تاج الدين الموسى الغاضب الجميل

0

نجيب كيَّالي، كاتب وقاص من إدلب مواليد 1953، مجاز لغة عربية، له العديد من المجموعات القصصية المنشورة وقصص الأطفال أيضاً.

مجلة أوراق- العدد 15

أوراق النقد

تمتد العلاقة بيني وبين الفقيد الغالي (تاج) على مساحة ربع قرن، وفَقْدهُ اليوم صعبٌ كفقد عضو من أعضاء البدن أو حاسة من الحواس، بل هو أصعب من ذلك لأنه فَقْدُ جزءٍ من الروح التي كانت تكبر بوجوده، وتتناغم معه وتتفتح على مطر صدقه وصراحته.

اخترتُ في هذا المقال أن أتحدث عن جانب من جوانب شخصيته هو: (الغضب الجميل) الذي تظهر ملامحه عند الكتابة حِدَّةً في الكلمات مغطاةً بالسخرية تارة أو دون غطاءٍ ساخرٍ تارةً أخرى، وتظهر عند الكلام احمراراً في الوجه وانفلاتاً في اللسان. نعم أحببتُ فيه ذلك الغضب، ووصفتُهُ بأنه جميل، وسببُ ذلك سيتضح من خلال الأسطر اللاحقة.

خصوصية غضبه:

لم يكن غضبه حمقاً أو طيشاً أو انفعالاً مجانياً، كان كمن يطلق الرصاص بكلماته على مَنْ ينتهك القيمَ الجميلة أو يعتدي على زرقة السماء بالتلوث أو يُدنِّس سحائبَ العطر برشَّات من الروائح الكريهة. لم يكن تاج رجلاً متديناً، لكنه أقام للمبادئ السامية معبداً في نفسه، ورشَّ من حولها البخور، وأحاطها بهالات من القداسة، ولا سيما مبادئ الحرية، والعدل، وحق العمل، ومواجهة المستبد.

الأدباء الشرفاء في كل زمان ومكان هم حرَّاسُ النقاء، وهم المعذَّبون بشرفهم واتقاد ضمائرهم، وهو واحدٌ منهم.

إضافةً إلى ما سبق علينا أن لا ننسى علاقته الطيِّبة بمدرسة الأدب الملتزم (الملتزم بالمعنى الواسع للكلمة).. حيث الإنسانُ هو موضوع الفن وقضيتُه، وأصحاب هذه المدرسة يرون كما أعلن واحد من عظمائهم هو برتولد برشت: (في زمن المآسي البشرية يصبح التغني بجمال الشجرة جريمة). ولأن مآسينا بالعشرات والمئات كان صديقنا تاج منشغلاً بها مُشهِراً قلمَهُ وسيفَ غضبه على المتسببين بوجودها، والمتعايشين معها، والصامتين عليها، والسادِّين أنوفَهم حتى لا يشموا روائحها. لم يكن يكره التغني بجمال الشجرة والزهرة، لكنه كان يقوم بترتيب الأولويات.. درءُ الخطر عن الإنسان أولاً، وبعد ذلك إمتاعه بنعمة الجمال ومباهج الطبيعة.

أسباب غضبه:

من خلال الفقرة السابقة اتضحتْ الأسباب العامة لغضبه، ولكني أحب أن أشير إلى الأسباب المباشرة الملموسة التي تفوح منها نكهة الواقع والحياة اليومية، وقد كان تاج الدين أديباً وإنساناً معجوناً بطينة الحياة الواقعية ممتلئاً بها إلى حافة روحه، فهو ابن قرية (كفر سجنة) الفقيرة في ريف إدلب، غبار الأرض وروائحُ عرق الفلاحين عشَّشا في خلاياه. أمَّا دراسته فكانت في معهد النفط، تَبِعَها العملُ في شركة (ساد كوب) في كل من حمص وإدلب حيث رائحةُ المازوت والغاز، وأصواتُ سائقي الناقلات العالية والوجوه المرسومة بقلم الشقاء والخشونة.

 في هذا الجو الحياتي كان تاج يغضب عندما يرى فلاحاً من قريته تضحك عليه جهة رسمية بأنْ تبيعه كميةً من بذار فاسد!

أو يرى شيخَ الضيعة السبعيني يصطحب إلى فِراش الزوجية صبيَّةً ألطفَ من الفَراش اسمها: (زهرة)!

أو يرى أديباً عديمَ الموهبة متصلاً بالجهات المتنفذة، فإذا بدواوينه تباع بالإكراه في محطات البنزين!

أو يرى إنساناً ضاق صدراً بجحافل الفساد، فأطلقَ آهةَ غضب أو صرخةَ قهر، فإذا به في قمقم سميكِ الجدران لا تعلم بمكانه حتى الفئران!

ولكثرة تفاعلاته واشتداد غليانه لم يكتفِ بكتابة القصة وهي الفن المميَّز الذي برع فيه، بل التفتَ إلى كتابة المقال اللاذع والزاوية الساخرة سخريةَ الفضح والهجاء والمرارة، ومَنْ يستطيع أن ينسى زاويته في جريدة النور:(رسائل لا تصل بالبريد)؟!

استمرار غضبه:

كثيرون من رفاق تاج.. من رفقة القلم أو رفقة الحزب الذي كان من أعضائه لانوا قليلاً أو كثيراً أمام الترغيب والترهيب، وبعضهم ذاق طعمَ العسل فغيَّرَ اتجاه بوصلته مئة وثمانين درجة.. حتى غدا رقَّاصاً ومُهرِّجاً وبهلواناً! لكنَّ تاج الدين الموسى ظل قابضاً على الجمر يحرس ناره بيقينه.. ظل محارباً يرفض أخْذَ استراحة أو إجازة في معركته ضد التخلف والفساد والجهل والظلم، ويعلم الله أنني زرتُه في مشفى الهلال الأحمر بإدلب قبيل وفاته بأيام حيث كان يعاني ضيقاً في التنفس بسبب استئصال إحدى رئتيه واعتلال الثانية بالربو وهمومِ الدنيا ذاتِ الوزن الثقيل، كان خرطوم الأوكسجين في أنفه وتعليمات الطبيب تقضي بعدم الكلام، غيرَ أنه بما تبقى في رئته الوحيدة من قوة كان يقول رأيه صريحاً عارياً من النفاق والمجاملة، ويُخرج ما تبقى من ألسنة براكينه الداخلية، كانت أصابعه المُصفرَّة تمتد إلى الخرطوم المذكور تزيحه عن الأنف ليهدر اللسان بضعَ لحظات يليها سعالٌ حاد وتحذيرٌ من الزوجة والأصدقاء.

صديقي الغالي (أبو اصطيف): إنني أنحني أمام غضبك الجميل، أنظر إليه كشعلة مقدَّسة فوق جبل، ولا أستطيع أن أقول: وداعاً.

* * *