بشير البكر: علي الجندي.. طرفة في مدار السرطان

0

أرسل علي الجندي في العام 1981، قصيدة للنشر في مجلة “فلسطين الثورة” التي كانت تصدر عن الإعلام الفلسطيني الموحد في بيروت، تحت عنوان “البحر الأسود المتوسط”، لكنها خرجت في المجلة بعنوان “البحر الأبيض المتوسط”. لقد ارتأى المحرر أن يغير العنوان، ظناً منه أن الشاعر سها، ووضع الأسود محل الأبيض صفحة للبحر الذي يفصل أوروبا عن العالم العربي. وسقط هذا التصرف العادي من قبل المحرر، مثل حكم نقدي مسبق على القصيدة التي بقي الشاعر يشتغل عليها وقتاً طويلاً، واستغرق تركيب العنوان جلسات عديدة بين الجندي وأصدقاء في الشعر، إذ اعتاد كل من كتب قصيدة جديدة أن يدعوا بعض الأصدقاء على حسابه في أحد المطاعم، وهناك يقوم بالقراءة ويفتح باب النقاش واختيار العنوان، ليفوز من يصل إلى وضع العنوان بشرف ضيف السهرة المميز. وعلى اختلاف الحساسية الشعرية، فإن من أبرز المتبارين في ابتكار عناوين القصائد كان علي الجندي، وأقرب الأصدقاء إليه الشاعر ممدوح عدوان، وفي حين كان الجندي ينحو إلى الرمزية الفلسفية، كان عدوان مباشراً وحاداً.

لم يخمن المحرر أن الجندي أراد من العنوان أن يولد صدمة لدى القارىء، تأخذه إلى طقس آخر، مثلما أن الجندي أعتاد أن يكتب شعراً أسود يهجو الزمان الضيق، حيث لا مكان للشعر والشعراء. وهكذا تحولت القصيدة التي ولدت في سواد أيام دمشق إلى بيضاء في حبر المطبعة البيروتية الأسود. وإذاك أطلق الجندي واحدة من دعاباته: حتى حروف الطباعة تتآمر على الشعراء. ويومها زاد يقينه بأن السخرية السوداء غير ممكنة في عالم محاصر من كل الجهات، وأن البحر، سواء كان أبيض أم أسود، لا يفتح نافذة وسط ذلك الخراب.

علي الجندي، كأي شاعر حقيقي، مخلص للشعر وعابر للزمن، وهكذا كان يعيش الشعر ويكتبه، ولذلك تبدو قصيدته مسكونة بأرواح آتية من الماضي لتحيا في الحاضر المستمر، وعبّر عن ذلك في أشهر دواوينه “طرفة في مدار السرطان” الذي صدر في منتصف سبعينيات القرن الماضي. وفي هذا الديوان استحضر الجندي شاعراً منشقاً عن محيطه وزمنه، صاحب “ستبدي لك الأيام ما كانت جاهلا… ويأتيك بالأخبار من لم تزود”. وحين صدر ديوان الجندي هذا، أثار من حوله صدى كبيراً لأنه مكتوب بلغة جديدة وشكل جديد. صحيح أنه شعر تفعيلة، لكنه يوحي لمن ينظر إليه لأول وهلة أنه قصيدة نثر، وترسخ من هذا الانطباع اللغة والصورة الشعرية التي تذهب نحو منابع السوريالية لتغرف منها. وكان الجندي متأثراً بالثقافة الفرنسية وعلى معرفة واسعة بالنثر الفرنسي ورواده الكبار، مثل اندريه جيد الذي كان الجندي يحفظ مقاطع كاملة بالفرنسية من شذراته وتأملاته. واللافت هنا أن الجندي، رغم حماسه الشديد للحداثة في الشكل والمضمون، إلا أنه لم يكن على الموجة نفسها مع رواد قصيدة النثر العربية كأدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج، بل كان أقرب إلى رواد التفعيلة والمجددين فيها مثل بدر شاكر السياب الذي ربطته صداقة خاصة معه في خلال زيارات السياب وخليل حاوي (خليل حاوي كان من أصدقائي الأساسيين، كنا نقضي ساعات طويلة في التسكع.. وكثيراً ما نجد نفسينا في الهزيع الأخير من الليل. كان الأكثر أصالة… على مستوى إحساسه بحريته وبحرية الآخرين. كانت له علاقة مع “خميس شعر”، ثم ساءت لأنه كان يتحدث بالقومية، والعروبة. وهذا ما كان يحببني فيه). وصمد الجندي على هذا الخط حتى بلوغه الخمسين، ليبدأ بعض التجارب النثرية التي لم تكسر إيقاع التفعيلة، فنلحظ لديه، على غرار سركون بولص، تفعيلات عديدة في قصيدة واحدة، الأمر الذي يوحي بأن القصيدة نثرية وغير ملتزمة بأوزان بُحور الشعر المعروفة. وأغلب الظن أن تردد الجندي في كسر الحاجز، نابع من عدم قدرته الفكاك من جمالية الوزن في القصيدة العربية التقليدية، وخصوصاً الحمولة الغنائية والنوافذ المفتوحة التي تشرعها الغنائية العالية والبُعد الملحمي في الشعر العربي الموزون.

