بشير البكر: مهند مبيضين يؤرخ لثقافة الترفيه في دمشق العثمانية

0

دمشق أقدم مدن العالم، واجهت حروبا وغزوات، كونها مفتاح الشرق وصلة الوصل بين عدة حضارات، وخاصة الحضارة العربية الإسلامية وأوروبا. ورغم ما شهدته من حالات انكفاء في بعض الأوقات، إلا أنها لم تفقد طابعها المنفتح، وخصوصا في فترة الحكم العثماني (1516-1918) التي شكلت موضوع أبحاث كثيرة قام بها المؤرخ الأردني الدكتور مهند مبيضين في كتابه المعنون “ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة-دمشق العثمانية”، الذي تقصى ووثق وأرخ للتاريخ الثقافي لدمشق خلال هذه الفترة، والعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، وتنطلق الأبحاث عن دمشق من خلال مقاربة جديدة للتاريخ الاجتماعي عن طريق ثقافة الترفيه، وذلك بالاعتماد على مصادر تاريخية متنوعة.

ويعد هذا الجهد البحثي على غاية من الأهمية لسببين. الأول، لأنه يرسم صورة لتحولات دمشق على مدى أربعة قرون، تكونت فيها صورة دمشق الحديثة في القرن العشرين من خلال ثقافة الترفيه. والثاني هو أن دمشق على صلة بتبلور ملامح المدينة العربية الجديدة التي تشكلت في القرنين التاسع عشر والعشرين، وما تمثله من طابع عربي منفتح على الحداثة وما حملته من تطور في الأفكار وأساليب العيش.

وتبدأ دراسات الكتاب حول الترفيه بإلقاء الضوء حول الجدل الفقهي والموقف الديني من الفنون وبخاصة الموسيقى والرقص، ومن ثم البحث عن أثر الفنون في عادات أهل دمشق من حيث مظاهر الفرح والفن والأعراس. ويقول المؤرخ محمد أرناؤوط في تقديم كتاب مبيضين، “إن هذا العصر غير متفق عليه بين من يصفه بالجمود ومن يصفه بالانفتاح، ولكن هذا الكتاب يجعلنا نتعرف على مجتمع دمشق كما كان عليه في الواقع” من خلال الثقافة الشعبية التي تشمل الموسيقى، الغناء، الأعراس، العراضات، المتنزهات، الحمامات، وما كان يدور فيها والمقاهي كمراكز جديدة للتسلية مع الألعاب والحكواتي وخيال الظل. إلخ.

يبحث الكتاب في أنواع التسلية واللهو، ومنها التنزه والسيران وارتياد الحدائق واللهو الحرام، والذي نجد فيه اخباراً عن بنات الهوى وشرب الخمر وحب الغلمان، ويتصل بهذا البحث في الليل الدمشقي من حيث هو ليل للغانيات ومستودع لأسرار العشاق وسهر الأعيان، ويتطرق للقهوة ودخولها دمشق بداية العهد العثماني والحمامات التي انتشرت في دمشق. ويبدأ أول فصول الكتاب ب”جدل الموسيقى والرقص وأهل الغنا”. وهي مسألة ليست جديدة على دمشق التي عرفت الموسيقى ومقامات الغناء منذ العصر الأموي. ويستطرد في سرد المواقف منها منذ بداية الدعوة الإسلامية ليقف على المحرم والمحلل من آلات وفنون وطقوس الغناء، استنادا إلى تفسير الغزالي للحديث النبوي الشريف “كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل”، الذي نقله الفقيه والمؤرخ الشوكاني، بأنه لا يدل على التحريم، بل على عدم الفائدة، وفي أواخر القرن التاسع عشر وضع الشيخ الحمصي سعيد بن يحيى بلبل رسالة “في أحكام الذكر والسماع” تناول فيها القول بإباحة الإنشاد وضرب الدف، والرقص والشبابة والسماع. وتستمر هذه الأحكام في العصر العثماني، وتظهر حركية المجتمع العربي في دمشق وغيرها من الحواضر العربية، ويرى المؤرخ السوري محمد كرد علي أن إنشاء دار للتمثيل في دمشق على يد أبو خليل القباني سنة 1865 كان يمثل بداية جديدة لوجه من وجوه التسلية والترفيه، ومقصده من ذلك أن دمشق الشام برغم الثقافة الدينية الهائلة التي كانت تطغى على طبيعة مجتمعها إلا أنها كانت قابلة للتغيير. ولكن فن التمثيل الذي استلهم من الغرب، ونظر إليه على أنه حادث في الثقافة الدمشقية، لم يتقدم كثيرا بعد أن غادر أبو خليل القباني إلى مصر، فلقد تلقى نكسة كبيرة وتراجع، وهذا ما يؤكده كرد علي بقوله” ولما كان التمثيل كما قلنا عارضا على مدينتنا رجع القهقرة بعد أبي خليل”.

