فهد الحسن، فنان تشكيلي وناقد
مجلة أوراق- العدد 16
أوراق التشكيل
ربما كان يجدر بي الحديث عن الكتابة والتشكيل، أو الشعر على نحو خاص، في تجربة فناني الرقة، عبر التجمع التشكيلي، الذي أستطيع القول أنه كان إحدى ظواهر الحراك الثقافي السوري، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
في الحرفية والمهارة التعبيرية الفائقة، يندر الاّ تتلمس روح الشعر، وبعض موسيقا، وأنت تطالع أعمال فناني الرقة، منذ تلك الفترة وحتى اليوم. مزيج من الدهشة، والتماعة الفكرة، وسحر اللون إن جاز التعبير. سيبقى الحديث هنا عن تجربة تجمع فناني الرقة، بما له من أهمية وأثر على الحركة التشكيلية والمجتمع بآن واحد. غير أنني سوف أشير، إلى أن بعضاً من الفنانين المتميزين هم كتاب، وشعراء ونقاد، كانت لهم – وماتزال – مكانتهم ومساهماتهم في الحياة الثقافية السورية والعربية بصورة عامة. الشاعر عنايت عطار، والشاعر والناقد طلال معلا، والناقد فهد الحسن، هم ثلاثة فنانين مؤسسسين في هذا التجمع التشكيلي.
كان العام ١٩٧٦م موعداً هاماً ومفصلياً، لانطلاق أهم تجمع جمع الفنانين للتشكيليين في محافظة الرقة السورية ، تلك المدينة الصغيرة الوادعة التي كانت تغفو بغنج على ضفاف نهر الفرات.. بما كان يعنيه ذلك من رمزية أغنت ذائقة كافة المبدعين الرقيين بأطياف من الخيال الذي استمدوا منه ما يفيد في توجههم الإبداعي على مختلف مشاربه . فالرقة حاضنة إبداعية متميزة ، وقد قيض لها أن تضم كوكبة كبيرة من الفنانين التشكيليين على اختلاف ميولهم وأساليبهم الفنية.. وكان لإشهار ذلك التجمع الفني بنشاطاته المتنوعة والمتتابعة ، دوره البارز وأثره العميق في إثراء تجارب من انضووا تحت لوائه ، مساهماً كذلك في صقل ما أنتجته تلك التجارب على المستوى الفردي، وخلق تنافساً شريفاً فيما بينها، وعكس مستوى باهراً وراقياً في طبيعة الأعمال الفنية المنتجة، لتتماهى مع تجارب سورية كبيرة نالت حظاً وفيراً من الشهرة والانتشار، وحظيت بمكانة متميزة في خارطة الفن التشكيلي السوري- آنذاك – وخصوصاً في المدن الكبرى، مثل دمشق كعاصمة، وحلب كمدينة عريقة في التشكيل السوري، وفي تقديمها أسماء فنية لامعة .
أجد هنا، أنه من الجدير الاشارة، الى الراحل الكبير : ( عبد الغفور الشعيب ) رحمه الله، باعتباره مديراً للمركز الثقافي في الرقة آنذاك، وبوصفه مثقفا بارزاً ، الذي أسهمت مبادرته، وجهوده المثابرة، بشكل خلاق في تأسيس هذا التجمع، وفي استمراريته لفترة زمنية طويلة، رافقها إقامة الكثير من المعارض الفنية الفردية والجماعية في الرقة وباقي المدن السورية ، حيث كان الشعيب يعي عبر رؤاه الخلاّقة دور الثقافة والفن في تهذيب ذائقة المجتمعات.. وهذا ما ساهم بدوره في شحذ همم الفنانين التشكيليين وغيرهم من المثقفين، على إطلاق العنان للإبداع والإنتاج، فكانت باكورة ذلك النشاط تنظيم أول معرض جماعي لهذا التجمع الوليد، والذي شمل كل من كان متواجداً على الساحة الفنية في المحافظة، من أجيال متتابعة، بدأت بالرعيل الأول متمثلاً بالراحل/ إبراهيم الموسى، الذي ركز في أعماله على الإحساس المشرق للون، عبر تناوله للطبيعة الصامتة المنفذة بأناقة وتمرس، وكذلك البراعة في رسم البورتريه بأسلوب احترافي، فيه الكثير من التمكن في استخدام الزيت والألوان المائية. أما محمود الفياض، فقد كان متأثراً بتجربة الواقعية الاشتراكية، التي كانت مزدهرة في تلك الحقبة. وكانت أعماله تعكس ذلك الجو الفني، عبر توليفة من الألوان الباردة المستقاة من تلك المؤثرات. فيما أطّر فواز اليونس تجربته برؤى سوريالية، في جوّها العام، وفي مفرداتها وطقوسها وأسلوبية تكنيكها، اعتماداً على الألوان الحارة والملمس البارز لتوناتها . وقد جمعت هذه الأسماء الثلاثة صدفة هواية الرسم في حين كانت مهنتهم الأساسية هي المحاماة .
في حين كان الفنان حامد الصالح يقوم بدور ريادي، في تاسيس التجمع، كمدير لمركز الفنون التشكيلية ىنذاك، مساهماً بوضع لبنات بناءه الأولى، إضافة الى مشاركاته الدائمة في معارض التجمع، بأعماله التي تتميز بخصوصية فريدة، عبر اسلوبه الواقعي الرصين الذي يلامس وجدان من يشاهد أعماله الفنية، والتي تحاكي طبيعة المدينة، وفي موضوعاتها التي تشمل افكاراً اخرى، نُفّذت بروحية الفنان المتمرس والمثابر.
