بشكل أكثر حديّة من قبل.

“بيلان ذلك الفاصل بين عالمين متلاقيين متنافرين، وجزيرة الأمير فردوسٌ مفقودٌ وعالمٌ من المتعة، وأهلين بابن العم، تغيب كلّ الوجوه حتى وجه كارمن، تظلله أشجار الغرب والطرفاء”. 

أما (عبد الرحمن مطر)، فقد اعتمد السيرة الذاتية لإنتاج خطاب روائي أكثر حدّة من سابقيه، وراح يصور عذابات بطل روايته، وهو صحفي وسجين سياسي، يتعرض لأنواع القهر والعذاب على يد الأنظمة الحاكمة في كل من سورية وليبيا. إذ تندرج رواية “سراب بري” تحت مسمّى (أدب السجون) برأي كثير من النقّاد، إلا أنّ الكاتب حاول من خلال روايته تجسيد جرأة الخطاب الروائي التحرري، الذي يرفض ما سبقه من ترميز وإحالات تاريخية بهدف الهرب من مقص الرقيب.

لجأ الكاتب إلى المواجهة وعدم الحياد في خطابه، مُسمّياً الأمور بمسميّاتها؛ بدءاً من عنوان الرواية الذي يرمز إلى حالة هذيان وتبدد الظلام والسجن، لتغدو سراباً غير واضح المعالم يضغط على أبطال الرواية في تصويرها سيرة البطل، أو الكاتب نفسه وهو يناضل ضدّ جلاديه، مروراً بباقي أحداث الرواية.

استخدم (عبد الرحمن مطر) لغةً شعرية يتقنها، وهو الشاعر والصحفي؛ جاءت انسيابية متقنة استطاع من خلالها رصد ملامح العذاب الداخلي للمعتقلين، وفضح وحشية سجانيهم وهمجيتهم:

عاد الى مسمعه هدير الطائرة التي خلفت وراء عبورها مشاهد أرغفة الخبز الملونة بالدم، لم يحتمل تلك الظهيرة أن يلتقط رغيفا ظلّ مرمياً على كتف الطريق دون أن ينتبه إليه العابرون، والجوع يفتك به،

يتلوى من شدته، لكن العطش صرفه بعيداً عن الجوع، هل ثمة خبز هنا؟

“حازم في التاسعة عشرة، آثار التعذيب في خاصرته، ثقبان غائران في الجسد الطري، أحدثهما إغماد سبطانة الكلاشينكوف، أثناء التحقيق في فرع الأربعين، بالجسر الأبيض. والجرح الطازج بعد مرور ثلاثة أسابيع – كما رآه – ما يزال ينزّ دماً”.

بعيداً عن التقرير والخطابية، يلجأ الكاتب إلى توضيح موقفه والاصطفاف إلى جانب الثوار في سورية، وهو ما لم نشهده سابقاً عند غيره من الروائيين الذين قاربوا مسألة الاستبداد والدكتاتورية؛ حيث كان الروائيون يلجؤون إلى الترميز أو الأحداث التاريخية في مثل تلك المواقف؛ ففي وصف أحد السجناء، وهو أبو محمد الملقب بـ “السلطان”، يتعمد الكاتب الوضوح في التعبير عن رؤيته السياسية وموقفه من السلطة الحاكمة في دمشق على لسان الراوي:

خرج السلطان شخصاً آخر، فاقداً كل شيء. دون أن يريحه الموت، لكنه لم ينس تلك العبارة التي قلبت حياته:

” سنخلع صور فرانكو

عن جدران دمشق!” 

يتابع الكاتب في سرده شبكة العلاقات داخل مجتمع الرواية، جاعلاً من بطله الصحفي “عامر” البطل الأوحد الذي يحمل هموم مجتمعه، ليتقاطع العام بالشخصي، لأنه يدرك أن الهمّ العام مرتبط بكل تفاصيل حياته، كما أنه يسعى إلى التأكيد أنّ هموم الفرد ليست إلا جزءاً من الهم العام، لذلك أخذ على عاتقه هذا الحمل وراح يناطح جلاوزة الاستبداد بكل جرأة ودون هوادة:

أجاب عامر، بتصميم على انتزاع المبادرة، وكأنه يريد توجيه دفة التحقيق الآن بنفسه، وليكن، ما يكن بعد ذلك:

– كيف.. وأنت تجاوزت حدودك في الحركة، كثيراً!

– كل شيء واضح، ومعروف.. حتى بالنسبة لكم.

نعرف بعض الأشياء.. نعم، ولكن ثمة الكثير المخفيّ، ما الذي يدعوك لزيارة الصين؟

– دعوة وجهت لي، فقبلتها!

-الشرق، ليس من اهتمامك؟

-العالم يتغير.. وأنا أردت ذلك!

ومتابعة للخطاب المتمرد في روايات أدباء الرقة، تفتح رواية “باب الأبواب” للكاتب والصحفي (يوسف الدعيس) باباً من أبواب التجديد في الخطاب الروائي. حيث استخدم الكاتب تقنية مختلفة عن سابقيه في سرده لأحداث الرواية، حيث قسّم روايته إلى فصول، يعبّر كل فصل عن باب من الأبواب التي اختارها الكاتب لتكون مفاتيح نصية ترافق القارئ من البداية إلى النهاية، بحيث يغدو النص رشيقاً لا تكلّف فيه.

يفتح الكاتب أبوابه بيسرٍ وسلاسةٍ ليجد القارئ في كل بابٍ من هذه الأبواب عالماً يحاكي العالم الواقعي، ولكن بلغة بسيطة وسهلة خالية من التقعّر والتعقيد.