وكان الجندي شاعراً غنائياً وملحمياً بامتياز، وهو صاحب صوت شعري يأسر القارئ بفضل قدرته على السفر والرحيل بين الأزمنة كشاعر متجول لديه قابلية عالية لتقمص حالات يؤلف ما بينها التمرد والانشقاق، طرفة بن العبد، موسى بن نصير، قطري بن الفجاءة، غسان كنفاني… وهذا تعبير صريح عن موقف سياسي ثقافي من التاريخ والحاضر، ما يشكل موضوع دراسة لموقع وخلفيات الرمز في الشعر العربي الحديث. ويصح هذا بشكل كبير على رواد قصيدتي النثر والتفعيلة في سوريا ولبنان على وجه الخصوص، والمنابر الثقافية في الستينات، وتحديداً “مجلة شعر” التي كانت المنبر الأساس للحداثة. ويمكن التوقف عند موقف لافت يخص هذا الشاعر الذي شكل حالة فريدة في القصيدة الحديثة، وهي أنه من جيل الرواد زمنيا، لكنه لا يجري حسابه عليهم لجهة التصنيف المدرسي، رغم أن الجندي مؤسس وريادي على طريقته الخاصة. كان متمرداً على المدارس والتصنيفات والشِّللية، ويكتب خارج السياق العام، ليشق لنفسه مساراً خاصاً. ولأنه كذلك، فإن إنتاجه غير مترابط، بل بقي يعلو ويهبط في المنسوب، حسب تحولات مزاجه العام وحالته النفسية التي ارتبطت بالتطورات السياسية في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين، ووشحت نصوصه بألوان فجائعية. وكان ديوانه “الحمى الترابية” (الثالث بعد “الراية المنكسة”، و”في البدء كان الصمت”) الذي صدر العام 1969، بمثابة مرثية تحمل قدراً كبيراً من المكابرة “موتي أيتها النخلة ولا تنكسري”، وهي ميتة منذ ألف عام ويابسة، لكن الجندي يناديها من أعماق اليأس والهزيمة أن لا تنكسر.

كان علي الجندي شاعراً برياً، ويحلو له أن يسميه البعض منشقاً وخارجياً، قطري بن الفجاءة (الخارجي الذي طارت نفسه شعاعاً)، وبعيداً من كل الأسراب والطيور، ولذا لم يتحول إلى شاعر داجن ولم تتمكن اغراءات ذلك الزمن المفتوح في الستينات الذي شهد انفجار الحداثة والحرية الاجتماعية أن تروضه وتجعل منه كاتباً وفق معايير السائد. وظلت هذه الروح المسافرة ترحل من حالة إلى أخرى، ومن مناخ شعري نحو آخر، حتى رحيله في اللاذقية العام 2009، بعيداً من مسقط رأسه مدينة سلمية (السيول تجتاح السلمية) ودمشق التي أمضى فيها الشطر الأكبر من حياته.

كانت الحياة في الشعر تعنيه أكثر من الشعر في الحياة (أردت أن أعيش، وعشت كما أردت. كنت استسفه أن أقدم نفسي كما يقدم الشعراء أنفسهم… كمن يحمل على صدره نياشين بطولة. بل إنني كنت أخجل من تقديم نفسي كشاعر). ولذلك عاش حياة بوهيمية (كنت مُقلاً في النشر لأنني كنت مشغولاً بالحياة وممتلئاً بضجيجها ومتعها وجمالها). وكتب نصاً يعكس نظرته الخاصة إلى الوجود، لكن هذا النص يكاد يكون المعبّر عن حياته الخاصة بوصفه شاعراً خارج السرب ومن فصيلة الشعراء الملعونين. وهذا ما حفظ له مكاناً مختلفاً في الشعر السوري، ورغم أنه لم يكن من الشعراء الذين يشتغلون كثيراً على تسويق أنفسهم، فإن من كان يقصد دمشق من كتّاب وصحافيين من داخل سوريا وخارجها، كان لا بد أن يلتقي علي الجندي، ويتسامر معه. لذا، كانت علاقاته اللبنانية والعراقية والفلسطينية أوسع منها في داخل سوريا، وفي غالب الأوقات التي كنا ندخل فيها منزله، كانت الموسيقى التي يسمعها عراقية من أغاني الياس خضر وسعدون جابر وحسين نعمة، ويذهب للحديث عن كلمات الأغاني وشعرائها، ومعه تعرفنا على الشاعر الشعبي عريان السيد خلف، الذي غنّت له غالبية الفنانين المعروفين، وربما يعود ذلك إلى أصول علي الجندي وميلاده في السلمية بوابة البادية السورية نحو الداخل.

