سلوى زكزك، كاتبة وقاصة سورية حتى النهاية
مجلة أوراق- العدد 15
أوراق القصة
في بلاد الجوع، لا تسكن عند المحطة الرئيسية للحافلات المتجهة نحو كل جهات المدينة، ولا عند مواقفها الفرعية، لا تحاول إحصاء عدد الواقفين على المحطات.
لا تنظر من نافذتك إلى الشارع المكتظ بالنعاس والتعب والضياع، لا تجلس على شرفتك لتشرب قهوة الصباح، ستفتقد طعمتها الحقيقية! وستصير قهوتك حنظلا بفناجين أنيقة.
السادسة صباحا، جلبة ساخطة وشتائم نسائية، سيدتان عابرتان نحو مركز عملهما، انكسر كعب حذاء الشابة، صرخت حين التوت قدمها ومال جسدها وكادت أن تقع، خلعت حذاءها ذو الكعب البلاستيكي المشغول بطريقة الصب، قالت لمرافقتها: ما في أمل! وفي محاولة يائسة لتثبيته، تبقى في يدها أكثر من نصف الكعب، قضي الأمر إذن.
عامل النظافة مشغول بتسجيل أرقام السيارات الواقفة بمحاذاة الأرصفة، لم يعنِ الحدث له شيئا، وربما تحتفظ ذاكرته بمئات القصص المشابهة، المهم بالنسبة له أن الحادث طبيعي ولا مبررات لأي ارتياب أمني، مجرد كعب حذاء ينخلع أو ينكسر أو يضيع لا فرق، بنظرة شمولية وحاسمة، قيّم وحفظ في سجله العملي توصيف الحادث، لا شيء يدعو للقلق، وتابع تسجيل أرقام السيارات مع إضافة بعض التوصيفات أمام بعضها كاللون، أو عبارة (غريبة).
طفل يجمع القمامة من حاوية كبيرة، قصير القامة ونحيلها، جمع ما يعتبره ذا قيمة من على أطرافها، ثمة كيس يغريه بالنزول في قلب الحاوية، حاول تسلقها مرات متتالية، لكنها فجأة مالت وكادت أن تدهسه، في لحظة تشبث بالحياة أو ربما مجرد ضربة حظ قفز كفأر خائف وسقطت وهو بعيد عنها بمسافة تبلغ أقل من حجم كفه الضئيل، كانت الحاوية قد فقدت أحد دواليبها، فمالت وسقطت بفعل عدم التوازن عندما حاول الفتى القفز بداخلها.
جلس على الرصيف مرعوبا، بان عري قدميه، كان حافيا! في يوم بارد من أيام كانون، طفل حافٍ! كيف وصل إلى هنا؟ وكم هي المسافة التي قطعها على جلد قدميه المتقرنتين؟ لا شيء مهم، سجل عامل النظافة الحادثة على أنها عرضية وسخيفة ولا تدعو للقلق أيضا، وربما قال في قلبه: هذا هو الجزاء العادل لكل من يقاسمنا رزقتنا.
اجتمع على الرصيف شابة بحذاء كعبه مكسور، وطفل بلا حذاء، وعامل نظافة يتابع مهمته بحس عال من المسؤولية وبنباهة عالية، يقترب رجل منه، يسأله عن مطاطة! يضحك عامل النظافة ويقول: أتريدها نظيفة وسميكة لجمع رزمة الأموال الكبيرة التي في جيبك؟ كان يسخر! لكن الرجل لم يكن معنيا بسخريته، شكله يوحي بأنه لا يملك حتى أجرة الانتقال إلى نقطة أخرى من المدينة، يرفع فردة حذائه في وجه عامل النظافة، حذاء أسود قديم ذابت كل أطرافه وخاصة كعبه، لكنه قرر اليوم فتح مقدمته، ربما قرر التحرر من قبضة قدم الرجل الخشنة، بدا الحذاء كفم تمساح لابد من إحكام ربطه بمطاطة لاكتفاء شر أنيابه، كان الرجل مضطرا لربط مقدمة حذائه لمواصلة السير نحو شقاء لا يكل ولا يمل.
فكت الشابة صاحبة الكعب المكسور وثاق كيس تحمله في حقيبتها ومنحت مطاطة شعر عريضة بيضاء اللون للرجل صاحب الحذاء المفتوح، ربط بها حذاءه، ضحك الجميع حتى عامل النظافة، قالت السيدة المرافقة بلهجة ساخرة: (بدو بكلة شعر ألماس)، بدت مقدمة الحذاء المحاطة بمطاطة بيضاء وكأنه غرة لامرأة ربطت شعرها القليل وينقصها شكلة شعر ماسية قد يعوض لمعانها عن ضآلة حجم غرتها.
سأل الرجل صاحب فم الحذاء المربوط الشابة عن مشكلتها، أرته الكعب المكسور وشبه المعلق بفردة حذائها، أخرج نصلا حادا من جيبه، قطع الكعب، شهقت خوفا، أسكتتها شريكتها قائلة: (أصلا خالص عمرو)، طلب الرجل فردة الحذاء السليمة، وضعها ملاصقة للفردة مقصوصة الكعب، بحركة معلم خبير علّم بالنصل على حدود الكعب السليم، رفع الحذاء وقص كعب الفردة السليمة بمستوى العلامة، منح الحذاء للشابة قائلا بزهو: (صاروا نفس المستوى ونفس الارتفاع).
طلب الفتى جامع القمامة النصل الحاد من الرجل بذريعة حاجته لفك وثاق الكيس الذي أغراه للنزول في قلب الحاوية، رفض الرجل قائلا: ما زلت صغيرا جدا لتحمل (كندرجية) قد تقتل بها رجلا! أمره بجلب الكيس وفك له وثاقه بخفة بالغة.
سارت الشابتان نحو عملهما الذي تأخرتا عنه، والفتى هلل فرحا لما وجده في الكيس، قال محدثا نفسه: (قلبي قلي إنه كيس محرز)! جمع كل محتوياته المؤلفة من قدور معدنية تبدو جديدة ولامعة وابريق نحاسي اللون، جمعها في كيسه وركض سعيدا مسلما قدميه لقساوة الطريق.
اقترب عامل النظافة من الرجل حامل النصل الحاد، قال له بلهجة استعلائية:(بتعرف أن حكم حيازة الكندرجية قد يصل لسنتين؟) ضحك الرجل باستخفاف وأكمل طريقه متجاهلا وجود عامل النظافة كلياً، أخفى النصل الحاد في جيبه، قال في نفسه: سنتين في مكان دافئ ووجبة طعام واحدة أفضل من المؤبد الذي نحياه.
في صباحات بلاد الجوع، لا تتابع وجوه البشر وحكاياتهم ولا أقدامهم، كل عمليات الترميم ليست إلا وجعاً مضافاً لقائمة الآلام القاهرة، أغمض عينيك ما استطعت، أغلق ستائر نوافذك، وانس الشرفات لأنها عيون لاقطة للألم المباح، والبوح صرخة ذعر، لقطة خاطفة لتبادل خدمات ترميم غير مجدية، الصباح ليس مجرد كلمات ممزوجة بالقهر، سيبدأه الكثيرون بالشتائم، بصرخات الذعر، بفقدان القدرة على متابعة السير، الصباحات في بلاد العجز ليست إلا نصلا حادا ينغرز في القلب، يدميك وفوق الوجع حكم باسم القانون على اقتناء الجرح.
دمشق 7 كانون الأول 2021