بميتة تليق به قتل الخليفة أبو بكر البغدادي نفسه، بعدما حشر في النفق، وجنود القوات الخاصة الأمريكية تطارده، إذ لم تعد النجاة ممكنة، ففضل الانتحار على القتل أو الأسر الذي سيكون أشد قسوة عليه من الموت.
ليس مصرع البغدادي تحصيل حاصل، بعدما فرط عقد دولته، بل من شأنه إضعاف وهج وجاذبية الجهاد العدمي ضد العالم، بما يفوق ما مثله مقتل أسامة بن لادن، أو أبو مصعب الزرقاوي، قبله بسنوات. فجهادية البغدادي اكتسبت أرضاً أقامت عليها دولة دامت أربع سنوات، فتسنى لها أن تمارس الحكم والحرب، الانتصارات والهزائم، إضافة إلى اجتذابها لمتطوعين من أربع جهات الأرض، وأسست بناها البيروقراطية، وفرضت قيمها ومدونة سلوكها على السكان المحكومين، فخرجت من كونها مجرد استعادة لماضٍ متخيل، لتتحول إلى دولة حديثة بكل مقوماتها، باستثناء الاعتراف الأممي بها كعضو في «المجتمع الدولي». وما كانت تسعى أصلاً وراء اعتراف مماثل، بل سعت، بدأب، إلى الاعتراف بوحشيتها واستثنائيتها. بهذا المعنى كانت دولة البغدادي دولة ضد الدولة، أو لا ـ دولة، أو الثورة الدائمة، أو الفوضى جميعاً.
ونجح البغدادي وتنظيمه ودولته في إعادة رسم خريطة المنطقة، باقتطاعهم قسمين متصلين من الأراضي العراقية والسورية، وفي الحث على تشكيل تحالف دولي ضم أكثر من ستين دولة لمحاربة دولتهم التي تمكنت من الصمود أربع سنوات ونيّف، ثم قضت الدولة وبقي التنظيم ورأسه، إلى حين مقتله أخيراً. كما نجحت «الدولة» في تغيير أولويات دول إقليمية وأخرى قوية على مستوى كوني، فاحتلت صدارة اهتماماتها، كاسرةً، إلى حين، مسارات ثورات الشعوب المختلفة تمام الاختلاف عن الثورة الجهادية.
كان من سوء «حظ» ثورات الربيع العربي أن تأسيس دولة الخلافة تزامنت معها. وضعنا الحظ بين قوسين للإشارة إلى أن هذا التزامن لم يكن مصادفةً مشؤومة، بل أشبه بالمصير القدري، باعتبار أن الخراب الناجم عن طريقة مواجهة أنظمة الماضي لثورات الربيع العربي قد شكّل البيئة المثالية لاجتذاب مجاهدي «إدارة التوحش» كاجتذاب الفراغ الهواء. لا يتوقع أحد أن يؤدي مصرع البغدادي إلى اضمحلال مباشر وفوري لتنظيم «الدولة» الذي عرف إعلامياً باسم «داعش»، والأحرى إلى نهاية التيار الجهادي الذي سيبقى يتغذى على وقائع اللاعدالة وتجبر الأقوياء وفساد السياسة وانعدام آفاق التغيير. ربما يضعف «داعش» إلى حد كبير، في الفترة المقبلة، ويفقد وهجه الجذاب في عيون أولئك الجهاديين الناقمين على مجتمعاتهم في الدول القريبة والبعيدة، لكن التيار الجهادي سيكون قادراً على ابتكار أطر جديدة ووسائل جديدة تواظب على إقلاق راحة العالم.
أما «الحرب على الإرهاب» كما يمارسها «المجتمع الدولي» فهي قد تزيد من صعوبات الجهاديين في الحركة والتمويل والإعلام، لكنها ليست مرشحة للقضاء عليهم، بل من شأنها فقط مزيد من التضييق على الحريات الفردية والعامة داخل مجتمعات الدول المحاربة للإرهاب (وهذا من سلة أهداف الجهاديين أنفسهم) وتصعيد العسكرة والعدوانية في العلاقات الدولية، وإهدار المزيد من الموارد على هذا وذاك، بدلاً من إنفاقها العقلاني على الأسباب الحقيقية التي يتغذى عليها الإرهاب.
فتلك الأسباب هي نفسها، غالباً، التي أدت إلى اندلاع ثورات الشعوب. وإذا كان صعود «داعش»، والتيار الجهادي بصورة أعم، قد نجح في قطع سلسلة ثورات الربيع العربي، فها هي تعود مجدداً، بعد سقوط دولة البغدادي، من الجزائر إلى السودان إلى العراق ولبنان. ثورات متجددة على فساد الحكم وانحطاطه، وما ينتج عن ذلك من خراب عام لا علاج له إلا بتغيير كبير يشمل كل شيء. ولا يقتصر الأمر على المنطقة العربية، فهناك ثورات شعبية متشابهة في دول عدة (هونغ كونغ، بوليفيا، الشيلي، فرنسا..)، يجمع بينها نزول كتل شعبية كبيرة إلى الساحات والشوارع، لا تطالب بمطالب إصلاحية محددة، بل تستهدف النظام أو «السيستم» ككل، بحثاً عن العدالة والكرامة والحرية، وغالباً ما لا تكون لها قيادة واضحة.
فيلم «الجوكر» للمخرج تود فيليبس لامس هذه الأحوال بطريقته، فقدم شخصية تسحقها الشروط المحيطة بها، وهي شروط عامة أي سياسية في نهاية المطاف، فتدفعه إلى يأس مطلق حوّله إلى إرهابي. لكن الإرهابي هذا هو، في الوقت نفسه، بطل شعبي أشعل نار الغضب في الجمهور. لذلك اتخذت السلطات الأمنية في الولايات المتحدة إجراءات مشددة حول صالات العرض التي عرض فيها الفيلم، احتساباً لتأثيره المباشر على الجمهور. الحساسيات الغربية لا تسمح بتصور ثورات شعبية على طريقة ثورات عالمنا الثالث، بل تربطها بالإرهاب الفردي والعدمية. هكذا كانت ثورة «فانديتا» وهكذا هي ثورة «الجوكر». أما عندنا فهي تظهر في مسارين مختلفين ومستقلين، كلاهما لا يعبأ بدور مميز للفرد، هما الثورات الشعبية السلمية وثورات الجهاديين.
*المصدر: القدس العربي