ثم يأتي الجيل الذي تلا أولئك، والذي كان لحضوره الدور المميز في تأصيل فكرة العطاء التشكيلي، المشوب بالحداثة والتجديد، ومواكبة التيارات الفنية الحديثة، برؤى تختزل تجاربها بتناول الأفكار الكبيرة، وفي توظيفها في العمل الفني عبر أساليب فنية حديثة، تجمعهم في إطارها العام، وتحافظ على الخصوصية الفردية كهوية فنية، تميز صاحب التجربة وتدل على عطائه .
ويندرج تحت ذلك كل من الأسماء :
عنايت عطار ، الأخوين طلال وأحمد معلا ، الراحل موفق فرزات (رحمه الله) ، عبد الحميد فياض. فيما اختط لنفسه الراحل/ ياسين الجدوع رحمه الله خطاً مغايراً اعتمد على التلقائية والتراث والفلكلور المحلي الطابع ، كما ساهم ياسين سلطان المهندس الزراعي القادم من مدينة حماه بأعمال فيها اقتدار وحرفية عالية ، وتستقي من الطبيعة رموزاً وأجواءً تزيينية وتسجيلية عالية المستوى، وقد نفذها بألوان الباستيل بمهارة وحرفية فائقتين. فيما قدم خيرو حجازي – القادم من إدلب – أعمالاً أكاديمية بأسلوب الحفر والغرافيك، الذي تخصص فيه أثناء دراسته في كلية الفنون الجميلة بدمشق. فيما شارك الفنانين : علاء الأحمد وأيمن ناصر ومنير العاني، بأعمال نحتية بارزة، ساهمت في إغناء التنوع الذي برز فيه ذلك التجمع. واستطاع محمد صفوت أن يثبت مهارة فائقة في رسم المشهد الطبيعي والبورتريه، بأسلوبية حداثية ملفتة وقادرة على محاكاة الواقع بكثير من الحميمية والتماهي مع عناصره وأشكاله، دون الوقوع في التسجيلية المباشرة والمملة . فيما برزت في أعمال طلال معلا، النزعة التعبيرية التي تعتمد مفردات مكررة في عمق اللوحة، مصاحبةً للجسد الإنساني الذي شكل محوراً أساسياً، تماهى مع توليفة لونية تجمع بين المساحات الحرة الرحيبة، وبين الأشكال المجتزأة التي تعكس حالة الإنسان المعاصر من الداخل، عبر رحلة اغترابه المضنية مع الحياة.
أما أحمد معلا فقد واكبت أعماله الحداثة من أبوابها العريضة، عبر تشكيلات تجمعها تقنيات متعددة وثرية، ضمن إطار إعلاني أكاديمي، اتسم بغنى لونيّ لافت، وجرأة كبيرة في تجسيد المفردات التشكيلية بمهارة واقتدار .
الراحل موفق فرزات، تناول في أعماله تونات لونية محدودة، بموضوعات تعني قضايا الإنسان المعاصر، وضمن أسلوبية ميزت تجربته عن غيرها، بما جمعته من عناصر تدل على خصوصية التجربة ومفرداتها ودلالاتها .
أما عبد الحميد الفياض، فقد تضمنت تجربته أعمالاً منجزة بذات الروح والتكنيك الفني الذي كان يقدم اقتصاد اللون، ليميز اللوحة وفكرتها التي تناولت عناصر تتصل بالأفكار السياسية، وقضايا الحرية والمعتقلات .
أصغر الأعضاء المشاركين آنذاك في هذا التجمع الفني، كان فهد الحسن – كاتب هذه السطور – الذي قدم أعمالاً، رأى فيها النقاد، أعمالاً جريئة لاقت الكثير من الدهشة والاهتمام، على الرغم من حداثة سنّه، والتي نُفذت بتقنية وأسلوب الجرافيك، والأبيض والأسود، واللون المحدود، عبر استخدام تقنية قلم الرصاص والحبر الجاف. وكان أبرز ما يميز تجربته التشكيلية – والرأي للنقاد – ” مهاراته العالية في الرسم، والدقة في التشريح والتفاصيل. وتوظيف قدراته مع الأفكار الحداثية، التي تمس عمق الحياة وأحداثها وتداعياتها، بما كانت تشهده ميادين السياسة والفكر الانساني، الذي تضمنته أعماله، وكانت مؤثرات ذلك واضحة فيها” .
في حين أنتهج الفنان المخضرم عنايت عطار، في أعماله الزيتية منهجاً تعبيرياً اختص في تصوير عوالم المرأة، بكل حرفية واقتدار، عبر تونات لونية مشرقة ، إضافة إلى أعمال النحت البارز : ( الرولييف)
وقد شملت نشاطات هذا التجمع الفني المتميز العروض التي امتدت إلى خارج المحافظة عبر معارض فنية جماعية، جمعت كل الأساليب والمدارس الفنية. وكان الثراء فيها يشمل كل تجربةٍ مشاركةٍ، ضمن رؤى تشكيلية واعية لدور الفن، مع الحفاظ على روح الخصوصية الفردية. وكانت الخطوات اللاحقة، إقامة معرض هام لهذا التجمع في العاصمة دمشق ، أثار ضجة كبيرة سنة ١٩٧٨م ، حينما احتوته صالة الشعب للفنون الجميلة، وتناوله الإعلام السوري وقتها بكثير من الإسهاب، مسلّطاً الضوء على تجارب واعدة، تعرض لأول مرة في عاصمة الفن السوري .. راصداً ومبشراً بولادة الأسماء الجديدة في الصرح الفني التشكيلي السوري، والتي تركت أثرها الإبداعي في ذاكرة الناس، كفنانين لهم مكانتهم وقدراته،م التي تؤهلهم كي يشغلوا حيزاً لامعاً في المشهد التشكيلي السوري آنذاك .