“الشاعر والملك” رواية جديدة صادرة عن دار “الأهلية” في عمان، هي آخر أعمال وليد سيف صاحب “التغريبة الفلسطينية”، مستوحاة من حياة الشاعر طرفة بن العبد، الذي سبق لأبرز كتاب الدراما العرب أن قدم حياته في مسلسل تلفزيوني، أخرجه صلاح أبو الهنود العام 1982. ويقوم العمل على كتابة سيرة، غير مسجلة من قبل في قالب واحد متكامل، بل هي موجودة كأخبار متناثرة في جانب منها، تتعلق بالمصير المأسوي الذي لقيه الشاعر، بينما يتمثل الجانب الأخر فيما تضمنته أشعاره من وقائع.
البداية في الرواية، هي لحظة نبوغ طرفة في سن العاشرة، عندما اكتشف الخطأ في بيت شعر لشاعر مشهور بدأ يتلو قصيدة في مجلس قومه قبيلة بكر، ومطلعها:
وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره
بناجٍ عليه الصيعريّةُ، مكرم
والناجي هو الجمل، والصيعرية سمة من سمات النوق في أعناقها، ولذلك تهكم طرفة الفتى، وقال عبارته التي هزت الحاضرين: “استنوق الجمل”، أي وصف الجمل بصفات الناقة.
وكانت تلك علامة نبوغ وشؤم، يجر فيها لسان الشاعر رأسه الى الهلاك على يد ملك الحيرة، عاصمة المناذرة، عمرو بن هند. وتسرد الرواية في الفصل الأول المعنون “غريب في قومه” قصة تمرّد طرفة الفتى على أعمامه الذين استأثروا بمال والده بعد رحيله، وحرموا أطفاله منه، ومن ثم الاعتراض على صمت قبيلته بكر التي رضيت بالانصياع للضرائب الجائرة التي كان يفرضها ملك الحيرة على القبائل، والذي يصفه بالطاغية.
وضمن هذه الدائرة من التمردات تجري حياة الشاعر، بما في ذلك قصة عشقه لفتاة من قبيلة بني تميم تدعى سلمى. وتحرك طرفه وهو في الثانية عشر من عمره لاسترداد حق عائلته من أرث والده فهجا، أعمامه بقصيدة مطلعها:
ما تنظرون بحقً وردةَ فيكمُ
صغُر البنون، ورهط وردةَ غُيًبُ
ومن ثم تحرك لتحريض القبيلة ضد ملك الحيرة، وطرح عليها التحالف مع القبائل الأخرى لمواجهته، ومن ذلك قبيلة تغلب التي كانت على خصومة معها. ولكن هذه الخطة لم تنجح، بسبب علم الملك بها، فأفشلها في مهدها، من خلال ترهيب القبائل واستمالتها. ومن بين الزعماء الذين جرّهم إلى طرفه خاله الشاعر المعروف باسم المتلمّس، الذي عاد من الرحلة بسيف مرصع، صار يعرضه أمام طرفه ويتفاخر به.
أول تجربة عشق لطرفة كانت مع سلمى التميمية، كادت أن تودي به في بدايتها، فبعد أن لمحها في دكان أحد باعة القماش، وأصابه الإعجاب بها بحالة من العشق فصار يتابعها، ومالت له من دون أن تقترب منه او تنفرد به، فكانت تتحدث عن بعد وبحضور صاحباتها، ولكن ذات ليله وبعد أن دارت الخمرة برأسه قصد مضارب أهلها، ونادى عليها ولم ترد عليه فرفع صوته ليجد نفسه في مواجهة شقيقها عبادة وعدد من الفرسان، وكاد أن يهلك لولا تدخل والدها الذي منع ابنه من قتل الشاعر، كي لا يثبت العار على ابنته، ولكنه ذهب إلى سادة قبيلة بكر يهددهم “نجعلكم على الخيار، فإما ضربتم على يد صاحبكم،. وإما خليتم بيننا وبينه، وإلا حملناكم غرمه”. ويصل الأمر إلى أن القبيلة طلبت من أعمامه أن يخلعوه، ويتخلوا عنه حتى يتجنبوا لوم وغضب أهل سلمى وعشيرتها بني تميم، ولكن أحد أعمامه المعروف بالمرقش لم يبد حماسا، واعتبر أنّ خلعه يعني أنهم يسلمونه إلى حتفه وإباحة دمه، وهو “اشعر من أنجبت بكر. فكيف تضيع بكر شاعرا مثله يمكن أن تفاخر به العرب جميعا. وما زالت القبائل إذا نبغ فيها شاعر احتفت به وقدمته”.
