يتم تداول بيان يحمل توقيعات أكثر من 700 شخص يرفضون فيه ما يعتقدون أنه تفرد طرف بتقرير مصير سوريا، بالإشارة إلى ما تداولته بعض وسائل الإعلام عن «حوار كردي ـ كردي» بإشراف وتشجيع أمريكي وفرنسي موضوعه مستقبل منطقة الجزيرة السورية الواقعة تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية». والطرفان الكرديان المقصودان هما حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي، وأولهما ينتمي إلى المنظومة الإقليمية لحزب العمال الكردستاني (في تركيا) وله جناح عسكري هو «وحدات حماية الشعب» المنضوية، مع مجموعات مسلحة أخرى غير كردية أقل وزناً، تحت مظلة «قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها مظلوم عبدي، أما الثاني فهو تجمع يضم عدداً من الأحزاب الكردية السورية المقربة من قيادة إقليم كردستان.
جدير بالذكر أن طرفي الحوار هذين يتقاسمان النفوذ الشعبي بين كرد سوريا، وسبق لهما الانخراط في جولات حوار كان الهدف منها توحيد المرجعية الكردية في سوريا، لكنها فشلت، في كل مرة، بسبب اختلال توازن القوى بينهما لمصلحة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي كان لديه، منذ البداية، جناح مسلح قوي ضم، إضافة إلى أعضاء من الحزب، شباناً تم تجنيدهم قسراً من قبل سلطة الأمر الواقع، ليشكلوا ما يشبه جيشاً نظامياً صغيراً كان كافياً للسيطرة على الأرض وخوض معارك كبيرة ضد تنظيم الدولة (داعش) بدعم من القوات والمستشارين الأمريكيين. يمكن القول إن رغبة «الاتحاد الديمقراطي» في التفرد بالسلطة حيثما بسطت قواته المسلحة سيطرتها الميدانية، هي سبب إفشال جولات الحوار السابقة التي كانت برعاية مسعود بارزاني الرئيس السابق لإقليم كردستان. فكان «الاتحاديون» يوافقون، في كل مرة، على بنود توافقية مع المجلس الوطني، ثم يعودون إلى مألوف تفردهم بالسلطة، وصولاً إلى اعتقال بعض قادة أحزاب كردية، من المفترض أنها متوافقة، أو نفيها إلى إقليم كردستان، وإغلاق مقراتها ومنع توزيع صحفها وبياناتها.
الجديد المختلف في الجولة الحالية من المفاوضات هي أنها برعاية أمريكية وفرنسية، وهذا مما يمنحها فرصاً أكبر في التزام طرفي الحوار بما يمكن أن يتوافقا عليه. ليس فقط لأنهما قوتان عظميان في التوازنات الدولية، ولهما وزن لا يمكن تجاهله إذا أريد البحث في مصير سوريا، وهذان اعتباران كافيان بذاتهما، ولكن أيضاً لأنهما محايدان بين الطرفين المتحاورين، وإن كانت الولايات المتحدة أقرب، عملياً، للاتحاد الديمقراطي من منظور الحرب على داعش. وهذا ما قد يمنح الحوار نقاطاً إضافية من الأمل في الوصول إلى نتائج إيجابية، لأنه إذا كان الراعي حليفاً للطرف الأقوى القادر على إفشال أي توافق، فهو قادر على الضغط على حليفه الصغير الذي يعتمد عليه بقوة في التسليح والمساعدات المالية والحماية من الأخطار المحتملة.
الحوار يجري على جولات، بدأت منذ شهر نيسان الفائت، وما زال مستمراً بفواصل زمنية وفي قواعد عسكرية أمريكية وأخرى للتحالف الدولي، وبإشراف دبلوماسيين من الدرجة الثانية من الولايات المتحدة وفرنسا، بعيداً عن وسائل الإعلام. لكن هذه السرية لم تمنع بعض تسريبات قد تكون مقصودة لتهيئة الرأي العام أو مراقبة ردود الفعل المختلفة، مما يمنح الرعاة والمتحاورين فرصة لإجراء تعديلات على تصوراتهما تأخذ بعين الاعتبار تلك الأصداء.
