مع بداية العام 2020، يبدأ أيضاً عقد جديد في القرن الواحد والعشرين. حسابياً يبدأ العقد الثالث مع بداية العام القادم، لكن العادات اللغوية تدفعنا للقول إننا في بداية عقد العشرينيات، الأمر الذي جعل بداية هذا العام مناسبة لإجراء جردة حساب بشأن العقد الذي انتهى، والتطلع إلى ما قد يحمله العقد الجديد من احتمالات. وهكذا نجد أنفسنا أمام العام 2010 الذي أحرق التونسي محمد بو عزيزي نفسه في أواخره، مطلقاً بذلك ما عرف بثورات «الربيع العربي» وشملت عدداً من البلدان العربية، كأبرز حدث، في الإطار الإقليمي، في العقد الذي انتهى. أما سائر سنوات عقد «العشرات» هذا فقد شهدت تحول عدد من تلك الثورات إلى حروب داخلية دموية، كحال سوريا وليبيا واليمن، وعودة الدكتاتورية إلى مصر، بعد أقل من عامين على سقوط نظام مبارك، فيما يشير إلى تشبث الماضي بخناق المستقبل ومعاندته للتغيير الذي لا مفر منه، بكلفة باهظة جداً، بشرية وعمرانية واجتماعية واقتصادية.
الواقع أنه يمكن تلخيص هذه الوضعية السيالة بنضوج عوامل التغيير إلى درجة لم يعد فيها الوضع السابق قابلاً للحياة، لكنه يقاوم الرحيل بشراسة. ولعل في نية الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة الترشح لعهدة رئاسية خامسة، وهو على كرسي متحرك، فاقداً القدرة على النطق ووظائف حيوية أخرى، قبل أن تطيح به انتفاضة الجزائريين السلمية، في ربيع 2019، صورة رمزية عن انتهاء صلاحية طغم سلطوية تشبثت بالسلطة طوال عقود، من غير أن تقدم للبلدان التي حكمتها أي إنجاز يبرر بقاءها.
كان من الملامح البارزة لثورات «الربيع العربي» دور الوسائل التكنولوجية الحديثة في حشد الناس وتنظيم تحركاتهم ضد الأنظمة القائمة، فقيل إنها «ثورات فيسبوك وتويتر وواتس آب». صحيح أن ذلك لم يكن السبب ولا الوسيلة الحاسمين ولا السمة الرئيسية، لكن في استخدام ثمار التكنولوجيا المذكورة إشارة إلى تطور في غاية الأهمية من المحتمل أن يشكل العنوان الأبرز للعقود القليلة القادمة، في ثورة ستشمل آثارها أسس الاقتصاد والاجتماع البشري والمعرفة وطرق التفكير جميعاً. وسيدفعنا ذلك إلى مراجعة شاملة لما نشأنا عليه من أفكار ونظريات.
لنتخيل عالماً تتحرك فيه السيارات بلا سائقين، ويقرأ الناس الصحف والكتب ومختلف أنواع المنشورات من خلال شاشة الكمبيوتر وشبكة الانترنت، وتنتفي فيه الحاجة إلى العيادات الطبية والأطباء والبائعين في المراكز التجارية. وهذه الأمثلة القليلة ليست من وحي الخيال، بل يجري العمل على تطويرها منذ سنوات، ودخلت إلى حيز التطبيق في السنوات القليلة الماضية. نلاحظ مثلاً زيادة الاعتماد على الطائرات المسيرة في الحروب، سواء في مهمات استطلاعية أو قتالية، بحيث أصبح بمقدور الدول القادرة على تمويل صناعتها أو اقتنائها خوض الحروب عن بعد بلا أي كلفة بشرية، باستثناء الرد بالمثل الذي يتوقف مفعوله على مدى تطوير وسائل دفاعية لمواجهة هذا النوع من الأسلحة.