كل ذلك والشاعر مسرف في اغتنام اللذات، وإهلاك المال قبل النفس، وقهر الموت الذي يأتي على غفلة، ويزورك بلا دعوة بالموت الذي تبادره بيدك وإرادتك بإتلاف النفس بالخمر والنساء ومجازفات النزال، ولو كانت كلفة ذلك الغربة والاغتراب عن الناس. وذلك هو مذهبه الذي أقام عليه من دون قومه، وجسده في شعره الذي أصبح صورة نفسه، مبتعدا عن المدائح والمفاخرة الفارغة. وكان يجلس في ظل النخلة التي زرعها مع والده الذي رحل مبكرا، والتي نذرها لكل عابر سبيل لا يمنع عن ثمرها أحد.
ورفض طرفة عرضا من خاله المتلمّس للصلح بين الشاعر والملك، وانتفض واقفا حين سمع خاله يسرد أسبابه، وقال له “أذلّ شعري له لآكل به عنده؟ وما غاضبت قومي إلا أنهم عصوا إرث آبائهم وأطاعوه”. ولم يهن على خاله أنّ ابن شقيقته أنفق ماله، وصار يحصل على عيشه مثل ذئب “رزقه في نابه”، إلا أن ذلك لا يعيب الشاعر، الذي عدّ نفسه في صف عنترة وعروة بن الورد، وإذ خرج من الحمى، خالعا القبيلة، وجد نفسه يعرج على منازل حي سلمى، وقد ارتحل القوم منذ يومين فقط، ولم تبق غير آثارهم تلعب فيها الريح، والمكان يضج برائحة الحزن والوحشة، ما أشعل الشوق:
ديار لسلمى إذ تصيدك بالمنى
وإذ حبل سلمى منك دان تواصله.
وفي رحلته خارج مضارب القبيلة، عرف البرد والحر والجوع، ولكنه لاقى من يكرمه ويطعم ويسقي ناقته، وصحب بعض الصعاليك الذين يسميهم ذؤبان العرب هنا وهناك، ولكنه كان يره أن يوصف بالتصعلك، وكما تذهب رياح الصحراء بالأثر، ذهبت من ذهنه الصورة الجميلة عن هؤلاء، أو أحب أن يتصورها على سبيل المفارقة مع قومه ومثالهم، ولكنه صحب في نهاية المطاف ثلاثة منهم فقط: عامر، سعيد، وحنظلة. ولأنه لا يقيم في منزل واحد وجد لنفسه مبررا كي ينسى من يعشق، رغم أن العشق يعطي ويمنع، وإذا تمكن من النفس أشعل فيها جذوة تضيء وتحرق، ولم يبق للعاشق سوى الأطلال والرسوم والآثار وديار ومنازل خلت من أهلها، وليس أمام العاشق إلا الوقوف عليها، ورثاء أيامها، حين كانت تعج بالحياة والصبوات.
وفي واحدة من غزواته مع الصعلوكين سعد وحنظلة كان اللقاء مع خولة، التي حاول الصعلوكان سلب ناقتين من قطيعها، ولكن الراعي اشتبك معهما حتى وصلت فتاة تحمل عصى طويلة لتوسعهما ضرباً، وتدخل طرفة من أجل إنهاء المشكلة وإعادة الناقتين، والاعتذار من المرأة التي هي خولة امرأة وقعت في نفس شاعر، فكانت أقوى عليه من كتيبة في الحديد.
الحسابات لا تأتي دائما وفق النوايا، وإذ تنجح غزوة تفشل أخرى، وهذا ما حصل مع طرفه وأصحابه، فوقع في أسر قبيلة غطفان، التي استولوا على بعض جمالها، وتداول كبار القوم في أمره وصاحبه عامر، ولم ينقذهم سوى نسب طرفه إلى قبيلة بكر، التي تقع ضمن سلطات ملك الحيرة عمرو بن هند، عدوه في موطنه الذي أصبح حاميه في غربته. وتبين له أن هذا قدر لا يمكن الفرار منه. يريد مغانم حريته، ولكن مغارمها ثقيلة، والحرية التي وعدته بها الصحراء لم تكن غير وهم وخديعة، والناس هم الناس في البدو والحضر. تعرف منهم وتنكر، يعطونك بقدر ما يسلبونك، ويحبونك بقدر ما يقتلونك.
وبعدما نجا من القتل وتشرّد أصحابه، عاد يبحث عن خولة تلك الأعرابية الجميلة، التي هزمته بحجة اللسان القاطع الحكيم، وهو الشاعر البليغ الذي لا يفحمه أحد في حق أو باطل، فصار يلتمّس مطارحها ليراها من بعيد تحتطب أو تورد إبلها، ثم بدأ يتجرأ فيدنو ويخاطبها ويعينها في بعض عملها، فلم تكن تصدّه، إذ وقع في نفسها كما وقعت في نفسه، ولكنها لم تلبث أن رحلت وغابت عن عينيه، ووجد نفسه بين الأطلال والآثار. رحلت ولكنها ستبقى حاضرة في مطلع واحدة من أعظم قصائد العرب الطويلة، يتمثلها الناس كلما رددوا ذلك الشعر، كل يصورها على حد خياله، لتكون مئات النساء بدلا من امرأة واحدة:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.
