تجرّأنا على الحلم!

0

إبراهيم العلوش

كاتب سوري

مجلة أوراق العدد 12

الملف

ما إن رفع القاشوش صوته بأغنية “يالله ارحل يا بشار” حتى صارت آلاف الأغاني التي تمجد القائد وأبو القائد مجرد كومة من النفايات، اعتباراً من أغاني تمجيد أبو سليمان وأبو باسل حتى أغاني تمجيد أبو حافظ، صارت كلها مجرد أكوام من الزبالة تنتظر من يرحّلها بلا رجعة!

وما ان انشق أول جندي وأعلن أنه يرفض إطلاق النار على المتظاهرين المدنيين حتى صارت رتب جيش الأسد وأوسمته مجرد شارات بلاستيكية تليق بالدمى، ولا علاقة لها لا بالشرف العسكري ولا بالوطن الذي يحلم به كل السوريين!

لقد تجرأنا على الحلم وهتفنا ضد الظلم وضد الاعتقال وضد التعذيب، وأعلنّا عن حقنا في الحياة بكرامة، ولم نعد نقبل بفرع المخابرات كرمز للوطن، ولا كمزار مقدس على السوريين أن يزوروه حاملين الرشاوى والنفاق والخوف الذي يهدر كراماتهم!

وما إن انطلقت المظاهرات قبل عشر سنوات في آذار 2011 حتى تغيّر السوريون، فأنوار الحلم بالتغيير، وحلم الحرية حوّل كل منتجات نظام الأسد إلى رماد.. والكتب التي تمت فبركتها في كل مناسبة لتمجيد إنجازات القائد الأبدي وابن القائد الأبدي وكل عائلة وأقرباء القائد الأبدي تهاوت، إذ لم يعد الخوف قادرًا على إجبار الناس على الركوع حتى في المعتقلات!

لقد خرجنا من القمقم ورأينا أنفسنا خارج معادلات العبودية الأسدية، ورغم القصف بالبراميل والصواريخ ورغم كل قوى الاحتلال التي جلبها تجبّر النظام الأسدي فلم يتراجع السوريون عن الحلم بالكرامة، لقد هجرنا بيوتنا وسكنّا في البراري وفي المدن الغريبة وخسرنا أملاكنا وتعب العمر ولكننا لم نعد قادرين على العودة إلى الكهف الأبدي الذي صممته عائلة الأسد وخبراؤها للسوريين ولمستقبلهم!

أجل لقد تجرأنا على الحلم ولم نعد قادرين على الكتابة ضمن الجو المخابراتي الذي فرض على كتابنا الانحناء إلى حد الإحديداب، لم نعد قادرين على العودة إلى التاريخ من اجل تحميله بعض الإشارات والتعبيرات التي تشير إلى الحاضر الأمني وحالة الاستبداد المطلق!

لقد أجهض نظام الأسد خلال خمسين عاما الحلم السوري وخرجت أجيالنا لا تعرف إلا منجزات القائد وأبي القائد وصار الإبداع الأدبي والسياسي شبه منقطع، وظللنا نعتاش على ما أنتجه جيل الستينات والخمسينات الذين استطاعوا أن يتذكروا شيئا من كرامتهم ومن حريتهم، لقد تعلّبت أجيالنا في السبعينيات وما بعدها وصارت تعتاش على الأجواء التي تسمح بها تعليمات فروع المخابرات وعلى شعار قائدنا إلى الأبد والمسيرات التهريجية التي يسوقون بها الناس إلى الساحات العامة لتكريس عبادة الدكتاتور والاعتراف بالخوف كجو طبيعي لكل سوري يحيى في ظلال “التعذيب المجيد”، وبعدها في دولة “التطوير والتحديث والبراميل المتفجرة”!

آن لأدبائنا ولكتابنا أن يقتلوا الشرطي الذي في رؤوسهم، وآن لهم أن يخرجوا من جوّ الروايات التي كرّسها نظام الأسد والتي يكون الأبطال فيها مجرد أبواق للشكوى وللتعبير عن العجز وفقدان القدرة على الفعل، آن لنا أن نتجرّع الخسائر التي منينا بها وألا نعود إلى أجواء العجز رغم ضخامة المعاناة وألا نلجأ إلى مجرد تكريس المظلوميات في ضمائرنا وفي إبداعنا، بل يجب أن نكرّس الحريّة والقدرة على الفعل والعيش بكرامة!

لقد عاد هاني الراهب إلى التاريخ في رواية الوباء من أجل أن يلتقط أصول الضابط الأسدي المستثمر في الفساد وفي الخوف مثل عبسي ورفاقه في فروع المخابرات الذين انتهجوا التعذيب كأسلوب لإدارة البلاد، وعاد الكثيرون غيره إلى التاريخ، ولكن المعالجة كانت تتسم في نهاياتها بالخوف وعدم القدرة على الصراحة بسبب وطأة المخبرين الأدباء والمخبرين الأيدلوجيين والمخبرين الدينيين!

هتافات آذار التي ابتدأت قبل عشر سنوات ما تزال تستعر في نفوس السوريين وتلاحق جذور الخوف من أجل تحرير الإنسان السوري من الاستبداد السياسي ومن الاستبداد الطائفي ومن الاستبداد الديني والقبلي!

نعم لقد خسرنا الكثير من الشهداء ومن أهلنا ومن أخوتنا، وخسرنا بيوتنا وخسرنا البنية التحتية لمدننا التي دفع السوريون دمائهم من أجلها قبل أن تعفّشها عائلة الأسد ومخلوف وشركائهم، وقبل أن تعفشها قطعان الشبيحة، وقبل أن تطوّبها إيران وروسيا وأمريكا وتركيا، وقبل أن تمتد ذراع الإرهاب الديني والطائفي على أعناق السوريين وتخنقهم بإرهابها الذي يعتبر امتدادًا لإرهاب المخابرات الجوية والعسكرية ومختلف أنواع المخابرات.

ولكننا لن نندم على المطالبة بكرامتنا، فحلم الحرية سكن فينا، ولم نعد قادرين على اقتلاعه من قلوبنا، ولن تستطيع أيّ مسرحية دولية اعادتنا إلى الكهف الأسدي..

ويالله ارحل يا بشار!