سوسن جميل حسن
طبيبة وروائية سورية
مجلة أوراق العدد 12
الملف
“إنّ فشل الثورات سيخلق وضعاً جديداً، سيشعل شرارة صيرورة ثورية من جديد”. هذا ما قال جيل دولوز، إنها حركة التاريخ ومنطق الحركة، لا توجد لحظة تشبه التي قبلها أو التي بعدها، لكن في الوقت نفسه لا يمكن فصلها عما قبلها وعمّا سيحصل بعدها، إنها جزء من السياق.
من حيث المبدأ أخمّن أن ليس من الطبيعي فصل ما قبل الثورة عمّا بعدها، أو عمّا آلت إليه الأمور، هو عقد من الزمان، أو سنوات عشر من الحرب والدمار والتهجير والفقر والجوع والانهيارات على مستويات عدة من مجتمع ودولة وفرد، صحيح. لكن هذه السنوات صدّعت كل شيء، عرّت الواقع وكشفت كل ما هو مخبوء تحت قشرته، وليس كل ما هو مخبوء سيئاً ومعيقاً، بل بقدر جحيم هذا الواقع وبقدر الصدمة التي أحدثها اكتشاف الهشاشة وسرعة تهتك النسيج المجتمعي، هناك أيضاً الكثير من المسكوت عنه صار تحت الأضواء الكاشفة، من قضايا اجتماعية ودينية وسياسية وثقافية وغيرها، نلمسها عند جيل جديد من الشباب بما يقدمون من منجز على أصعدة كثيرة، يضعنا، نحن الجيل السابق أو جيل الآباء أمام تجاربنا وجهاً لوجه، أو أمام مرايا كاشفة، هذه الحالة كان لا بد من مواجهتها، برغم كل ما قدّم البعض سابقاً من تضحيات في سبيل القضايا التي آمنوا، ويصبح السؤال عن مسؤولية النخب قبل الانتفاضة مشروعاً بل وضروريّاً. هل ما قدّمته تلك النخب من تضحياتٍ جسيمةٍ ذهب أدراج الرياح، ولم يكن أكثر من سحابة صيف؟ قبل العام 2011، تعامل النظام بوحشية مع أي تهديداتٍ طاولته، سُجن معارضوه أو اغتيلوا، أو انتحروا “بأكثر من رصاصة”، أو تم التعامل معهم بوسائل قمعية أخرى، وما زال كثيرون منهم على قيد الحياة يروون قصصهم ومسيراتهم النضالية المعمّدة بالشوك والألم والقهر. ومع هذا لم يستطيعوا، على الرغم من صدقهم وحقيقية نضالاتهم، أن يزرعوا بذور الوعي، ويؤسّسوا قواعد جماهيرية واسعة وقوية وتعرف طريقها.
هل كان من المحتم أن تتحوّل الثورة إلى حرب؟ سؤال آخر يفرضه منطق النقد الذاتي الذي أكثر ما نحتاجه في نهاية عقد من الدم والدمار، لقد تدخّلت قوى ودول عديدة في الحرب وكان لكل منها أجندتها الخاصة وأدواتها الخاصة، إن كان لمساندة النظام او الفصائل المعارضة، لكن الأمور مشت باتجاه تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ متنوعة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى سيطرة القوى الإسلامية الراديكالية على الحراك، وبرامجها التي تغلق الباب على أي وعد في المستقبل بدولة مدنية ومجتمع تعددي، وتقضي شعاراتها على أي احتمال بانتهاج الديموقراطية.
أخطأ العديد من النخب الثقافية في الالتحاق بالسياسة وكان من الأجدر بهم الابتعاد والاضطلاع بدورهم المطلوب وهو رصد التحولات والانزياحات والهزات الارتدادية التي تصيب جسد المجتمع والعمل على الاشتغال عليها وتسليط الضوء، فلم يكن ينقص الشعب المنكوب ما يمارس بحقه من تضليل وتجييش، فهناك وعي عام بحاجة إلى تنقية من موروث ثقيل، هناك شخصية امتثالية متجذرة، ليس بشكل فردي فقط، إنما على شكل جماعات تعيش ضمن قوالب محكمة زادتها الحرب انغلاقًا وإحكامًا، تقع على النخب الثقافية مسؤولية الاشتغال على فك أقفالها، ولا يكفي أن تنجز كتاباتهم في اللحظة الراهنة، بل يجب أن تنتمي إلى تلك اللحظة بكل متغيراتها، وهذا يميّز بعض الشيء كتابات الجيل الجديد.
في نهاية العقد السوري الدامي يمكن القول إن هناك فارقاً ما قد حدث، وأن الواقع تغيّر، ويمكن انتظار النتائج بالرغم من أن الزمن حارق بما يكفي في انتظارها، فالثورة لا تفشل، هي تتعثر في مسيرتها، لكنها لا تسقط بشكل نهائي، بل تنهض ولا تتوقف عن الحدوث.