إلا أنّ السمة الواضحة في رواية “باب الأبواب” هي الخطاب المباشر في تعرية شخوص الرواية ومجتمع الرقة، واتخاذ الراوي بلسان السارد موقفاً واضحاً من الواقع السياسي المرافق لأحداث الرواية؛ وهو ما لمسناه أيضاً في رواية “سراب بري” من قبل، إذ يلحظ القارئ انحياز الراوي/ الكاتب إلى الثورة السورية بوضوح لا مجال للشكّ فيه:

“الجحيم ما باتت تُوصف به الرقة، المدينة الهادئة والمعزولة عن العالم، المدينة التي كان يُشار إليها بعلامة استفهام كبيرة دائماً، المدينة التي كانت تغيب عن نشرات الأخبار، ونشرات الأحوال الجوية، تحولت بين ليلة وضحاها إلى سرّة الكون، ومستودع أسرار للقتلة بعد أن مرّت جحافل جيوش سوداء وصفراء في أزقتها وحواريها الرحبة، وكما مرّ عليها سابقاً الطاعون الأسود والوباء الأصفر، ها هي أعلام صفراء وسوداء وبيضاء تخفق اليوم فوق سواريها، وها هم جنود بلحى كثة وأخرى حليقة يتراقصون فوق جثث عباد الله”.

بالإضافة إلى الانحياز الواضح لمجريات الأحداث المرافقة في الرواية، والتي تجلت في الثورة السورية منذ 2011 تبرز سمة أخرى يسعى الكاتب إلى تأطيرها داخل خطابه الروائي، وهي التجديد على الصعيد اللغوي؛ حيث ظهرت في رواية (باب الأبواب) لغة جديدة لم تكن معهودة لدى كتّاب الرقة، وربما كتّاب سورية عامّةً. إذ أنّ مفردات الحرب، واللجوء، والقصف، والبراميل، والمخيمات…وغيرها من التراكيب اللفظية التي استخدمها الدعيس تبدو غريبة عن مجتمع أهل الرقة الذين ربما لم يشاهدوا طيلة العقود السابقة طائرةً تطير في سماء الرقة سوى الطائرات الزراعية التي ترش الأراضي بالمبيدات الحشرية في أوقات معينة من فصول السنة.

“اخترقت الطائرة المشهد، ثم غابت مع صخبها نهائياً، صرخ من كل قلبه هذه المرة: لست خائناً. لست خائناً. والله ما فررت إلا لكي أنجو بنفسي وعيالي من هذه المذبحة”.

“الناس في الرقة صاروا يميزون بين قذيفة الهاون والصاروخ وما بين البرميل المتفجر والقنبلة الصوتية أو العنقودية، وصار مألوفاً أكثر ما يقوم بجمعه الأطفال من بقايا القنابل والصواريخ، وصار لافتاً أن ترى جمهرة من الفتية والصبية والكبار والنساء تتجه أنظارهم إلى الأعلى، في محاولة يائسة للبحث عن مكان سقوط القذائف، أو على أقل تقدير توقع مكان سقوطها، ونسبة الأذى الناجمة عن الانفجار، وتحليل شكل وقوة القذيفة، ونوع الطائرة، سيخوي أم ميغ. صرنا محللين عسكريين، وقبلها سياسيين وإعلاميين، ولا نعرف ماذا يخبئ لنا القدر”.

وتتابع الرواية واقعيتها المباشرة ليصف الكاتب رحلة (الأب باولو) وهو أحد نشطاء الثورة ضدّ النظام السوري، حيث يسافر إلى الرقة رغبةً في التوسط للصلح بين الفصائل المسلحة المتناحرة التي سيطرت على المدينة في مرحلة من مراحل الثورة:

“لم تنفع تحذيرات الناشطين والأصدقاء من ثني الأب باولو عن عزيمته في لقاء قادة داعش، وإن استطاع أن يلتقي بالبغدادي، فهو جاهز، وأخيراً وقعت الفأس بالرأس، ودخل الأب باولو غار الأفعى، معقل الدولة في عاصمة الخلافة المزعومة، وغادرنا إلى غير رجعة”.

في ضوء ما سبق، يمكن الحديث عن تنوع الخطاب الروائي لدى أدباء الرقة، من خلال تتبع مسارات هذا الخطاب في ضوء التجارب الشخصية؛ لتبرز نواحي هذا التنوع بالاعتماد على الموروث الشعبي الغزير في تلك المنطقة، والانحياز إلى التجربة الذاتية بشكل واضح، والجرأة في طرح القضايا المصيرية، ولاسيما السياسية منها، ونقد الحكام بشكل صريح بعيداً عن الترميز واستجداء الحوادث التاريخية.

كما تبرز إرهاصات التجديد التي شهدها الخطاب الروائي من خلال ظهور لغة جديدة تواكب مجريات الواقع وتؤسس لأدب الحرب أو اللجوء الذي راح يزدهر في مختلف البلاد العربية ما بعد أحداث الربيع العربي.

وفي طبيعة الحال يجد المتابع جرأة الخطاب في معالجة قضايا الإنسان المعاصر، وهمومه دون الاعتراف بالمحظورات التقليدية، كالجنس والسياسة والدين وغيرها من المحظورات التي تمّت مقاربتها بحرية أكثر من ذي قبل.

ومن الطبيعي أن تكون هناك تجارب روائية أخرى لم يتم تسليط الضوء عليها بسبب صعوبة الحصول عليها، إلا أنّ ذلك لا يمنع من الحديث عنها مستقبلاً بشكل أوسع، وربطها بالتنوع الأدبي الحاصل في مدينة الرقة، والذي نرى أنّه يؤسس لجيل روائي جديد يسعى إلى إثبات ذاته وفرض رؤاه وخطابه الروائي.