حين ذهب عبد القادر عبد اللي إلى اسطنبول للدراسة في بداية ثمانينيات القرن الماضي، اختار الفنون التشكيلية في جامعة “معمار سنان”، التي تخرج فيها العام 1985، وعاد إلى مدينته إدلب ليعمل مدرساً للفنون التشكيلية. ولم يختر الدراسة والعمل في هذا الميدان اعتباطياً، بل عن حب مبعثه موهبة الرسم التي كان يتحلى بها. ورغم أنه لم يتفرغ للرسم، فقد أنجز العديد من اللوحات ذات الأسلوب السوريالي، وأجواء أعماله قريبة ومتأثرة إلى حد كبير بسالفادور دالي. والسبب في أن عبد اللي لم يكمل مشواره مع اللوحة التشكيلية، هو أن الترجمة من اللغة التركية إلى العربية اعترضت طريقه وشدته نحوها، ومن المؤكد أنه تعرف على الأدب التركي خلال دراسته الجامعية في اسطنبول، وراودته الترجمة في وقت كانت فيه المكتبة العربية شبه فارغة من الكتابات التركية الجديدة، ولم يكن القارئ العربي يعرف سوى الشاعر ناظم حكمت والروائي يشار كمال.
لذا، يعود الفضل إلى عبد اللي أنه عرّف القارئ العربي على جانب مهم من هذه الثقافة التي بقيت، رغم الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك المديد، مجهولة كلياً حتى فترة التسعينيات من القرن الماضي، وفتح الطريق واسعاً للترجمة منها. وحتى رحيله في العام 2017، كان قد أنجز ترجمة 80 كتاباً، وتقديراً لجهده الكبير حاز تكريماً من جائزة الشيخ حمد للترجمة في الدوحة العام 2015.
وكانت بداية عبد اللي من الكاتب التركي القاص والروائي عزيز نيسين (1915-1995)، الذي يعده البعض موليير الأدب التركي، فهو كاتب ساخر من الطراز الرفيع، عاش حياة مأسوية. ماتت والدته في سن السادسة والعشرين وتركته طفلاً. ودخل السجون مرات عديدة، ونُفي، بسبب مواقفه المعارضة، إذ كان من المحسوبين على التيار التقدمي. وتعلق عبد اللي على نحو خاص بنيسين، ونقل قسماً من أعماله للعربية، وكانت بدايته في الترجمة مجموعة “في إحدى الدول” التي صدرت العام 1987 عن اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا ومجلة “لوتس”، التي كان مقرها في تونس بإشراف الإعلامي والروائي الفلسطيني زياد عبد الفتاح، وتلتها رواية “زوبك”، أصدرتها “دار الأهالي” التي أسسها السياسي والمثقف الراحل حسين العودات في دمشق، وأصدرت الدار من هذه الرواية أكثر من عشرين طبعة، وكونها لاقت نجاحاً كبيراً تحولت إلى مسلسل “الدغري”، من عشرين حلقة، سيناريو رفيق الصبان وإخراج هيثم حقي. وصدر هذان العملان بترجمة عبد القادر عبد اللي وصياغة الكاتب خطيب بدلة، صديق عبد اللي وابن المنطقة نفسها في إدلب. وساعد بدلة، عبد اللي، على مستوى الصياغة، كونه أكثر إلماماً بالعربية، لكن عبد اللي أقلع بعد هذين العملين لوحده، وعلى نحو مثير للإعجاب، فبات مرجعاً في ترجمة الأدب التركي. ويعود السبب في ذلك إلى أنه تفرغ للترجمة، فعمل على لغتة العربية التي أصبحت مع الوقت من بين أفضل لغات المترجمين العرب المتخصصين في الترجمة من دون لغة وسيطة، مثل صالح علماني الذي تخصص في الترجمة من اللغة الأسبانية، وشكل لنفسه قاموساً خاصاً.