ويزداد الاعتماد على «العالم الافتراضي» سواء في التجارة أو الإعلان أو تداول الأفكار والأخبار أو التعليم، مع ما يحمله هذا التطور، في الوقت نفسه، من مخاطر ضياع الحقيقة أو موتها. وفي مجال الاقتصاد نرى الآن أن أكبر الشركات التجارية في الاقتصاد العالمي، بحجم رأسمالها أو أرباحها أو معاملاتها، هي شركات عالم التكنولوجيا الحديثة كشركات غوغل ومايكروسوفت وأمازون وهواوي التي يشمل مجال استثماراتها أعمالاً متنوعة كانت في السابق في أيدي شركات تستخدم تكنولوجيات تقليدية.
وبقدر ما تحمل هذه الثورة في التكنولوجيات الحديثة من آمال بإعفاء البشر من الأعمال العضلية باطراد، بقدر ما تنطوي أيضاً على مخاطر تفوق في درجتها كل مخاطر التطور التكنولوجي التقليدي في العصور السابقة. الحقيقة في خطر، لأن كل إنسان بات قادراً على ترويج أكاذيب عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تكون مؤثرة ومؤذية. ثم هناك خطر اتساع نطاق البطالة والفقر مع انتقال متزايد للعمل البشري إلى الروبوتات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وما يوازي ذلك لدى الطبقات الثرية من ملل وفقدان القدرة على الاستمتاع بالحياة. ولعل الخطر الأكبر الذي يحذر منه كثير من المفكرين هو زيادة التحكم بالفرد من خلال امتلاك الشركات العملاقة لبيانات (داتا) تسمح بمراقبة الأفراد والتحكم بسلوكهم وأذواقهم وتفضيلاتهم وأفكارهم، أكثر من أي وقت مضى. الصحافة الورقية انتهى عمرها الافتراضي في كل مكان، والميل الغالب هو الانتقال إلى الصحافة الإلكترونية.
كل هذا يحدث وتصل نتائجه وآثاره الإيجابية والسلبية إلى كل أنحاء العالم، مع بقاء الهوة واتساعها بين الدول الأغنى والهامش. بل إن الشركات العملاقة أصبحت أقوى من الدول وهي المرشحة للتحكم بالبشر بأكثر مما فعلت الدول الشمولية التي انتهى أجلها منذ سقوط منظومة الدول الاشتراكية.
لا يقتصر التفارق المفجع بين آفاق التطور التكنولوجي الواعدة والستاتيكو السياسي الذي يعيش في الوقت الضائع على بلداننا المتخلفة، بل يشمل كذلك الدول الأكثر تطوراً والأكثر ثروة التي تشهد صعود التيارات الشعبوية اليمينية ونزعات الانغلاق على الذات ومعاداة الأجانب والمهاجرين واللاجئين. كما لو كان العالم كله في أزمة عميقة تعتمل بأشكال مختلفة في مختلف البلدان. بالمقابل تتصاعد موجات الاحتجاج الشعبي المحلية ضد سلطات عاجزة عن تأمين شرعية لاستمرارها، ولا تعد بأي إنجازات تبرر بقاءها في الحكم، بل تتعيش فقط على بث المخاوف والتحذير من مخاطر حقيقية أو زائفة، كالتخويف من الإرهاب وتدفق اللاجئين وتحميل المشكلات الحقيقية لفئات مستضعفة تشكل الضحية المثالية كحال اللاجئين والمسلمين والملونين.
وتفتقد الحركات الاجتماعية الجديدة، عموماً، إلى مراكز قيادية وأفكار أيديولوجية قادرة على الحشد، على ما كانت عليه حال الحركات الاجتماعية القديمة، مما يدخلها في طريق مسدود أمام تصلب الطغم الحاكمة وتمسكها المرضي بالسلطة والثروة.
بدأ عقد العشرات بثورات «الربيع العربي» التي سرعان ما انتكست إلى حروب داخلية، وانتهى بموجة ثانية منها تبشر بآفاق جديدة قد تنتشل مجتمعات بلداننا من هذه الدوامة القاتلة.
المصدر: القدس العربي