ترجمة غيثاء الشعار
“إنه لغز محض، كيف تنتقل الروح إلى الكتابة وتشكل اتجاهها. إنها زيارة مقدسة لا أستطيع دعوتها متى شئت”. تشارك بيل هوكس في هذا المقال أفكارها كيف تصبح الكتابة وسيلة للوصول إلى عالم قدسي.
معرفة المسار الذي نريد أن نسلكه لا يعني أنه لن يكون شاقاً، إلا أن صعوبة الرحلة لا تعني احتمال الفشل. كتابة ونشر كتابي الأول كانت بمثابة اختبار طويل للوفاء وعملية علمتني الصبر، لم أعد خلالها تأكيد التزامي بالممارسة الروحية فقط، بل إن التفاني في هذا المسار عزز التزامي بالكتابة وقدرتي عليها.
على الرغم من أن كتابة العصر الجديد تصف الظروف التي يتلقى فيها الكُتّاب أفكارهم بأنها مبهمة، إلا أنه لم يُكتب الكثير عن العلاقة بين الكتابة والروحانية ومن النادر أن يتحدث أحد عن الارتباط المستمر بين الممارسة الروحية والكتابة. يتردد الكتّاب بالحديث عن هذا الموضوع لأن النخب الأدبية تخشى ألا تؤخذ على محمل الجد إذا ما وصفنا أن هناك “قوى غير مرئية” تشكل رؤية وبنية كتاباتنا. الكاتبات النساء كنَّ أكثر استعداداً من نظرائهنّ الرجال للتحدث عن الرؤى التي تحفز عملية التخيّل. عندما وصفت الروائية والناشطة الأميركية أليس ووكر خطوات كتابة روايتها (اللون الأرجواني) تحدثت عن صور تظهر في أحلامها، عن أصوات وعن أرواح تناديها.
قلة من الكٌتّاب الرجال يحاولون ربط أفكارهم بالممارسة الروحية، غالباً ما يستحضرون الإلهام سواء كان حقيقياً أو خيالياً للحديث عن قوى تقود الخيال وتأتي مما وراء عالم العقل البشري، نظراً لأن الإلهام الذكوري غالباً ما يتم وصفه على أنها تجسيد غامض للرغبة، عادةً ما تكون أنثى شابة جميلة (وأحياناً ذكراً)، ولطالما كانت هذه طريقة مقبولة للحديث عن “الروحانيات” والخيال الإبداعي. في الواقع كان شعراء (Beat) بأسلوبهم المتمرد الحديث المناهض للمؤسساتية من بين أوائل الكتاب المعاصرين الذين ربطوا دون خجل بين الروحانيات والعملية الإبداعية السباقة.
كان هذا الاقتران غير المعقول بالنسبة لي بين الإبداع والإلهام هو ما جذبني إلى شعراء (Beat). في عام ١٩٥٩ أخبر الشاعر والروائي الأميركي كيرواك العالم أن نبضات قلب روحانياته المتمردة قد انطلقت في الكنيسة التقليدية. شارك انطباعاته حول وجهة نظر وأَصل الـ Beat، وأعلن: “في الفترة التي كنت فيها كاثوليكياً ذهبت ذات يوم إلى (إحدى) كنائس بلدة طفولتي (سانت جان دارك) في مدينة لويل ولاية ماساشوستس دون تشجيع وحتى لا موافقة مجموعة نيكس”. ويتابع كيرواك: “فجأة والدموع تملأ عينيّ عندما سمعت الصمت المقدس في الكنيسة أتاني إيحاء بما يجب أن أعنيه حقاً بكلمة “Beat”.. رؤية لكلمة Beat لتكون شيئاً يعني الجمال والبهجة”. الحزن العميق على حبه الضائع أجبر كيرواك ليتحول إلى البوذية، وللتغلب على معاناته بدأ بقراءة حياة بوذا لأشفاغوسا.
رؤيتي لما سأكتبه كانت مستوحاة من توقي التعبير عن عالم عاطفي داخلي كان في الغالب ذاتي المرجع. بدأت مسيرتي في الكتابة معتقدة أنني سأكون شاعرة، بوهيمية، رائدة، كاتبة لأجل الفن. ركَزت جميع دروس الكتابة التي تلقيتها على الشعر، وبدأ ارتباطي بالبوذية من خلال الشعر والشعراء. ومع ذلك، كان النضال من أجل العثور على صوتي كشاعرة هو الذي قادني إلى التفكير النسوي والسياسة النسوية. وعلى الرغم من أنني واصلت كتابة الشعر بينما كنت أصلي وأتأمل في مستقبل كتابتي، إلا أنني شعرت بأنني مدعوة لكتابة كتاب عن النساء السود والنسوية. من الصعب شرح ماهية هذه الدعوة وما الذي يعنيه أن تتم دعوتك من قبل هذه القوة غير المرئية التي أسميها النعمة الإلهية.
خلال فترة النضال هذه، سمعت أصواتاً تناديني في أحلامي وتخبرني أنه من المهم بالنسبة لي أن أتحدث عن معاناة النساء السود. كانت جدتي لأمي وأمهات جداتي شخصيات أحلامي اللواتي حثتني للاستجابة لهذا النداء، وأخبرنني أنهنّ ستساعدنني في توجيه مساري. وعلى الرغم من مقاومتي في البداية إلا أنني دون إرادة مني على ما يبدو كنت أجلس على مكتبي وأجد نفسي أكتب فقط ما تخبرني الأصوات أن أكتب عنه.