وبعد فشل الغزوات والتشرّد طويلا في الصحراء وسوء الحظ في العشق، قصد طرفة الحيرة، وطرق، أولا، باب بيت خاله المتلمّس الشاعر المشهور، الذي انتقل للعيش في المدينة ليكون إلى جانب ملكها نديما له، والحيرة عاصمة المناذرة الذين “لم يسودوا الناس بعددهم، ولكن بأموالهم وخيرات بلادهم التي قسموها بينهم وبين الأكاسرة. سادة على العرب في جوارهم، وخدم للأكاسرة من ورائهم، ذلة للأجنبي الذي أورثهم عزة على أبناء جلدتهم”. والحيرة التي في غاية الجمال لا يضاهيها إلا مملكة الغساسنة على أطراف الشام، والخلاف هو أن الخضوع للرومي هناك والاعتصام بقوته وسطوته. وفي الحالين جمال ووفرة يخفيان وراءهما قبحاً وذلاً.
وفي الحيرة وجد شقيقته الخرنق وقد تزوجت ابن عمها الذي يعمل مرافقا للملك، وهذا امر أزعج طرفة الذي لم يكن يرى فيه زوجا لأخته التي اعترفت له “لا خصلة فيه أحبها، ولا خصلة فيه أبغضها”. ولم يمكث هنا فبعد أن فشل مشروعه في دعم عمر بن أمامة في الإطاحة بشقيقه الملك عمر بن هند، عاد إلى حمى قبيلته التي رحبت به وهي في حاجة إلى شاعرها الذي يؤمن لها التوازن مع قبيلة تغلب التي تفاخر بشاعرها عمرو بن كلثوم الذي يخشاه ملك الحيرة، فالشعر وسحر البيان يبقى في مرتبة عليا عند العرب فيفاخر بهم شاعرهم ويفاخرون به، وعاد طرفة ليختار عملا رعاية إبل شقيقه. ولكن في لحظة ضعف قرر أن يلتحق ببلاط عمرو بن هند الذي أحسن استقباله، ولكنه أحس بشعور غامض الغيرة من هذا الفتى الذي لم يحتجب عن متع الحياة البسيطة العفوية وراء رسوم السلطان، والذي ما لبث أن طرده هو وخاله المتلمّس من مجلسه فصارا يهجوانه في جلساتهما ومما قال فيه طرفة:
ما في المعالي لكم ظلُ ولا ورقُ
ولا في المخازي لكم أسماخٌ أسماخِ
وحين بلغ الملك هذا الهجاء استدعى طرفة وخاله وزودهما بخطابين إلى عامله على البحرين وهَجَر ليقبضا منه الجائزة، ولم يكن ذلك سوى وصية القتل لكل منهما وبقية القصة معروفة، حيث فض المتلمس الخطاب وفر بعد أن عرف مضمونه ورفض طرفة ذلك وواجه الموت ثأرا لنفسه الكريمة التي رضيت ذل الوقوف على باب الملك.
وفي ختام هذا العرض يمكن التوقف عند ملاحظات عديدة. الأولى هي، يبدو أن سيف كتب هذه الرواية وكأنه أخذ في حسابه أنها ستتحول إلى عمل تلفزيوني، ولا يمكن الجزم بذلك لأنه سبق له، وأن قدم حياة هذا الشاعر في عمل درامي، ولذا يمكن لنا أن نقرأها كأننا نشاهد مسلسلا تلفزيونيا، ذلك أن أسلوب تقطيعها يسير وفق كتابة السيناريو المحبوك بعناية، وإذا تم تحويلها إلى عمل تلفزيوني فلن تحتاج إلى عملية إعداد فنية من أجل ذلك، وما على المخرج سوى أن يختار الممثلين وأمكنة التصوير التي رسم الكاتب ملامحها بصورة واضحة.
والملاحظة الثانية المهمة وهي أن هذه السيرة مثل كل أعمال سيف حافلة بالإسقاطات التاريخية غير المباشرة على واقع العرب اليوم. ودرج هذا الشاعر والروائي على اختيار أعمال تاريخية ذات صلة بالحاضر مثل صقر قريش وملوك الطوائف والخليفة عمر بن الخطاب.. إلخ. وفي رواية طرفة، يهمه أن المصير المأسوي الذي لقيه الشاعر يعود إلى موقفه القاطع من الأجنبي الذي يسود القبيلة ويستولي على ثروات البلد.
أما الملاحظة الثالثة فهي مدى التمكن من أدوات الكتابة الدرامية التي يتمتع بها سيف، فالتجربة الطويلة والنجاح الساحق الذي حققته أغلبية أعماله تضعه في صدارة الكتاب الذين تفرغوا لهذا الجنس من الكتابة. وهو يحقق شرطين أساسيين.. المتعة
*المدن