كأننا لا يكفينا ما نحن فيه من كوارث طبيعية وغير طبيعية، حتى يأتي مسلسل معاوية بن أبي سفيان ليزيد من الانقسامات، في حين ما زال العالم العربي يعيش وسط الحرائق المذهبية، التي اندلعت مع الحرب العراقية الإيرانية، واستعرت أكثر بعدما صارت طهران صاحبة قرار في أربع عواصم عربية، بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاء، وبات لديها نفوذاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في العالم العربي. وغير خافٍ على أحد أن في مصلحة إيران إذكاء المذهبية، فبعدما جربت سلاح تصدير الثورة، الذي ارتدّ عليها خلال الحرب مع العراق، استبدلته بتصعيد المظلومية الشيعية، التي حولتها إلى مشروع طائفي للهيمنة يتمدد داخل لبنان، سوريا، العراق، اليمن، والبحرين، وعلى جدول الأعمال بلدان أخرى مثل السعودية والإمارات والكويت وحتى مصر، وبعض بلدان المغرب العربي.
كتب أحد رواد فايسبوك، معلقاً على الجدل الدائر حول مسلسل معاوية، بقوله “إن الخلاف حول الخلافة بين علي ومعاوية لم يبق منه لدى الشيعة سوى مقتل الحسين”، وهو يقصد أن قضية كبيرة داخل الديانة الإسلامية، وانقساماً حاداً بين العرب جرى اختصارهما إلى طقس احتفالي جنائزي كربلائي (نسبة إلى كربلاء)، الذي كان قبل الحرب العراقية الإيرانية عبارة عن مناسبة دينية لها خصوصية لدى بعض الشيعة في العراق ولبنان، وتحول بعد ذلك إلى مناسبة سياسية، جرى توظيفها في البداية ضد الحكم العراقي في زمن صدام حسين، وبعد ذلك صارت سلاحاً في يد إيران من أجل إبقاء المظلومية الشيعية وسيلة للتمدد في بعض الدول العربية مثل العراق، لبنان، سوريا، البحرين، واليمن.
انقسم الناس في وسائل التواصل حول انتاج المسلسل التلفزيوني، إلى قسمين، واحد يريد طمس معاوية وعدم تناوله في عمل درامي، والآخر يرى أن معاوية يستحق أكثر من مسلسل، وأي نقد أو تناول سلبي له مرفوض من أساسه. ويجري هذا كله، والمسلسل لم يُعرض بعد، ما يعني أن مضمونه قد يشعل حروباً أخرى تنخرط فيها فئات أوسع، وغير مستبعد أن تتوسع الحروب لتفجر الكثير من الدمامل الطائفية. ويرسل انفجار الجدال على نحو حاد قبل عرض المسلسل، إشارة واضحة إلى أن الاحتقان حول هذه المسألة التي صارت من التاريخ، في ازدياد، ولن يتراجع، رغم كل ما شهدته المنطقة من نزاعات طائفية في العراق، سوريا، لبنان، واليمن، والبحرين، وما كان له أن يبلغ هذا المستوى، لولا العامل الخارجي، وصب الزيت على النار كلما اقتربت من أن تخفت مع الوقت.
لا يعود السبب في انفجار النزاعات المذهبية والطائفية إلى اسقاط التاريخ بكل ما فيه من حمولة على الواقع المأزوم والجاهز للانفجار، بل توافرت له بيئة مناسبة لإعادة تركيب الأحداث التاريخية، بما يناسب مصالح بعض الأطراف الخارجية، وساعد على ذلك تراجع المشروع الوطني في البلدان التي اخترقتها الكوارث الطائفية مثل سوريا والعراق، وتوافر أدوات طائفية وطائفيين لدى جميع الأطراف، وقد خدم هؤلاء بالقدر الذي فعله الذين يشتغلون جنوداً في الحروب الطائفية. فالتنظيمات التي أوكلت لنفسها مواجهة المشروع الطائفي الإيراني من منطلق طائفي، لم تكن أقل ضرراً منه، ووفرت له كل الذرائع الممكنة ليعزز حضوره، ومن ذلك الحرب على “داعش” التي أعطت ذريعة من أجل بناء جيش طائفي في العراق مثل “الحشد الشعبي”، ومثله في اليمن هو الحوثي، واستقدام مليشيات شيعية الى سوريا من لبنان، باكستان، أفغانستان، والعراق.
يبدو أن مرور ألف عام على الخلاف بين علي ومعاوية لم يكفِ من أجل النظر إلى الماضي بطريقة باردة، تساعد على قراءة التاريخ بوعي نقدي والاستفادة من دروسه من أجل عدم تكراره. وللأمانة كان العالم العربي قد بدأ يتجاوز تدريجيا المطبات التاريخية الطائفية، إلا أن توظيف التاريخ والدين سياسياً أعادا المنطقة قروناً إلى الوراء. وساعدت الدراما في فتح أبواب مغلقة، وتجاوزت بذكاء بعض الحواجز ودخلت مناطق محرّمة، وشهدنا معالجات رصينة في تقديم شخصيات دينية وغير دينية من منظور يقرب التاريخ من الحاضر، ويجعله بمتناول الناس اليوم بما يتجاوز السرديات الجاهزة التي تصل إلى حد القداسة، ويمكن إيراد أمثلة على محاولات جريئة مثل مسلسل “عمر بن الخطاب” الذي كتبه السيناريست القدير وليد سيف صاحب “التغريبة الفلسطينية” وأخرجه شريكه في التغريبة، الراحل حاتم علي.
ويحضر هنا أيضاً مثال مسلسل “الزير سالم” الذي كتبه ممدوح عدوان وأخرجه حاتم علي أيضاً، فقدم قراءة واعية لحرب البسوس وخلص شخصية الزير سالم من الخرافات. وبالتالي فإن مسلسل معاوية مهما يكن طابعه يشكل خطوة مهمة باتجاه تناول شخصية مثل معاوية، لعبت دوراً أساسياً في التاريخ الإسلامي، ولا يعني ذلك صناعة مسلسل من أجل تمجيد هكذا شخصية تاريخية، بل وضعها على المشرحة بكل سلبياتها وإيجابياتها بلا انحياز إلى أحد، ومن دون توظيف سياسي.
ردود الأفعال المستنفرة ضد مسلسل معاوية، هي في جانب منها انتصار لعلي بن أبي طالب، ويفترض هؤلاء أن يكون معاوية هو الشخصية المحورية في المسلسل فيه انتقاص من علي، الذي يجب أن يكون هو المحور وليس معاوية، وبالتالي لم يغضب هؤلاء من تناول شخصيات أخرى من الخلفاء الراشدين مثل عمر بن الخطاب، كما هو الأمر مع معاوية الذي يعتبره هؤلاء صاحب الفتنة الكبرى. لكن في نهاية المطاف، يبقى معاوية ابن زمانه ومكانه، له سياق وعاش ضمن حالة لا يجوز أن ننظر إليها من زاوية الحاضر سلباً أم إيجاباً، ولا يوجد غير الإفلاس مبرراً للتشبث بالماضي كما هو.
العرب عاجزون عن دخول المستقبل وخائفون من مواجهة الماضي، ضد النقد والاختلاف، وينامون على حرير القناعات الجاهزة، ولا يمتلكون الشجاعة لقراءة تاريخهم بتجرد من أجل إبعاد أشباح الماضي التي تسيطر على الحاضر.
*المدن