وكانت مهمة عبد اللي تُعدّ صعبة جداً، نظراً إلى صعوبة اللغة التركية ذاتها، سواء على مستوى قاموسها أو بنائها، لكن إتقان عبد اللي لها جعله ينال اعترافاً وتقديراً من المتخصصين في هذا الميدان. حتى أن الكاتب التركي صاحب نوبل (2006)، أورهان باموك، تواصل مع دار “الشروق” المصرية، وطلب منها اعتماد عبد اللي حصرياً لترجمة أعماله إلى العربية. وما كان باموك ليتخذ هذا القرار لولا دراسة دقيقة لترجمات أعماله الكثيرة إلى العربية. كما تواصل مع عبد اللي واستقبله العام 2015، واحتفى به تقديراً لجهده في هذا المجال. ومن أصعب أعمال باموك التي نقلها عبد اللي إلى العربية، رواية “إسمي أحمر” الصادرة بالتركية العام 1998، وبالعربية العام 2000، وهذا زمن قياسي بالنسبة إلى رواية من الحجم الكبير، معقدة على مستوى العوالم وبناء الشخصيات والموضوع الذي يحتاج إلى إحاطة كافية بفنون الخط والنقش (الرسم في ذلك الزمن)، كون الرواية تدور في فترة من عمر الإمبراطورية العثمانية. وبالتالي فهي تتضمن قدراً كبيراً من المعلومات التاريخية والأدبية عن النقش والناقشين وفكرة الشعوب في ذلك الزمن، وجدلاً حول الموقف الإسلامي من التصوير والرسم، وصراعاً بين فن النقش الإسلامي المتمثل في المُنَمْنَمَات وبين أسلوب الغرب المتمثل في التشخيص والأسلوب، ويقود ذلك إلى الصراع بين القديم والجديد الذي ينسحب على ميادين أخرى في مدينة اسطنبول عاصمة الإمبراطورية، ويصل الأمر إلى تحليل وتحريم القهوة.
ويشكل نجاح عبد اللي في ترجمة هذا العمل، عملية متعددة الأبعاد، تتجاوز نقل عمل من لغة إلى لغة، إلى نقل عالم الرواية المعقد واختيار عربية تناسب لغة العمل، وهذا يفسر الإقبال الشديد على عبد اللي من قبل مدبلجي المسلسلات التركية إلى العربية، والتي عرفت ازدهاراً كبيراً خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وقد تدخل في أحد هذه المسلسلات من خلال تحوير الاسم التركي “gümüş” (فضة)، إلى “نور”، واشتغل عبد اللي على ترجمة مسلسلات عديدة اكتسبت شهرة بالعربية مثل “وادي الذئاب”.
والحال أن ذلك كله شغَله، وأبعده من الرسم. ويقول أصدقاؤه، ومنهم خطيب بدلة، إنه كان يتألم من أن عمل الترجمة لم يترك له وقتاً للرسم. وتعبيراً عن التصاقه بهذا الميدان، وكي لا يفرط في هذه الموهبة، استمر في كتابة النقد التشكيلي في صحيفة “السياسة” الكويتية 1997-1998، وجمع المقالات في كتاب صدر بعنوان “فرشاة”.