ولا يمكن فصل الغناء والطرب في دمشق عن مجالس الصوفية وحفلاتهم، ولذا فإن كثيرا من التراجم نجدها تجمع بين الغناء والإنشاد والسماع، فمن كبار المنشدين في القرن السادس عشر محمد بن أحمد الداخل الصالحي، وهو أحد جماعة الرئيس الجعيدي من كبار المتصوفة. وهناك الموسيقى والموشحات التي كانت تغنى بالمجالس الأدبية ومن أشهر الزجالين الأديب أبو بكر بن منصور بن بركات بن حسين العمري. ومن أعلام المنشدين في دمشق نوح الدمشقي العام 1623 الذي عرفه أهل دمشق بحسن صوته وجودة إنشاده، ويقال إنه “أصبح مؤذن قلعة دمشق”. ومن مشاهير الموسيقيين في النصف الأول من القرن الماضي محمد السؤلاتي الدمشقي الذي أخذ عنه أرباب الموسيقى في عصره من المصريين والشاميين، ومن أهم الوجهاء الذين عرفوا بحب الموسيقى في أوائل القرن العشرين أبو الهدى الصيادي من حلب، والشيخ عبد الرزاق البيطار من دمشق.

الاحتفال شأن دمشقي مرتبط بالفرح، كونه لغة أوسع وأشمل وأعمق من مجرد (الشعر والقصة)، ولغة الإشارات (الإيماء والرقص). هو لغة جماعية تقوم على المشاركة الوجدانية والفعلية. ولذا فإن الأفراح في دمشق بناء اجتماعي، وأوجد الدمشقيون تقاليد خاصة بمناسباتهم واحتفالاتهم، منها العراضات والرقص بالسيوف واحتفالات الختان وتزيين المدينة والموالد وغيرها، والتي تعبر عن ميراث ثقافي وحضاري متراكم، يعكس تقاليد المجتمع الدمشقي وحبه للفنون ورغبته بالإقبال عليها، فترتيب الأعراس كما يبدو مرتبط بانعقاد مجالس السهر للرجال والنساء، ولأيام عديدة يتخللها تقديم الضيافة غير مرة. ويسبق ذلك إقامة حفل للعريس في الحمام، حيث يقوم الحلاق بقص شعر العريس، وعندما يلبس العريس ملابسه يتوالى أقاربه بالأهازيج والغناء، ويخرج من الحمام محفوفا بالشموع والغناء بما يسمى العراضة مع إطلاق البارود.

التسلية واللهو أحد أهم أوجه النشاط الاجتماعي الذي يمثل حالة تواصلية ثقافية بين البنى الفوقية والتحتية في المجتمع، ذلك أنه هناك أنماط مختلفة لتسلية الخاصة والعامة والاختلافات بين مظاهر اللهو في شقيه المباح والحرام. وبالإضافة إلى أنماط اللهو المعروفة من السيران وارتياد المقاهي وممارسة الألعاب الشعبية، ظهرت في المجتمع ممارسات تقع في النظر الفقهي تحت باب “اللهو الحرام” وهي المرتبطة بشرب الخمر وحب الغلمان وبنات الهوى.

