مرت في آب الماضي الذكرى الثانية عشرة على رحيل محمود درويش، وكأن الموت حصل منذ زمن طويل. قد يكون مرد ذلك إلى أننا استوعبنا غياب الشاعر إلى حد الخيانة والنسيان، وصرنا لا ننشغل به أكثر من مرة في العام، نرثيه على نحو عابر على صفحات الفيسبوك، حين تمر ذكرى وفاته المأساوية، وفي أرواحنا ألمٌ لا ينتهي وليس له دواء بسبب هذا الموت المباغت.
صار البعض يعتاد هذا النمط من التعامل البارد مع الحدث، ولكن درويش ليس حدثا عابرا، هو الشاعر الذي كان حضوره يملأ حياتنا بالشعر. حين مات الشاعر توقف الشعر كما لو أن ضوءاً انطفأ في قلوب الناس، وقل الورد على هذه الأرض المنكوبة.
نعم مر زمن طويل على رحيل درويش، وكان واضحا أن الوقت سوف يمضي بسرعة منذ أن هالوا عليه التراب في رام الله، وأخذوا يوزعون كتبه وأقلامه وربطات عنقه، وسارع بعض الصغار الذين أرادوا اختراع تاريخ لأنفسهم إلى تشويه تاريخ درويش الخاص مع القصيدة.
الشعراء الذين كانوا ينتظرون قصيدة درويش الجديدة، كي يتقمصوها ويفصلوا منها قصائد أخرى، وجدوا الفرصة سانحة للتخلص من ظل المعلم العالي واستعادة الوزن الخاص بهم. ولو أن هؤلاء اكتفوا بالحرية فقط لكان الأمر مشروعا، ولكنهم اشتغلوا منذ اليوم الثاني لرحيله على تحطيم ما بناه الشاعر، وكأنهم بذلك يتخلصون من دينه عليهم، وأثره الذي لا ينمحي من قصائدهم.
النقاد الذين كانوا يتعاملون، حصريا، مع ما ينتجه درويش صمتوا أمام الهجوم عليه من قبل الصغار والكبار. لقد تبين أن هؤلاء النقاد كانوا موظفين عند صاحب القصيدة، وما إن رحل لم يعد لديهم ما يفعلونه، وآثروا الصمت، أو شاركوا في حفلات توزيع التركة من الأقلام وربطات العنق وحتى الأحذية والجوارب.
أما الذين كانوا يتعاملون مع درويش كمشروع استثماري، فهم واصلوا العمل بدأب على توسيع تجارتهم، واستثمار الرجل. في الحياة والممات لم يكن درويش بالنسبة لهم غير استثمار تجاري.
قد أبدو حادا هنا إلى حد توجيه الكلام القاسي إلى أشخاص معينين يعرفون أنفسهم. نعم ..إن القسوة في مكانها هنا لأن درويش تعرض إلى غبن شديد من قبل الذين يدينون له بوجودهم على الساحة الثقافية أولا،هناك الكثير مما يقال هنا، ولدى كل أصدقاء درويش الذين عايشوه عن قرب شديد تفاصيل كثيرة، بعضها تم الكشف عنه، والبعض الآخر ينتظر.
لا يكفي هجاء هؤلاء الناس الذين أرادوا تحطيم الشاعر الذي أخذ القصيدة العربية إلى مكان عال، وفتح للشعر بابا نحو حرية فلسطين. وستحين اللحظة التي يتم فيها قول الحقائق بصورتها العارية، حتى يعرف الناس أن ما تعرض له درويش بعد وفاته وحتى الآن، هو نوع من عملية قتل الشاعر الكبير، كي يصبح للصغار مكان على المسرح.
لا أدافع عن درويش بعد كل هذه السنوات من النسيان والتشويه، فما تركه من تراث شعري ونثري ونظري يدافع عنه، ولذا لا يجد هؤلاء الجرأة الكافية ليقفوا أمامه، لأنه أثر فريد، ولن يتكرر، وما يفعلون ليس بحثا في هذا النتاج الكبير، وإنما يفتشون عن أخطاء في قصاصات الأوراق التي كان يرميها درويش في سلة المهملات، وكان بعضهم يلمها كي ينشرها باسمه.
لا ينتاب المرء سوى الأسى حيال مشهد من هذا القبيل، يسوده الانحطاط وانعدام الأخلاق، ولأنه بلا معايير لا تليق به صفة الثقافي، بل هو من نوع البازار الرخيص الذي تتم فيه المتاجرة بشتى أنواع البضائع، وتحكمه المحسوبيات والإخوانيات وتبادل المصالح.
12 سنة على رحيل الشاعر..محمود درويش لا يليق به الغياب..في كل عام كزهر اللوز أو أقرب.
*الناس نيوز