وعبد اللي ترجم بنجاح، من التركية إلى العربية مباشرة، وليس عبر لغة وسيطة، رغم أنه لم يدرس الترجمة، وهذا يدل على حبه للغة والثقافة التركيتين، وبالتالي فإن درجة الأمانة عالية، وهذه نقطة تسجل لصالحه، وفي فائدة الأعمال التي ترجمها، والقراء العرب الذين صاروا يعرفون عبر ترجماته كبار الكتاب الأتراك مثل عزيز نيسين، وأورهان باموك، ويشار كمال، وألبير اروطايلي، بالإضافة إلى خلدون طانر الذي يعتبره الأتراك أبا المسرح، وقد ترجم له “أعمل عملي مغمض العينين”، و”ملحمة علي الكاجاني” التي صدرت عن سلسلة “عالم المسرح” الكويتية. ورغم كل ما قام به عبد اللي، لم يحظ بالتكريم والتقدير اللائقَين من قبل المؤسسات العربية (باستثناء جائزة الشيخ حمد للترجمة) والتركية، وهذا تقصير لم ينل من عبد اللي وحده، بل ينسحب على غالبية العاملين في الميدان، شرقاً وغرباً. ومن اللفتات الطيبة تجاه عبد اللي، ما قام به صديقه المترجم من العربية إلى التركية، محمد حقي صوتشين، الذي أعد كتاب “تركيا بعيوني”، وهو عبارة عن مقالات كتبها عبد اللي عن تركيا، أصدرته دار ميسلون للطباعة والنشر والتوزيع، العام 2018، بمناسبة مرور سنة على وفاته. وهذا العمل يمثل وفاءً للصداقة وإدراكاً لقيمة الترجمة كجسر للتواصل بين الشعوب والأمم وثقافاتها، وحاجة الجميع إلى الانفتاح ومعرفة بعضهم البعض. ويشار أيضاً إلى إطلاق اسمه على جائزة للترجمة عن التركية، في مبادرة لدار موزاييك، اعتباراً من سنة 2021.
والجدير بالذِّكر أن عبد القادر عبد اللي، كتب في “المدن” لسنوات قبل رحيله، مقالات، في الشأن السياسي التركي، وكانت تجربة متميزة، قدم خلالها قراءته العميقة والممتعة لمجال لا يتسنى للكثير من القراء العرب الاطلاع عليه بهذه الطريقة المحترفة والعارفة.
كما تجدر الإشارة إلى أن عائلة عبد القادر تعرض لمضايقات. فكان ابنه الأكبر محمد، وابنته إنانا، يخضعان لتدقيق أوراق في وسائل المواصلات على طريق قدسيا، حيث كانت العائلة تقطن، وكان مكان الولادة “إدلب” مشكلة في حد ذاتها. وبعد فترة، وصلت الى العائلة تنبيهات تفيد بأن إنانا تخرج في تظاهرات، وأنهم صوّروها، ويعرفون أن والدها يعمل مترجماً لرئيس الدولة من اللغة التركية. والأخطر، أن زوجة مترجم القصر الجمهوري عن الإنكليزية، اتصلت، وأبلغت العائلة أنهم استدعوا زوجها، ولم يعُد. عندئذ قررت عائلة عبد اللي المغادرة إلى لبنان، حيث أمضت 12 يوماً، وغادروا بعدها إلى تركيا، فمكثوا لدى شاعرة تركية صديقة (سريّا فلز) لفترة. لكن أمل العودة إلى سوريا بقي قائماً، خصوصاً أن الأولاد كانوا يضغطون في هذا الاتجاه. عادوا إلى دمشق، وكانت الأوضاع قد باتت معقدة جداً، فغادروا مجدداً إلى لبنان، واستقروا لدى خالة عبد القادر، ثم عند صديق من بلدة بنش، ثم انتقلوا إلى أنقرة، ولم يعودوا بعدها. وأصيب عبد القادر بالسرطان، ورحل في 3 آذار/مارس 2017.
حاشية
على خُطى الوالد الراحل المميز، يسير ابنه الشاب محمد الذي تأثر بوالده. ورغم أنه ما زال في البدايات، فقد ترجم ثلاثة أعمال روائية حتى الآن، والتقديرات الأولية تشير إلى مستقبل لامع له في الترجمة من التركية إلى العربية. ومن المؤكد أن توجه الشاب للترجمه هو بتأثير من الأب الذي نقل إلى ابنه هذا الحب، إلا أن شعور الشاب برحيل والده المبكر (عن 60 عاماً)، وعلى جدول أعماله قدر كبير من الأعمال التي تستحق الترجمة، حرّضه على توجيه هذه تحية العملية الدائمة إلى الأب الذي قدم خدمة كبيرة للغتين العربية والتركية.
*المدن