ومن خلال وصف بعض المتنزهات يبدو أنها ضمت مرافق متكاملة مثل المسجد والجامع وخدمات الطعام، ويبدو من خلال الأوصاف التي تقدمها كتب الفضائل والخطط أن التنزه لم يكن محدداً بوقت أو مدة، فهو قد يستغرق ساعات أو ليلة، أو يستمر لأيام أو شهور، وما يؤكد ذلك “المقاصفية الواقفون في خدمة الناس وعندهم اللحف والأنطاع والعبي لمن يبات”. وقد تغري جماليات المكان كما هو الحال في منطقة الربوة، حتى أن بعض الناس يطلع إليها ليتنزه فيها يوما فيقيم بها شهرا.

وهناك طقوس وتقاليد كثيرة منها المرتبطة بالورد والترفيه وخميس البنات، وهو الخميس الأول من شهر نيسان، إذ يخرج الدمشقيون خاصتهم وعامتهم من بيوتهم إلى الحدائق والجنائن البرية ويعيشون مع الأزهار، ويمارسون الرقص والغناء ولا يعودون إلى بيوتهم إلا في المساء، ويقضون النهار في قطف الأزهار البرية فيشكون منها باقة كبيرة جميلة يحملونها معهم في طريق العودة محتفلين بالبنات، أي بالخصب وعودة الحياة عن طريق لقاء الإنسان بالأرض، اعتقادا منهم بأن ذلك يؤدي إلى سريان الدماء الجديدة وظهور الزهر بإشراق شمس نيسان.

ويرى عدد من المؤرخين أن ذهاب الدمشقيين إلى المتنزهات وترويحهم للنفس، أكسبهم طباعا منشرحة. ويلاحظ المؤرخ الدمشقي البديري الحلاق مشاركة النساء للرجال في هذا النوع من وجوه التسلية، ويظهر أن التدخين والأكل والشرب كانت من مكملات هذه الأنشطة. ولم يكن لمثل تلك العادات أن تنتشر أو تستقر في البنية الثقافية لولا إيجابية المناخ ووفرة الماء وخصوبة الأرض. مما أمد الدمشقيين بأجواء مشجعة على التنزه الذي أخذ طابعا ثقافيا.

ويأخذ الحديث عن اللهو الحرام موقعه في مجتمع مدينة دمشق، كونه واحدا من أوجه النشاط والسلوك المجتمعي، ما يطرح أسئلة عدة حول موقع الحرام في ثقافة الترفيه، والموقف العام منه وتعامل المجتمع مع ظواهره لجهة حدود القبول والرفض. وفي كتب اليوميات يبدو الأغنياء منعمين بخدمة الجواري وبنات الهوى او بنات الخطأ والوقافات والمحظيات والزواني. وهذه مسألة مرتبطة بمحرمات أخرى مثل تناول المسكرات، ويشير ابن طولون إلى معاقبة كل من يثبت استهانتها بالأخلاق. وهو يلاحظ أن هناك تقليدا خاصا بـ”المومسات” وأنهن كن يخرجن إلى الأسواق في مواكب خاصة رغم أن ذلك ينافي الأخلاق العامة. وفي بعض الأحيان يبدو أنّ شكوى الناس لا تلقى إذنا صاغية، وموقف بعض الولاة سلبيا.

اما تعاطي الحشيش وشرب الخمر فقد انتقل من العهد المملوكي إلى العد العثماني، حيث تم الاعتراف بشكل غير مباشر بالظاهرة، باعتبارها شكلا من أشكال التمظهر الحضري، وجرى تخريج ذلك من خلال فرض رسوم عليها، ويذكر ابن طولون في “مفاكهة الخلان في حوادث الزمان” بأن شرب الخمر وانتشار الفساد وبنات الهوى كانت من الأعمال المتزامنة مع بعض المناسبات. ومع انتشار اللهو الحرام ظهرت ظاهرة حب الغلمان حسب وصف المؤرخ محمد خليل المرادي في القرن الثامن عشر، التي يذكر ابن طولون أنّ من بين المحبين من هم من طبقة العلماء والشيوخ، اما المحبوبين فليس هناك معلومات عن هوياتهم. ويبدو أن ذلك كان سببا في غيرة النساء، إذ يذكر البديري أنّ امرأة قتلت زوجها مع جماعة من الأشقياء بدعوة أنه ينام مع مملوكه ولا ينام معها.