هل يمكن أن تتخيلوا الضيق الذي شعرت به عندما استجبت لنداء هذه الأصوات وألزمت نفسي بكتابة ما تمليه عليّ، عندما اكتشفت أن الكتابة سخرت مني ولم يرغب أحد في نشر ما كتبت. كنت محتارة لأنني اعتقدت بسذاجة أن الاستجابة لنداء القوى غير المرئية سيعمل بطريقة ما، مثل السحر، لضمان نجاح كتابتي. واجهت حقيقة أننا قد نكتشف صحة رؤانا ودعواتها قبل أن يكتشفها الآخرون. أتمنى أن أعترف بأن إيماني برؤاي كان عظيماً لدرجة أنني لم أشعر باليأس، لكنني في الواقع فعلت.
بقلب مثقل أخذت مخطوطي الأول هذا وخبأته في الخزانة، وأخرجته مرة أخرى عندما سلمت بشكل كامل أن إكمال الكتاب هو طريقي إلى الإنجاز، وما إذا كان سيتم نشره أم لا فهذا موضوع آخر.
الصدفة المحضة التي وجد بها كتابي الأول ناشروه بدت وكأنها تؤكد وجود أرواح غير مرئية. كنت قد التقيت بصديقة جديدة وفيما كانت تنتظر على الطاولات في مقهى المتحف أخبرتها أنني كنت أعمل على هذا الكتاب، وعندما قضينا بعض الوقت معاً شاركت معها ما يدور حوله. كانت هذه الصديقة هي التي اتصلت بي لاحقاً لتخبرني إنها شاهدت إعلاناً صغيراً في إحدى الصحف يدعو إلى نشر مخطوطات عن العرق والنسوية. تم نشر هذا الإعلان بواسطة South End Press، الناشر الذي سينشر كتابي هذا والكثير غيره.
خلال عملي على الربط بين التنشئة المسيحية المتشددة والفكر البوذي اتبعت المسار الذي ساعد كيرواك في تشكيله. لقد واصل عمله من خلال التقريب بين هذين المسارين الروحيين في أواخر الستينيات، الكتابة البوذية إلى جانب المسيحية. يذكر كيرواك القراء انطلاقاً من افتراض أن “الكلمات تأتي من الروح المقدسة” أن “موتسارت وبليك لم يشعرا غالباً أنهما يكتبان بأقلامهما “لقد كان (الإلهام) يدفع ويغني”.
عندما أجلس لأكتب لا أتخيل أن قلمي يسترشد بأي شيء آخر غير قوة إرادتي وخيالي وفكري. إنه لغز محض، كيف تنتقل الروح إلى الكتابة وتشكل اتجاهها. إنها زيارة مقدسة لا أستطيع دعوتها متى شئت ولا يسعني إلا أن آمل أن تأتي. يرتكز هذا الأمل على تجربتي الخاصة في تلك اللحظات التي أجمع فيها الكلمات وخيالي معاً وأشعر أنها تتأثر بوجود الروح الإلهية فتتحول إلى كتابات.
في مثل هذه اللحظات أشعر أن النعمة مستني، يلهم وجود الأرواح كتاباتي فيجعلها أفضل ما يمكن أن تكون عليه. عندما أكمل هذا العمل أشعر بالبهجة والنشوة الشديدة. ليست كل كتاباتي مستوحاة إلهياً، فالفارق ملموس. يشهد العديد من الكتاب الذين شعروا بأن الأرواح غير المرئية تهديهم أن الكتابة تتدفق بسهولة، لكننا نتعب من كلماتنا في كثير من الأحيان.
فيما يتعلق بالموضوعات التي أكتب عنها، فـإن كتاباتي تستنير من خلال الممارسة الروحية أكثر من أي شيء آخر. لم أكتب كتاباً آخر بعد كتابي الأول دون قضاء وقت طويل في الصلاة والتأمل في محتوى العمل وتوجهاته. ونظراً لأنه لدي دائماً العديد من الأفكار فأنا أعتمد على التصور المقدس ليرشدني إلى توقيت العمل. إن اعتمادي على الإرشاد الروحي مرتبط برغبتي في أن تلمس كتابتي قلوب القراء وتتحدث إلى أعماق كيانهم.
الكثير من أعمالي كُتبت لخلق طريق للشفاء، للكلمات قدرة على مداواة الجروح. من ذاك المكان الغامض المقدس كله، حيث تأتي الكلمات أولاً لتكون “جسداً” مُنحتُ النعمة للعمل بالكلمات، بروح العيش الصحيح الذي يدعوني إلى السلام والتفكير والترابط مع مجتمعات القراء الذين قد لا أعرفهم أو أراهم أبداً. تصبح الكتابة إذن طريقة لاحتضان الغامض والدخول إلى العالم القدسي والسير مع الأرواح.
بيل هوكس هي كاتبة وأكاديمية ومفكرة وناقدة وفنانة نسوية، ألفت العديد من الكتب النقدية والسير الذاتية إضافة إلى مجمعات شعرية وكتب للأطفال. تتناول كتبها مواضيع مثل النوع الاجتماعي (الجندرة ومواضيع العرق) والطبقة والروحانية والتدريس وتأثير الإعلام في الثقافة المعاصرة.
حركة أدبية بدأتها في خمسينيات القرن الماضي مجموعة من المؤلفين الذين استكشفت أعمالهم الثقافة والسياسة الأمريكية وأثرت عليها في حقبة ما بعد الحرب. تعتبر رفض القيم السردية القياسية، والسعي الروحي، واستكشاف الأديان الأمريكية والشرقية، ورفض المادية الاقتصادية، والتصوير الواضح للحالة الإنسانية من العناصر الأساسية في ثقافتهم Poetryfoundation.
وصف Beatnik بأنهم من أوائل الهيبسترز، يمكن وصفهم بالمتمردين المثقفين المعجبين بالفلسفة الوجودية The Ultimate Fashion History.
*ليفانت