تحدث أحد تلك التسريبات عن أن الطرفين المتحاورين اتفقا على أن «سوريا دولة ذات سيادة يكون نظام حكمها اتحاديا فيدراليا يضمن حقوق جميع المكونات» واعتبار الكرد «قومية ذات وحدة جغرافية سياسية متكاملة في حل قضيتهم القومية» ويطالب الطرفان بـ»الإقرار الدستوري بالحقوق القومية المشروعة (للكرد) وفق العهود والمواثيق الدولية» و«تشكيل مرجعية كردية تمثل جميع الأحزاب والتيارات السياسية وممثلي المجتمع الكردي بسوريا».
أما الخلافات بين الطرفين المتحاورين فهي، وفقاً للتسريب نفسه، رفض «المجلس الوطني الكردي» لتبعية حزب لاتحاد الديمقراطي لحزب العمال الكردستاني، مقابل رفض الاتحاد الديمقراطي لتبعية أحزاب المجلس لتركيا من خلال عضويتها في الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة الذي يتخذ من إسطنبول مقراً دائماً له، ويوافق على السياسات التركية بخصوص سوريا بلا أي هامش استقلالي. الادعاءان صحيحان، لكن المطالبة المتبادلة بشأنهما هي من نوع الحق الذي يراد به باطل. فالمجلس يعرف أن حزب الاتحاد لا يمكن أن يفك أواصر علاقته بالعمال الكردستاني بهذه البساطة، وحزب الاتحاد يعرف بدوره أن أحزاب المجلس الوطني لا تستطيع فك ارتباطها بتركيا بلا كلفة باهظة. فإذا سلمت نوايا الطرفين في الوصول إلى توافقات، سيكون بإمكانهما التغاضي عن هذين المطلبين. لكن الخلاف الأكثر جدية إنما هو في تصور الطرفين لمستقبل «الإدارة الذاتية» في المنطقة. فحزب الاتحاد يتمسك بتلك الإدارة التي يهيمن عليها كما هي بلا أي تعديل، في حين يطالب «المجلس» بإعادة هيكلة تلك الإدارة بما يتيح لها تمثيلاً أكثر ديمقراطية لجميع التيارات السياسية والمكونات المجتمعية المحلية. كذلك هناك خلاف حول السيطرة الميدانية التي يحتكرها «الاتحاديون» وحلفاؤهم من خلال «قوات سوريا الديمقراطية» التي تشكل وحدات حماية الشعب الوزن الراجح فيها، في حين يطالب «المجلسيون» بإدخال قوات «بيشمركة روجافا» المقربة من أحزابهم والموجودة في إقليم كردستان تحت رعاية سلطة الإقليم.
لا أحد يعرف الآن ما هي نوايا الأمريكيين والفرنسيين من وراء التشجيع على هذا الحوار الكردي ـ الكردي، هل هي اقتطاع ذلك الجزء من سوريا من سائر أراضيها وإنشاء كيان مستقل أو شبه مستقل يمنع فرض أي حل سياسي تتفرد روسيا بفرضه بدون موافقة الأمريكيين والفرنسيين، أم أن هدفهما هو إقامة كيان كردي شبه مستقل على غرار إقليم كردستان الفيدرالي شمال العراق وفرضه على السلطة المركزية بصرف النظر عمن يشغلها، أم فرض وفد كردي موحد على مفاوضات سورية ـ سورية في إطار مسار جنيف مستعاد بعد فشل مسار آستانة الروسي؟ أم أن الأمر يتوقف على مجريات الحوار الكردي – الكردي ونتائجه المحتملة، بدون أي أهداف مسبقة جاهزة؟
على أي حال، يبقى أن الهجوم على الحوار المذكور بصورة مسبقة دون انتظار نتائجه، ليس من الحصافة في شيء، على الأقل بالنظر إلى حال سوريا المفككة أرضاً وبشراً بين احتلالات عسكرية صريحة وتدخلات دول عديدة وولاءات مختلفة لدى الجماعات. أضف إلى ذلك غياب أي أفق لحل سياسي قريب. فلا بأس من أن يحاول بعض الأطراف السياسة، لعلها تغير شيئاً ما في هذا الخراب.
*المصدر: القدس العربي