بكر صدقي: شرارة الربيع العربي

0

على رغم كثرة المواد الصحافية التي تناولت الموضوع، يبقى مفيداً قراءة حصيلة عشر سنوات من ثورات الشعوب من زوايا نظر مختلفة، فحدث بهذا الحجم يحتمل الكثير من القراءات الإضافية. ولا ينقص من أهمية ذلك انشغال العالم بجائحة فيروس كورونا وبدء استخدام اللقاحات المضادة مع بداية موجة ثانية من الجائحة، أو انتظاره لانتقال السلطة في واشنطن بعد أربع سنوات من «حال الطوارئ» الترامبية العالمية، أو فوضى النظام الدولي الذي يؤمل تخطيه نحو عالم أقل مخاطر.
إذا نظرنا اليوم إلى حال البلدان العربية التي شهدت ثورات شعبية، سنرى أنها ـ باستثناء تونس ـ في وضع مرعب، بمئات آلاف القتلى ودمار البنية العمرانية والاقتصادية، وانهيار الدولة وتفكك المجتمع وملايين المهجرين واللاجئين، وحروب لم تنطفئ، واحتلالات أجنبية، إضافة إلى فيضان جزئي لهذا الخراب باتجاه دول مجاورة وأخرى معنية بالصراعات المستمرة في «بلدان الربيع».
القوى الرجعية التي ارتعبت من يقظة الشعوب خشية انتقال شرارة الثورة إلى بلدانها دأبت على استخدام هذا الخراب كأمثولة للردع بدعوى أن ثورات الشعوب هي التي أدت إليه، في حين أن القوى الثورية حملت مسؤولية الحصائل المأساوية لأنظمة متوحشة مستعدة لتدمير البلدان التي تحكمها كي لا تتخلى عن السلطة، وللمجتمع الدولي الذي لم يتدخل، أو تدخل بما يعاكس تطلعاتها.
لا يتساوى الطرفان كما لو كانا مجرد تعبيرين عن رؤيتين مختلفتين، فالأوضاع العامة للمجتمعات المحكومة من قبل طغم سلطوية فاسدة وفاشلة وقاتلة، لم تكن بخير، وقد قدمت التقارير الدورية لمؤشرات التنمية البشرية في البلدان العربية، منذ أكثر من عقد قبل اندلاع الثورات، صورة قاتمة لمستقبل تلك البلدان، تجاهلتها الطغم الحاكمة بدلاً من التعامل معها كإنذار يستوجب منها البدء بإصلاحات عميقة وشاملة إذا أرادت الاستمرار في الحكم.
وقدم الروائي المصري الراحل صورة فانتازية مرعبة لأوضاع مصر في رواية «يوتوبيا» التي صدرت في العام 2008. صورت الرواية انقسام المجتمع المصري بصورة حادة بين الحكام والمحكومين، في مجاز حوّله إلى انفصال تام في المكان بين مدينة الحكام الغارقة في الترف والفجور، المحتمية بجيش من المرتزقة الأجانب، ومدينة للمحكومين الذين يعيشون حياة لا تليق حتى بالحيوانات. وإذ يعاني سكان المدينة الأولى من الضجر ينظمون رحلات صيد إلى المدينة الثانية يختطفون فيها أحد سكانها من تعيسي الحظ، ويقتادونه إلى مدينتهم للتنكيل به كنوع من أنواع اللهو الذي يكسر رتابة أيامهم المكرورة المملة.

لم يكن واقع البلدان العربية «السعيدة» باستقرارها الزائف بعيداً عن هذه الفانتازيا الأدبية، بل كان تكراراً لها بأشكال مختلفة باختلاف البلدان. وبغياب مخارج عقلانية تبادر إليها السلطات الحاكمة الممسكة بكل مفاصل الحياة، لم يبق غير التمرد الشعبي أو الحرب الأهلية بين عالمي الحكام والمحكومين، وهو ما حدث بعد سنتين فقط من نشر رواية توفيق، حين أحرق التونسي محمد بوعزيزي نفسه على الملأ احتجاجاً على انتهاك كرامته.
لم يتسن لبوعزيزي أن يرى أن ما قام به كان الشرارة التي أشعلت ناراً كبيرة في العفن المتراكم منذ عقود. عفوية عمل بوعزيزي ستطبع ثورات الشعوب التي ملأت الساحات والشوارع في المدن العربية، فتتحول سريعاً إلى حروب أهلية مدمرة بلا أفق. فلا سكان اليوتوبيا يتخلون عن الحكم لمصلحة البلد، ولا سكان الديستوبيا يقبلون بالعودة إلى بيت الطاعة بعدما تذوقوا طعم الحرية وشعروا بقوتهم.
لم تكن الحرب صافية، بالطبع، بين الحكام والمحكومين، بل تدخلت كل القوى الرجعية لوأد الثورات، ونجحت في ذلك إلى حد ما. فقد نجحت في تعميم الدمار أكثر مما نجحت في وأد الثورات. ذلك لأن الموجة الثانية من ثورات الشعوب لم تتأخر في الاندلاع في الجزائر ولبنان والعراق والسودان، وهو ما يعني فشل القوى الرجعية في وأد الثورات الشعبية. صحيح أنه لا ثورات الموجة الأولى، ولا الثانية، قد حققت أهدافها، لكن طريق الثورة على حكام استعماريين قد انفتح ولا يمكن إغلاقه إلا بتغيير عميق يلبي تطلعات الشعوب الثائرة. في حين أن الحكام الاستعماريين لم يفعلوا شيئاً، طوال السنوات العشر المنصرمة، بخصوص تغيير الأوضاع العامة التي أدت إلى الانفجار الاجتماعي الكبير.
وسيبقى احتمال اندلاع ثورات جديدة قائماً ما لم يتم التغيير المنشود. غير أن تغييرات كبيرة حدثت بالمقابل في التوازنات الإقليمية التي كانت قائمة قبل عشر سنوات، أبرزها تطبيع علاقات عدد من الدول العربية مع إسرائيل على طريق التحالف معها ضد الخطرين الإيراني والإسلامي، أو الإسلاموية الشيعية والسنية، بعد انسحاب الولايات المتحدة التدريجي من مشكلات المنطقة. وهذا ليس بالأمر المفاجئ، فالحكام الاستعماريون جاهزون دائماً لتقديم تنازلات لدول أقوى منها مقابل مبدئية صارمة في عدم تقديم أي تنازل لـ«السكان الأصليين».
القوى المتحكمة بالنظام الدولي لا يمكنها أن تبقى متفرجة على هذه الفوضى العارمة في إقليمنا، وفي العلاقات الدولية عموماً. سيكون هناك يالطا ما لتوزيع حصص النفوذ والسيطرة بين الأقوياء. وهو ما لا يمكن إرساؤه بالطريقة التي تفعل فيها روسيا في سوريا. سيحتاج الاستقرار العزيز على قلوب القوى الدولية المسيطرة إلى تغييرات داخلية في بلدان الإقليم لا يمكن التكهن بتفاصيلها، وربما لا نعرف تلك القوى نفسها كيف سيكون شكل الحكم في دول اقليمنا. فهذا مرتبط بنوع ومحتوى الصفقات متعددة الأطراف والموضوعات التي ستعيد تشكيل الإقليم.

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here