وربطت علي الجندي علاقة خاصة بجيل الشعراء الشباب، جيل السبعينات، ولم يكن متردداً مثل غالبية أبناء جيله أو متحفظاً تجاه هذه العلاقة التي طغى عليها الجانب الشخصي، لكنها في العمق علاقة ثقافية سياسية. وانعكس ذلك في مواقف علي الجندي من مسألتين أساسيتين. الأولى قصيدة النثر، الهاجس الأساس لجيل السبعينات الذي طرح نفسه في الساحة الشعرية بقوة في سوريا والعراق ولبنان. والمسألة الثانية الموقف السياسي من نظام الحكم، وكان الجندي في صف المعارضة الراديكالية في ما يتعلق بالعناوين الرئيسية الداخلية أو العراق ولبنان وفلسطين (لم ألتزم يوماً ولم أمارس العمل السياسي، لكني كنت قريباً من المقاومة والعمل الفدائي… وفي شعري ما يظهر ذلك، خصوصاً قصيدتي عن اغتيال القادة الثلاثة كمال عدوان، وكمال ناصر، والنجار ). وفي الحالين ترك موقف الجندي أثره في الحياة الثقافية والسياسية، وهذا ظهر جلياً من خلال مواقف المؤسسات الرسمية منه، والتي نبذته، واشتغلت على تهميشه وحجب الأضواء عنه، ولذلك مات فقيراً، ولم يكن يملك في آخر أيامه ما يساعده على أن يعيش حياة كريمة.

ومن أهم المحطات في تجربة علي الجندي الشعرية هي تعرفه إلى بدر شاكر السياب، وقد سرد علينا، نحن أصدقاءه من الكتّاب الشباب، الكثير من القصص عن تجاربه وعلاقاته في بيروت حين سكن مع غسان كنفاني في البيت نفسه، ومراسلاته مع البياتي الذي يستظرف شخصه ولا يميل كثيراً إلى شعره بالقدر الذي يستهويه شعر السياب. وحادثة تعرف الجندي إلى السياب في منتهى الغرابة، وتمّت عبر الشيخ دحام الدندل، أحد مشايخ عشيرة العكيدات في مدينة البوكمال في محافظة دير الزور. وروى أن علاقته بالسياب بدأت حين بدأ يقرأ له، “وفي العام 1948 أو 1949 تعرفت – بالمراسلة – إلى السياب. كان لي صديق هو دحام الدندل يعرف السياب، وأبديت رغبتي في التعرف إليه، فقال تعال نكتب له. وكتبنا رسالة شعرية فيها تنكيت على السياب، فردّ علينا برسالة أكثر سفهاً مما توقعت، وبعد فترة من تلك الرسالة، التقيت بالسياب في بيت غسان كنفاني حين كنت أسكن معه. قبل ذلك، كان غسان يأتي إلينا من الكويت إلى الشام، ونسهر ونقضي وقتاً معاً. وكانت حواراتنا مع السياب من أكثر الحوارات متعة”. وقال الجندي في أحد أحاديثه المنشورة “علاقتي بالسياب كان فيها شيء مأسوي. يأتي إلينا في الشام، نجتمع عند صدقي إسماعيل غالباً. وأذكر حين قرأ علينا قصيدته الشهيرة ” أنشودة المطر ” بصوته القوي الذي لا يتلاءم مع نحوله. ومرة كنت أجلس في مقهى البرازيل، فرأيت سيارة تتوقف، وهبط السياب وزوجته. كان يتكئ عليها حتى تكاد تحمله. كان جسمه يتأرجح كما لو أنه مجموعة من الخرق البالية. وكان المشهد مأساوياً حد البكاء. وآخر مرة رأيته حين جاء إلى إذاعة دمشق وطلب أن يراني، فنزلت من مكتبي، فوجدته يتوكأ على عكازين لأن رجليه ما عادتا تحملانه. وذهبنا – وكانت زوجته وابنه معه – إلى مطعم الوادي الأخضر في الربوة، فكان يتأمل المكان والمناظر الطبيعية كأنما يخاف أن لا يراها ثانية، كأنه كان يودع. بعدها مات في الكويت، ودفن في بغداد ولم أعرف بذلك إلا بعد مدة”.

علي الجندي حالة تختزل مرحلة الستينيات في شرق المتوسط المفتوح على العالم عبر بيروت. وكما انطفأت تلك الفترة مثل حلم خائب، رحل هذا الشاعر، ولم يحفل بغير الرثاء. وما كتبته الصحافة عنه في مماته يعادل بأضعاف ما حظي به من تقدير واحتفاء.

وإني متعب من شدة الوجل

وهذي الأرض صارت جنة مسكونة بالموت..

يا حفارة القبر الجديد تمهلوا شيئاً،

فها هو مقبل يمشي على مهل

وإني شاعر أن البلاد تضيق،

تغدو في قياس القبر.

*المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here