بشير البكر: غابرييل غارسيا ماركيز.. رئيس دولة

0

كان غابرييل غارسيا ماركيز يردد أنه “بصفته كاتباً، هو أشد خطراً من كونه سياسياً”، وقال الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو: نعم، إن غارسيا ماركيز أشبه برئيس دولة. لكن السؤال هو: أي دولة”. صدرت عنه هذه الجملة العام 1982 حين فاز صديقه الشاب الاشتراكي، فيلبي غونزاليس، برئاسة الحكومة الأسبانية في لحظة مهمة من تاريخ الديموقراطية الأسبانية. وكانت تربط ماركيز في ذلك الوقت صداقات عميقة مع رؤساء دول، الفرنسي فرانسوا ميتيران، المكسيكي لوبيث بورتيلو، الفنزويلي أندرياس بيريث، الكولومبي لوبيث ميتيشلون ومنافسه بليساريو بيتانكور، وكان ميالاً للأول وكتب يناصره لولاية ثانية بسبب مشروعه الليبرالي، لكنه لم ينجح وانهزم أمام بيتانكور. وربطته صداقات مع رؤساء آخرين قبل ذلك، منهم رئيس باناما عمر توريخوس، والفنزويلي هوغو شافيز وكاسترو، وهي صداقة قل نظيرها بين كاتب ورئيس دولة، امتدت لزمن طويل قبل أن يصبح ماركيز كاتباً ذا شأن واستمرت حتى الوفاة. ومن بين أجمل النصوص التي كتبها ماركيز من وحي هذه الصداقات رثاءه للعقيد توريخوس الذي رحل بسقوط المروحية التي كانت تقله، وكان من المقرر أن يكون ماركيز برفقته، ونظراً لما شاع بأنها عملية اغتيال مدبرة من المخابرات الأميركية، فإن ماركيز لم يحضر الجنازة، وصرح حينها بقوله “أنا لا أدفن أصدقائي”، ومرض على إثرها بشدة حزناً على صديقه.

وكتب ماركيز مقالة ترجمت إلى لغات عديدة عن رحلة ليلية بالطائرة من هافانا إلى كاراكاس مع العقيد شافيز الذي كان يحبه كثيراً، بالطريقة نفسها التي أحب بها توريخوس وكاسترو الذي كان يعتد به بسبب موقفه من الولايات المتحدة، وكانت المقالة بعنوان “في الطريق إلى الثورة” بمثابة تقديم لشافيز قبل اسبوعين من جلوسه على كرسي الرئاسة كرئيس دستوري منتخب في شباط العام 1999، وخرج من الرحلة بخلاصة تشبه النبوءة “أذهلني أنني قد سافرتُ وتحدثتُ بلباقة مع رجلين متناقضين؛ أحدهما حالفه الحظ لإنقاذ بلده، والآخر، مخادع، يمكن أن يذكره التاريخ كطاغية”. ومثلت كوبا بالنسبة لماركيز انتصاراً أخلاقياً بصرف النظر عن عيوبها السياسية والاقتصادية، وكان كاسترو أميركياً لاتينياً لم يعرف الإخفاق والهزيمة، يحمل شعور قارة كاملة بالأمل، وقبل ذلك بالكرامة. وخسر ماركيز الكثير من صداقاته في الأوساط الثقافية والاعلامية السياسية في أميركا اللاتينية بسبب هذا الموقف، ومنها خصومته الشهيرة مع الكاتب البيروفي، ماريو فارغاس يوسا، الذي عبّر عن موقفه بتوجيه لكمة إلى وجه ماركيز. وواجه ماركيز حملات إعلامية شرسة حين ظهر اسمه في اللائحة القصيرة لجائزة نوبل، وكان الخصوم من تيارات اليمين القريب من ديكتاتوريات أميركا اللاتينية من أمثال يوسا ينعتونه بـ”الأحمر” بسبب قربه من زعماء اشتراكيين ومواقفه السياسية التقدمية والمعادية للسياسة الأميركية في أميركا اللاتينية.