وفي نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر كانت المقاهي مكانا يرتاده الراغبون في السهر المشفوع بتناول المسكرات والخمور، ويظهر أن من أسباب منع القهوة وإغلاق المقاهي انتشار عادة شرب الخمر فيها، ومع دخول دمشق تحت حكم محمد علي (1831-1840) حدث تطوّر مهم، تمثل في إنشاء أول خمارة في الشام بأمر من إبراهيم باشا، الذي شرعن صناعة وبيع الخمور وفرض عليها ضرائب، ولكن عادة شرب الخمر لم تغادر طابعها المستور إلا في بداية القرن العشرين، وصارت مصاحبة لإحياء السهرات في المحلات العامة التي تقدم حفلات طرب يتم فيها تناول الخمر والدخان الذي كان ممنوعا من باب محاربة التبذير والإسراف.

وللقهوة حكاية فهي دخلت دمشق مطلع القرن السادس عشر، وأثارت جدلا فقهيا من حول تحليلها وتحريمها بالاستناد إلى آراء وفتاوي مشايخ من الحجاز واليمن التي تعتبر أصل هذه النبته، ومنهم العلامة عفيف الدين بن عبدالله بن كثير الحضرمي صاحب مؤلف “قمع الشهوة عن شرب القهوة”. أما الإباحة فوردت في كتاب العلامة فخر الدين أبي بكر “إزالة الهفوة بتحريم القهوة”. وتطور الأمر إلى إباحة شرب القهوة في البيوت ومنعها في الأماكن العامة، حتى شيد مراد باشا أقدم مقهى في دمشق العام 1595 قرب الجامع الأموي.

ويتنوع التمثيل الثقافي لحياة المجتمع ليصل إلى الحمام الدمشقي كمجال للترفيه، على حد سواء فيما يخص الرجل والمرأة، وفيما يلتقي الرجال في القهوة تلتقي النساء في الحمامات، التي تشكل شبه سوق للزواج تعرض فيهه الأمهات الفتيات الجاهزات للزواج. وحسب ابن عساكر بلغ عدد الحمامات 57 في العام 1157، وذكر ابن شداد أن عددها في العام 1285 وصل إلى 85، وأضاف إليها الحمامات التي وجدت خارج السور ليصل العدد إلى 117. وعند أبي علي الأربلي العام 1328 وصل العدد إلى 137 منها 74 داخل دمشق، وفي العام 1503 وصل العدد 180 في دمشق وغوطتها.

ويختصر الحمام الصورة العامة لسكان دمشق الذين يتوحدون في هذا المكان دونما فوارق في الفئة أو المنزلة الاجتماعية، فمن يدخل إليها يجد فيها الأغنياء والأعيان والفقراء والوافدين، وبالتالي فهي تقدم صورة عن المدينة وثقافتها. ويمكن تجاوز الحمامات باعتبارها مباني نفع عام إلى محاولة الكشف عن الأبعاد الثقافية لها في عالم اللهو والتسلية، فكل حمام له قصة وله سرده المتعلق به والمرتبط غالبا إما بحدث جماعي أو بطابع تقديسي.

الليل الدمشقي مليء بالسرد والحكايات التي تحكي في جو أعطى للخيال الشعبي القدرة على أن يشطح شطحات عجيبة، ولعل أبرز ما يمثل حصيلة الليالي الدمشقية أنها أبدعت ما يسمى بمفهوم السير الشعبية، التي تتم روايتها بشكل مسل في ظلام الليل وخفائه وأسراره، ويبدو الليل الدمشقي رحبا بشكل يتسع لأن يشهد وجود مجموعة من المضحكين والمسلين والحكواتيين، الذين كانوا يذهبون إلى بيوت الأكابر ويقضون مجتمعين في مجالس تحكي السيرة او تقدم الطرائف والألحان، كما أن الليل مجال رحب لسرد العجائب والغرائب ووعاء أسرار العشاق والمغامرات والغناء، الذي بات ملازما لليل والجواري والغانيات، وهناك ليل لسهر الأعيان، وآخر للحرملك.

*المدن