وقد تكون مفهومة ومبررة الصداقات التي ربطت ماركيز برؤساء أميركا اللاتينية الذين أحبوا روايتيه “مائة عام من العزلة”، التي رسم فيها بورتريه جميل لأحد أكبر زعماء الوطنية في أميركا اللاتينية وحرر القارة من الاستعمار الاسباني العقيد سيمون بوليفار، ورواية “خريف البطريرك” حول طاغية خيالي عجوز من طغاة إحدى جمهوريات الكاريبي، مزيج من طغاة أميركا اللاتينية الحقيقيين، من بينهم الديكتاتور الكولومبي غوستابو روخاس بينيا، والإسباني فرانسيسكو فرانكو والفنزويلي خوان بيثنتي غوميث. وكان السؤال الذي يتردد: ما هو سر علاقة ماركيز مع الرئيس ميتران؟ هناك بالتأكيد جانب شخصي يتعلق بصداقة ربطت ماركيز مع ميتران، ووزير ثقافته جاد لانغ، ومستشاره الدبلوماسي ريجيس دوبريه، قبل وصول ميتران إلى الرئاسة العام 1981. وذات شتاء من العام 1987، كنت على موعد مع الكاتبة والرسامة ايتيل عدنان، في مقهى فلور في سان جيرمان في باريس، وصلت قبلها بقليل واخترت طاولة تشرف على الباب الرئيسي، وحين وصلت انهمكنا في الحديث، لكن بعد ربع ساعة أطل ميتران برفقته ماركيز وجلسا على الطاولة المقابلة لي، وأثار دخولهما حركة غير عادية في المقهى سرعان ما هدأت. وتناولا طعام الغداء وكانا يتحدثان بين صديقين تربطهما علاقة طويلة. وكان ميتران على أبواب الترشح لولاية رئاسية ثانية فاز بها العام 1988.

والصداقة بينهما بعيدة، ويعود جانب منها إلى كوبا، حيث كان ميتران مهتما بإخراج هذا البلد من عزلته ولم يكن الوسيط سوى ماركيز، الذي استخدم نفوذه وصداقته لدى زيارة فيليبي غونزاليس بعد فوزه العام 1982 من أجل مصالحة كوبا مع اسبانيا وأميركا اللاتينية. إلا أن صداقات ماركيز لم تكن فقط سياسية، بل حياتية، ويروي فيليبي غونزاليس أن علاقة ماركيز مع توريخوس شخصية، وكانا يتسامران ويقضيان عطلات مع بعضهما البعض. أما كاسترو فهو صديق كل الأوقات لماركيز، ويروي كاتب سيرة ماركيز جيرالد مارتن ان كاسترو تناقش مع انديرا غاندي في موسكو اثناء دفن زعيم الحزب الشيوعي السوفياتي ليونيد بريجنيف العام 1982 من أجل دعوة ماركيز لحضور مؤتمر عدم الانحياز، فأبدت إعجابها به، وقالت له أنها قرأت “مائة عام من العزلة” عندما فازت الرواية بجائزة نوبل.

ومن الواضح ان كاسترو احتاج الى ماركيز اكثر مما احتاج ماركيز إليه، فالكاتب كان صاحب علاقات واسعة سياسية وإعلامية وثقافية، وله تأثير كبير في الرأي العام داخل أميركا اللاتينية وخارجها، وبفضل وقوفه إلى جانب كوبا لعقود حصلت على تعاطف لا حدود له، ومن دون ذلك كان سيتحول كاسترو إلى نظام منبوذ بفعل الضغط الأميركي الكبير. ومن ذلك أنه نجح العام 1993 في إقناع حكومة بلده كولومبيا بإعادة العلاقات مع كوبا. وحتى وفاته العام 2014 بقيت تربطه علاقة خاصة مع خمس دول يتصرف حيالها كرئيس دولة، كولومبيا بلده الأصلي رغم أنه انقطع عن زيارته، كوبا، فرنسا التي اشترى فيها بيتاً في “مونبرناس”، أجمل أحياء باريس، اسبانيا، المكسيك التي كتب على أرضها “مائة عام من العزلة”، وهو يروي ان هذه الرواية ولدت بعد مخاض عسير وعدم قدرة على الكتابة لمدة خمس سنوات، إلى أن كتب الجملة الأولى بصعوبة بالغة “بعد سنوات عديدة، وأمام فصيل الإعدام رمياً بالرصاص، يتذكر العقيد أوريليانو بوينديا، ابن خوسيه أركاديو، بعد ظهر ذلك اليوم البعيد عندما اصطحبه والده لاكتشاف الثلج”. والمكسيك أيضاً هي البلد الذي مات على أرضها ماركيز في 17 نيسان العام 2014 عن 87 عاماً

*المدن